بين علماء الداخل والخارج أزمة البحث العلمي العربي

بين علماء الداخل والخارج أزمة البحث العلمي العربي

البحث العلمي في العالم العربي يحتاج إلى بحث علمي. هذا هو الاستنتاج النهائي الذي أسفرت عنه "ندوة البحث العلمي في العالم العربي وآفاق الألفية الثالثة".

عقدت الندوة من 24 إلى 26 إبريل، ونظمتها جامعة الشارقة في الإمارات العربية المتحدة، وشارك فيها (300) عالم وباحث علمي من داخل العالم العربي وخارجه. معظم علماء الخارج جـاءوا من الولايات المتحدة الأمريكية، وبينهم أسماء معروفة على الصعيد العالمي، مثل فاروق الباز (مصري الأصل)، مدير مركز الاستشعار عن بعد في جامعة بوسطن، وعضو الفريق العلمي لبعثة "أبولو" التي هبطت على سطح القمر، وفخري البزاز أستاذ الأحياء في جامعة هارفرد وعضو أكاديمية العلوم والآداب الأمريكية، ويعتبر من ألمع الخبراء في تأثير تغير المناخ في النباتات والزراعة، ومنير نايفة (فلسطيني الأصل)، أستاذ الفيزياء في جامعة إيلينوي، وأول من قام بتحريك الذرات المنفردة، وبين علماء وباحثي الداخل أسماء معروفة على الصعيد العربي مثل علي الشملان، رئيس مؤسسة الكويت للتقدم العلمي، ووزير التعليم العالي سابقاَ، وعمرو الأرمنازي، مدير عام مركز الدراسات والبحوث في سوريا، وحسن منصور عميد كلية الزراعة، في جامعة عين شمس في مصر، وعبدالله باخريبة، نائب رئيس جامعة الملك فهد في الظهران، ومروان كمال الأمين العام لاتحاد الجامعات العربية.

وأضفى اختلاف الأصول والمستويات والتخصصات على جلسات الندوة حميمية خاصة لم تخل من توترات. سبب بعض هذه التوترات الحواجز اللغوية بين علماء الخارج الذين قدم معظمهم أوراقه بالإنجليزية وعلماء الداخل الذين شدد بعضهم على ضرورة الحديث بالعربية وانتقدوا استخدام لغات أخرى داخل الندوة. لكن تصادم التصوّرات والمعتقدات واللغات لا يؤدي إلى كارثة في اللقاءات العلمية، بل ينتج فرصاً جيدة، والفرص التي قدمتها ندوة الشارقة فريدة من نوعها، وأهمها المبادرة إلى إنشاء أول مؤسسة من نوعها تجمع بين علماء الداخل والخارج، أطلق عليها اسم "المؤسسة العربية للعلوم والتكنولوجيا" وانتخب لرئاسة المؤسسة الجديدة عالم الفيزياء الشاب من الإمارات الدكتور عبدالله النجار، وهي تختلف عن مؤسسات سابقة أنشأها العلماء المغتربون، فهي تنطلق من داخل العالم العربي وتقوم على قاعدة مادية تؤمن لها نفقات إنشائها والبدء بتنفيذ برامجها. واختتمت الندوة بإعلان رئيس جامعة الشارقة عصام زعبلاوي عن تبرع حاكم الشارقة الشيخ سلطان بن محمد القاسمي بمبلغ مليون دولار من ماله الخاص لهذا الغرض. وتبدو جميع الظروف مواتية للمؤسسة الجديدة. فالشارقة تعمل على أن تصبح العاصمة الثقافية والعلمية لدولة الإمارات العربية المتحدة، وقد أنشئت فيها مدينة جامعة تضم جامعات عدة بينها "الجامعة الأمريكية"، وحاكم الشارقة يحمل شهادة دكتوراه من بريطانيا ويحاضر في جامعة الشارقة، إضافة إلى عمله عضوا في المجلس الأعلى للإمارات الذي يعتبر السلطة العليا في الدولة.

توقعات القرن 21

ويعتبر الربط بين العلوم والتكنولوجيا في اسم المؤسسة الجديدة، كما في أعمال الندوة التي أنشأتها عن الميل العربي التقليدي إلى العملية ذات النفع المباشر. ظهر هذا في بحث رئيسي في الندوة قدمه بالإنجليزية عبدالهادي العتيبي، المدير العام لـ "معهد الكويت للبحث العلمي"، انتقى البحث التطورات في ميادين مهمة لبلدان الخليج العربي، وهي الطاقة والبيئة وعلوم الحياة (بيولوجي)، والمعلومات والاتصالات والمـواد وإنتاج الغذاء والماء. وأكد العتيبي أن الثورة التكنولوجية الحالية ستستمر لعقود عدة قادمة، وستلعب التكنولوجيا دوراً حاسماً في التمييز بين الناس والدول. وتناول البحث بالتفصيل الأولويات التكنولوجية الخاصة بدول الخليج العربي، وعلى رأسها تكنولوجيا الطاقـة، وذكر أن التطورات الجديدة في هذا المجال تجري في تكنولوجيا استكشاف الموارد النفطية، والمصافي، وتكنولوجيا خلايا الوقود، والبطاريات الكهربائية عالية الشحنات، وآليات الاحتراق الداخلي. وتأتي علوم الأحياء (البيولوجي) في المرتبة الثانية من الأهمية بعد الطاقة بالنسبة لدول الخليج العربية، فهذه العلوم تمهّد الطريق الآن لتكنولوجيات تنتج نباتات قابلة لتحمّل الحرارة العالية والمياه المالحة، وبواسطتها يتم تصميم نباتات وفق مواصفات ملائمة لظروف منطقة الخليج القاحلة والجافة.

بعض هذه النباتات ينتج أدوية وأمـصـالاً لمقاومة الأمراض وأغذية صحية لإطالة العمر ومقاومة الشيخوخة. وتم التوصل إلى تكنولوجيا "النباتات البلاستيكية" التي تنتج مواد بلاستيكية قابلة للتحلل عضوياً ولا تترك آثاراً ضارة بالبيئة، وتحل هذه النباتات محل ملايين الأطنان من المواد البلاستيكية التي يتم استخراجها حالياً من النفط والغاز والفحم. وتضع بلدان الخليج العربي الاستنساخ ضمن أولويات برامجها العلمية، فالاستنساخ يولّد سلالات حيوانية قادرة على تحمّل ظروف المناخ والبيئة الخاصة بالمنطقة، كما ينتج الاستنساخ أنواعاً من حيوانات الماشية قليلة الشحوم وخالية من مواد الكولسترول الضارة بالصحة، ويضاعف الثروة الحيوانية. ويتوقع المدير العام لـ "معهد الكويت للبحث العلمي" أن تحقق التكنولوجيات الحيوية الخاصة بحماية البيئة وإزالة آثار التلوث النفطي وتنقية المياه الصناعية مبيعات بمليارات الدولارات في الأسواق العالمية. ويدعو إلى دخول هذا الميدان عن طريق إنشاء شركات صناعية صغيرة تعمل بالمشاركة مع المراكز العلمية المرموقة، أو ما تسمى بـ CENTERS OF EXCELLENCE، العاملة في هذه الميادين، ويؤكد على وضع الخطط لتجنيد وتطوير كفاءات علمية وتكنولوجية متخصصة بذلك، وإنشاء حاضنات تكنولوجية لاحتضان الابتكارات وتوفير الموارد المالية لتحقيقها.

ويتوقع عبدالهادي العتيبي مفاجآت أكبر للعالم العربي تحققها تكنولوجيا المعلومات والاتصالات، وتطورات تفوق الخيال تطلقها مضاعفة قوة الحاسوب ضعفين كل سنة أو 18 شهراً. وتملك جميع بلدان المنطقة كفاءات قادرة، رغم عددها القليل نسبياً، على الاستفادة من تكنولوجيات الألياف الضوئية والليزر والمجسات الإلكترونية. وتوضع الخطط الآن لإقامة ورشات عمل وتنظيم دورات ومؤتمرات علمية مع المراكز العالمية المرموقة. وتحتل بلدان الخليج مواقع مهمة في تطوير تكنولوجيا تحلية مياه البحر، التي تعتبر رائدة فيها، ويكشف العتيبي عن أن هذه التكنولوجيات وفرت مياها للشرب في الكويت يبلغ حجمها بالمعدل ألف متر مكعب سنوياً بالنسبة للفرد من السكان، في حين لا يزيد هذا المعدل على (300) متر مكعب في إسرائيل.

العلم والتكنولوجيا

والعلم، كما كان يقول عالم الفيزياء وارنر هايزنبرغ، يمهّد الميادين للتكنولوجيا، هذه سمة معظم بحوث الندوة العلمية التي زاد عددها على (220) بحثاً. انتظمت البحوث ضمن ثمانية محاور تراوحت مواضيعها ما بين البحث العلمي والتنمية الاجتماعية والاقتصادية ودعم الباحثين، ومواضيع علمية دقيقة كالطاقة والمواد الجديدة والتكنولوجيا الحيوية والمعلومات والاتصالات والتحكم والسيطرة. وتنوعت الأوراق العلمية المقدمة ما بين"صناعة النباتات الطبية" وقدمها داود العيسوي من جامعة البحرين، و"توطين الإبداع العلمي وبيئة البحث في المؤسسات الأكاديمية"، قدمتها شفاء عبدالقادر نائبة عميد كلية التربية في جامعة عدن في اليمن، و"دور الآليات القانونية في التقريب بين متطلبات الإنتاج وتوجهات البحث العلمي" وقدمتها رجاء ناجي، أستاذة القانون الخاص في جامعة محمد الخامس في الرباط في المغرب.

وركّزت الأوراق على تجارب مهمة مثل "سياسة البحث والتطوير في ألمانيا" لناصر البسام من ألمانيا، و "تقييم إنتاج مزرعة رياح في جزر الكناري" لمحمد الأمين ولد فاجل من جامعة نواكشوط في موريتانيا، و "دراسة حول معالجة المواد الخام المحلية الصخرية والفخارية واستخدامها في صناعة الكهرباء" للأستاذة ليلى صالح العلي من جامعة الموصل و"إعداد القاموس الآلي" لنور الدين الشهلالي الأستاذ في جامعة عبدالملك السعدي في المغرب، و "تكنولوجيا المعلومات والاتصالات في التعليم العالي" لعمرو عزوز خبير اليونسكو، و "أتمتة المصارف" لمعن نجار من جامعة دمشق، و"الهوائيات قليلة الكلفة لأجهزة المعلومات" لعمر رمحي من شركة صناعات الكمبيوتر الأمريكية "كومباك" في الولايات المتحدة، و"قاعدة البيانات الخاصة بمجلات الباحثين ومواقع البحث العلمي على الإنترنت" لجاكلين ترولي، من معهد المعلومات العلمية (ISI) في فيلادلفيا في الولايات المتحدة، و"استخدام تكنولوجيا تحدد المواقع بواسطة الأقمار الصناعية للأغراض الزراعية في الشرق الأوسط" لعرفان أحمد من جامعة أمهرز، في أوهايو في الولايات المتحدة الأمريكية.

التفكير والرؤية

وفي تقييم حركة البحث العلمي في العالم العربي (المهم ليس رؤية ما لم يره أحد بل التفكير في ما لم يفكر فيه أحد بعد عمّا يراه كل إنسان) هذه العبارة المجنحة لعالم الفيزياء المشهور أروين شرودنفر قد تصوّر معضلة البحث في البحث العلمي في العالم العربي. إحصاءات محيّرة بهذا الصدد عرضها في ندوة الشارقة الدكتور طه تايه النعيمي، الأمين العام لاتحاد مجالس البحث العلمي العربية، فأرقام عدد مراكز البحث العلمي تتفاوت وفق التقارير المختلفة ما بين 531 و 648 مركزاً. كما تختلف الأقطار العربية في عدد مراكز البحث العلمي، حيث لا يوجد في بعض البلدان العربية أكثر من مركز واحد، في حين يوجد في مصر أكثر من 70 مركزاً.

أما تمويل البحث العلمي الذي يعد من أهم مقومات البحث العلمي وتطوّره، فمازال مبتدئاً في عموم العالم العربي، ويكاد يقتصر على التمويل الحكومي، وتشير الإحصاءات إلى أن نسبة الإنفاق على أنشطة البحث العلمي سجلت انخفاضاً ملموساً من حوالي 0.3 في المائة من إجمالي الناتج المحلي عام 1978 إلى حوالي 0.16 في المائة عام 1996. وهي نسبة متدنية جداً إذا ما قورنت بنسبة 46% في المائة كمعدل في الدول النامية، ونحو 2.5 في المائة في الدول المتقدمة، و 5 في المائة في كوريا الجنوبية.

مقابل ذلك، حقق عدد الجامعات في العالم العربي قفزات لا مثيل لها في العقدين الأخيرين من القرن العشرين، إذ تضاعف عددها أكثر من مرتين من 64 إلى 184 جامعة، وفي حين تقل نسبة عدد الجامعات التي تأسست خلال عقدي الخمسينيات والستينيات عن واحد في المائة من مجموعها الآن، فإن 65 في المائة من الجامعات العربية تأسست خلال عقدي الثمانينيات والتسعينيات.

هل يمكن أن يحقق البحث العلمي في العالم العربي قفزات مماثلة لعدد الجامعات العربية؟ الجواب عن هذا السؤال قد تقدمه "المؤسسة العربية للعلوم والتكنولوجيا" التي تسعى إلى أن تقوم بدور حلقة الوصل بين منتجي الأبحاث ومستخدميها وجهات دعمها وتمويلها العربية والدولية، وأن تكون الوسيط بين العلماء والباحثين العلميين داخل وخارج العالم العربي، وبينهم وبين مراكز ومؤسسات البحث في الداخل والخارج. يتكون الهيكل الارتكازي للمؤسسة الجديدة من شبكة معلومات واتصالات إلكترونية متعددة الوسائط والمستويات، تقوم الشبكة بدور الآلة المنتجة للمعلومات والمعرفة، وتربط بـين منتجي الأبحاث ومستخدميها، وتتولى وظائف ا لاتصالات ومعالجة المعطيات وحفظها ونشرها، وتبادل البريد والوثائق عبر الشبكة العالمية World Wide Web.

 

محمد عارف

 
  




حاكم الشارقة د. سلطان بن محمد القاسمي (في الوسط) في افتتاح ندوة البحث العلمي في العالم العربي





الحضور في افتتاح ندوة البحث العلمي في العالم العربي





فاروق الباز يتوسط جلسة في ندوة البحث العلمي في الشارقة





منير نايفة رئيس جمعية العلماء والتكنولوجيا في الخارج





د. عبدالله النجار رئيس المؤسسة العربية للعلوم والتكنولوجيا