باحث عن الحب

باحث عن الحب
        

          انتظر سنوات عدة، كثيرة، طويلة، ليجد ما كان يبحث عنه، إلى أن انتهت تلك السنوات ووصلت إلى طريق مسدود، وانغلقت على نفسها؟ رأى أن لا سبيل إلا أن يجد ما كان يبحث عنه، هنا تملّكه العجب والاستغراب لعدم إيجاده شيئًا، عندئذ تحرّك، سار مسرعًا، ثم ركض، تبعته رياح، وصل إلى المكان، إلى منزل، إلى عيادة، طرق الباب، كان صباحًا باكرًا.

          - مَن؟..أنت؟ ما بك؟ النهار لم يبدأ بعد.. ادخل.. أنت تلهث.. ماذا حصل لك؟

          - آه.. آآه..

          - وبعد الآه.

          - اعذرني.. لمجيئي هكذا.. دون موعد.. أنا أعلم أنك..

          - قلت ما بك.. ماذا تشعر؟

          - دكتور، منذ سنوات البحث، ولا أعلم عن ماذا البحث، ضاقت بي السنوات ورمتني لأصل إلى عندك، أنا أعلم أنك لن تؤاخذني على مجيئي في هذه الساعة دون موعد، وتابع مبتسمًا: أنت طبيبي منذ..

          الطبيب: منذ سنين.. صرت أعرفك أكثر مما تعرف نفسك.

          - تعرف جسدي ومشاكله..

          - وحالاتك النفسية أيضًا.

          - ليس كلها.

          - لا.. قلت حالات.. بعض الحالات، ربما بعضها فلتَتْ منّي واستعصت عليّ.. ولم أعرفها بعد.

          - ستعرفها الآن.

          - أخبرني كل شيء، هنا فتح الطبيب دفترًا سميكًا، غلافه أزرق باهت، وأخذ يقلّب صفحاته ويقرأ بعضها، والسكون خيّم على الغرفة، والزائر ينظر إلى الحائط المزيّن بشهادات الطبيب، وإلى لوحة مائية تمثّل زهورًا ومزهرية، ألوانها بائخة وهو لم ير منذ أن تعرّف على الطبيب غير تلك الألوان، كان يهمس إلى نفسه أن اللوحة رسمت بهذه الألوان التي لا لون لها، ويتخيّل المريض الذي أهدى الطبيب هذه اللوحة التي أصبحت من محتويات الغرفة، ابتسم وفكّر أن الغرفة أو مكتب الطبيب سيكون ناقصًا إن اختفت يومًا هذه اللوحة وزهورها ومزهريتها وألوانها البائخة، وهو غائص بأحلامه، أيقظه الطبيب سائلاً:

          - أخبرني.. ماذا شعرت.. ماذا تشعر؟ لماذا أتيت الآن؟ أهلاً وسهلاً.. ولكن.. قل لي.. ثم وضع آلة الضغط على ذراع الزائر.. بعد لحظات نظر إليه قائلاً: ليس عندك ضغط، ضغطك طبيعي.

          - كم؟

          - ثلاثة عشر على سبعة.. هذا جيد.. الآن.

          - نعم.. يا حكيم.. قلت إنك تعلم كل شيء عني وعن جسدي ونفسيتي.. و.. و.. و.. أنفاسي..

          - نعم.

          - منذ سنوات وأنا في حيرة.. نهارًا ليلاً. لا أستطيع أن أبقى دقيقة لوحدي حتى ينتابني شعور بأني لا أجد ما يهمّني.. أو ماذا أريد.. أو ماذا أرغب.. أشعر أني فارغ من أي إحساس، وأني مرفوض من الجميع، أشعر بخوف مفاجئ.. دكتور.. الشيء الوحيد الذي أتقنه هو الصبر.. وأن حالتي هذه ستنتهي يومًا وأستريح، لكن هذا اليوم لم يأتِ بعد.. وأتساءل.. وأخاف أني سأنتهي أنا قبل مجيء هذا اليوم.. يوم الفرج.. أتيت إليك يا حكيم للمساعدة. علّك تكتشف أسباب هذه الحالة وتخلّصني منها.

          - منذ متى تعيش في هذه الحالة؟

          - منذ سنوات.

          - ولم تخبرني؟

          - كنت أقول إنها ستمضي وأعود إلى حالتي الطبيعية.

          - لا.. أنت تعلم أن طبيبك يحب أن يعلم كل شيء.. تزورني مرّة كل شهرين أو ثلاثة.. أفحصك وأعطيك دواء إذا كنت بحاجة إليه ثم تذهب، وهذا منذ سنين، ولكن ما تحدّثني عنه الآن شيء جديد.

          - بل قديم.

          - قديم عندك.

          - صحيح.. حكيم.. أنت واثق من أن المرضى يخبرونك كل شيء عنهم.. عن حياتهم العائلية، عن الأصدقاء، أو عن عملهم وصلاتهم العاطفية السرّية.

          - آه.. لا.. أخبرني عن صلاتك السريّة، ما هو السر فيها؟ وأنا كطبيب، لن تخفي عني سرّا.. أليس كذلك؟

          ابتسم المريض ابتسامة ناشفة، لم تلبث أن اختفت.

          هناك أنواع من الابتسامات، أولها الابتسامة الصحيحة التي تنطلق من القلب، وابتسامة تهكّم كأنها شتيمة، ابتسامة لؤم.. ابتسامة ناشفة.. وابتسامة رطبة.

          - حكيم.. رجاء لا تسلني عن الزاوية العاطفية عندي.

          - أرجو ألا تكون فقط زاوية، اجعلها مساحات واسعة.. في جسدك وروحك.. هذا دواء يجعلك تتنفّس جيدًا.

          - هي كذلك.. أعتقد. وهي من أسراري.

          - أسرارك؟ تقول إنك تخبرني عن كل شيء؟

          - لا.. ليست أسرارًا هذه.. هذا الشعور أحتفظ به لشخصي.

          - لابأس.. كنت أفضل ألا تكون بيننا أسرار. هذا لفائدتك.

          - اسمح لي بهذه الزاوية ألجأ إليها عند الحاجة.

          - لم أعد أفهم منك شيئًا.. ولا أعلم إن كنت سأستطيع أن أفيدك.

          - دكتور.. تعني أنك ترفض زيارتي الآن؟

          - لا.. ولو.. أنا أمزح.. أهلاً بك وبأسرارك.

          - دكتور شاكر.. أنا لم أرك يومًا حزينًا أومتجهمًا، تعابير وجهك تعطيني ثقة وراحة، وهي نصف الدّواء.. أتساءل مرارًا عندما أخرج من عيادتك، لم يحق لك أن تطرح عليّ أسئلة.. وهذا ليس من حقوقي؟

          - أيّ حقوق؟

          - حقّي أن أطرح عليك أسئلة.. كما تفعل أنت معي.

          - اسأل..

          - ها.. ليس عندي سؤال.. الآن.

          يضحك الطبيب ويشاركه الزائر بالضحك، في هذه اللحظة، تدخل سكرتيرة الطبيب.. فتح الزائر عينيه جيدًا معبّرًا عن مفاجأته.. تعلن السكرتيرة أن السيدة وداد تنتظر منذ نصف ساعة.. تسألك إذا كانت ستنتظر أكثر؟

          - أخبريها رجاء.. لا.. لا.. طلب من الزائر أن ينتظر في صالة الانتظار.. أو أن يلتقيا غدًا في مطعم المستشفى الأمريكي عند الساعة الواحدة.

***

الساعة الواحدة تماماً.. الزائر أو المريض الذي اسمه أيمن، وصل باكرًا.. قبل ربع الساعة.. كان يقرأ جريدة «النهار»، مرارًا يهز رأسه متمتمًا، ويفهم من تمتماته مسبّات وشتائم تظهر على شفتيه، فاجأه الطبيب بثوبه الأبيض، ثوب العمل.. ثوب الأسئلة والفحص الطبي.. ثوب كتابة الروشتة.. ثوب حامل أسرار المرضى..وثوب ثمن.. ثمن الزيارة.

          - أنت وصلت قبلي.. جيّد.. ماذا تريد أن تأكل؟ أنا أدعوك اليوم.. طلب الدكتور شاكر صحنًا من الباذنجان المسبّح برب البندورة والزيت والحمص والبصل، وعلى طرف الصحن، والصحن ضخم، كبير، رز مفلفل، وطلب مثله أيمن قائلاً:

          - يعيش الكولسترول.

          - كول..

          - كأن الكولسترول كلمة أو كلمتان عربيتان.. كول.. واستر.. أخذها الغرب مع ما أخذ من حضارتنا.

          - كول واسترنا.. ممكن.. ما أطيب الكولسترول.

          - صحة يا حكيم.

          - صحة على قلبك.. وصحة بقلبك.. على ذكر القلب.. هل عدت تشعر بأيّ ألم؟

          - المرّة الأخيرة التي شعرت بدقاته السريعة هي البارحة، عندما رأيت سكرتيرتك الجديدة..وبعدها عندما رأيت الزائرة التي كانت تنتظر دورها وأخرجتني أنت بسببها لتستقبلها.

          - إذا كان قلبك يسرع بدقاته، فهذا أفضل من أن يقف عن الدّقات..

          - السكرتيرة..

          - أنا أحب الباذنجان المطبوخ بهذه الطريقة.. هي طبخة تركية..

          - ما اسمها؟

          - يخنة الباذنجان.. أعتقد.

          - اسأل عن اسم السكرتيرة.

          - ما بك؟ أنا الآن أسمع طبول قلبك.. تمهّل.. اهدأ.. كول واستر.

          ملأ أيمن ملعقته وبقيت معلّقة ما بين يده وفمه.. ولم يدخلها إليه، عاد سائلاً:

          - حكيم.. دكتور شاكر..

          - اسمها سونيا.. هل أنت مسرور الآن؟

          بعد أن انتهينا من الأكل، طلب الدكتور فنجانين من القهوة.

          - أنا أعلم.. أنت تعلم أيضًا، أن القهوة ليست مفيدة لك، إنما بعد هذا الصحن.. لابأس.. على مسئوليتي.

          - وعلى مسئوليتك أيضًا وقوعي في حب سكرتيرتك الجديدة.. سونيا.. أليس كذلك؟

          - كذلك.. كذلك.. قل لي لماذا لم تقل لي حتى الآن.. أريد أن أكمّل ملفّك الطبي.. لمصلحتك.

          - وأنا أحببت هذه الأكلة.. صحيح الباذنجان طيّب.

          - أيمن.. انتهى المزاح.. إذا أردت أن تخبرني ما تعتقد أنه سر ولا تريد البوح به، فهذا حقك، لكن من واجبي كطبيبك أكثر من عشرين سنة، من حقي أن أعلم كل شيء عنك، وعن مرضاي، لن أسألك بعد اليوم شيئًا، أعني بموضوع السرّ، لكني أحمل معي سرًا يخصّك، ولن أبوح به.

          استغرب وتفاجأ أيمن.. عندك سرّ يخصّني؟

          - نعم. قال الدكتور:

          - إذًا صرنا متعادلين.

          - لا أنا طبيبك.. أنت المريض، للطبيب طلبات، على المريض أن يحقّقها لمصلحته.. تقول إننا متعادلان؟ لا.. معادلة ناقصة.

          - سآتي إلى العيادة غدًا.

          - إذًا أتيت لتقول لي إنك لن تخبرني عما يجب أن تخبرني به لتكملة ملفك الطبي.. فلا فائدة عندئذ من مجيئك.. أما إذا..

          - صحيح.. أريد أن أتعرّف على السكرتيرة.

***

          في اليوم التالي، أتى أيمن إلى العيادة، جلس قليلاً مع الدكتور شاكر الذي نادى السكرتيرة وقدّمها إلى أيمن. عندما خرجت من الغرفة، بقي أيمن دقائق ثم خرج، ودون أي مقدّمات، طلب من سونيا أن يراها.. أن يتفقا على موعد.. أجابته بلطف: هل تريد موعدًا مع الطبيب؟

          قال: لا.

          - إذًا أي موعد تريد؟

          - موعد معك.. أنت..

          - أنا لست طبيبة، قالت سونيا وهي تبتسم.

          - أنت طبيبتي.

          - رجاء يا أستاذ.

          - لا.. أنا أرجوك.

          ضحكت: ماذا تريد منّي؟

          - آ.. لا.. لاشيء سوى..

          - لاشيء.. لا موعد.. سوى موعد مع الطبيب.. إذا أردت..

          - آ.. طيّب.. متى؟ هل آتي غدًا؟

          أخذت سونيا دفتر المواعيد وسجّلت الموعد الساعة الحادية عشرة من يوم غد، في الموعد المحدد وصل أيمن إلى العيادة أنيقًا معطرًا، وجلس بوجه السكرتيرة.. طلبت منه أن يتفضّل إلى غرفة الطبيب.. دخل مبتسمًا..

          - أهلاً بالمريض المعافى.. أهلا بأيمن.. بمريض القلب.. القلب السليم إلا من العاطفة الجيّاشة.. نعم ما المشكلة اليوم؟

          - ليست مشكلة يا دكتور.. إني وقعت بحبّها.. بحب سونيا.. أشعر أني بصحة جيدة.. الوساوس اختفت.

          - دواؤك يا أيمن الحب إذًا..

          - هذا هو سرّي على ما أعتقد.. كنت أجهل وجوده. لم أكن أخفيه عنك.. اكتشفته عندما رأيتها.. صرت أراها في كل امرأة في الشارع وفي كل صورة وفي المنام واليقظة.

          - هيه.. مهلاً.. ما رأيها هي؟

          - لا أعلم حتى الآن.. لم أسمع منها جوابًا واضحًا.. هل تساعدني؟

          أنت الذي طبّب جسدي.. طبّب الآن روحي وعواطفي.. أرجوك..

          أخذ الدكتور ذراع أيمن.. وضع آلة الضغط. بعد ثوان قال:

          - ضغطك عالٍ جدًا اليوم. دواؤك بيدك.. بقلبك.. اهدأ.. عد إلى رشدك.

 

 

أمين الباشا