رياض السنباطي (1906 - 1981) صيغة سحرية بين القصبجي وزكريا أحمد

رياض السنباطي (1906 - 1981) صيغة سحرية بين القصبجي وزكريا أحمد
        

          بعد الرحيل المبكر لمؤسس مدرسة القرن العشرين في الموسيقى العربية، سيد درويش، في العام 1923، تولى أربعة من عباقرة الموسيقى العربية في النصف الأول من القرن العشرين تدعيم وترسيخ أسس تلك المدرسة الجديدة، وتوسيع ميادينها التفصيلية، وهم حسب تواريخ ولادتهم: محمدالقصبجي (1892)، زكريا أحمد (1896)، محمد عبدالوهاب (1898)، رياض السنباطي (1906).

          وربما شكلت ولادة السنباطي المتأخرة، وسط هذه الكوكبة من العباقرة التأسيسيين، سببًا منطقيا في تأثره الفني بهم جميعًا، إلى جانب تأثره المؤكد بسيد درويش.

          وشاءت ظروف تطور الموسيقى العربية في النصف الأول من القرن العشرين، والعقد الأول من النصف الثاني من القرن، أن يجتمع شمل ثلاثة من هؤلاء العباقرة، حول صوت عبقرية الغناء العربي أم كلثوم، (القصبجي، زكريا أحمد، السنباطي)، فيما كان طبيعيًا أن ينصرف جهد رابعهم، محمد عبدالوهاب، لخدمة حنجرته العبقرية وأدائه العبقري الذي جمع بشكل معجز بين الأصالة والتجديد.

          مع هذين المسارين الرئيسيين: أم كلثوم (ومجموعة ملحنيها الثلاثة)، ومحمد عبدالوهاب (مطربا وملحنا)، نجد أنفسنا أمام المسار الرئيسي لتطور الموسيقى العربية في مرحلة ما بعد سيد درويش، بطريقة أنجزت عملها التأسيسي في النصف الأول من القرن العشرين، وواصلت تأثيراتها المباشرة وغير المباشرة، على مسيرة الموسيقى العربية والغناء العربي، في النصف الثاني من القرن.

          نعود الآن، وضمن هذا الإطار العام، إلى نقطة اهتمامنا المركزية في هذا المقال، وهي الجهد التاريخي الذي بذله رياض السنباطي مع صوت أم كلثوم، خاصة أن الصورة الراسخة عن السنباطي في ذاكرة عشاق الموسيقى العربية حتى يومنا هذا، هي صورة المرحلة الكلثومية من حياة رياض السنباطي الفنية (وهو ما سنعالجه في هذا المقال)، علمًا بأننا سنفرد مقالا آخر في عدد قادم، لشخصية السنباطي غير الكلثومية، وهي لا تقل أهمية وشأنًا، وتستحق أن نلقي عليها ما لم يلق حتى اليوم من أضواء كاشفة.

          بعد المرحلة التحضيرية من تكوين أم كلثوم، المعتمدة على الإنشاد الديني بتوجيه والدها الشيخ إبراهيم البلتاجي، والقصائد التقليدية، بتوجيه أستاذها الأول الشيخ أبو العلا محمد، فقد عرفت أم كلثوم بعد انتقالها الكامل من مرحلة الإنشاد الديني والقصائد التقليدية، إلى مرحلة احتراف الغناء بكل فروعه وألوانه المعروفة، أستاذين مؤسسين، هما على التوالي محمد القصبجي وزكريا أحمد. بدأ الأول جهده معها منذ منتصف العشرينيات، والثاني منذ مطلع الثلاثينيات.

          وباختصار شديد، يمكن القول إن المقارنة بين الرصيد الكلثومي الذي أبدعه القصبجي، والرصيد الكلثومي الذي أبدعه زكريا أحمد، ظلا منذ البداية وحتى النهاية، يسيران في خطين متوازيين، يتكاملان، دون أن يلتقيا أبدًا.

          ليس غريبًا أن من أوائل ما لحنه القصبجي لأم كلثوم - بعد أن أصبحت في عهدته - مونولوج «إن كنت أسامح وانس الأسية»، مقدمة لسلسلة من المونولوجات (على رأسها المونولوج التاريخي «رق الحبيب») التي جاءت كلها ثمرة يانعة لتأثر القصبجي بما كان يختزنه من سماعه لروائع الموسيقى الكلاسيكية الأوربية، وأن يكون من أواخر ما لحنه القصبجي لتلميذته أم كلثوم، مقطعًا أوبراليًا في فيلم «عايدة»، مطلع عقد الأربعينيات.

          كذلك لم يكن غريبًا أن تكون بداية زكريا أحمد مع أم كلثوم مركزة في تجديد شكل الطقطوقة التقليدية وتطوير شكل الدور، الآتي إلينا من أعماق القرن التاسع عشر، وأن تكون الخاتمة مع اللحن الخالد «الهوى غلاب»، التي جاءت كلها، من البداية، حتى النهاية، خلاصة لشخصية زكريا أحمد المتعمقة الجذور في الإنشاد الديني، كما في تراث القرن التاسع عشر، الذي لم يكن زكريا أحمد، سوى مندوب له في قلب القرن العشرين.

ظهور السنباطي

          كان هذان الخطان المتوازيان، والمتعارضان، قد وصلا إلى مرحلة متقدمة من الوضوح والنضج، عندما ظهر الفارس الثالث، رياض السنباطي، في حياة أم كلثوم، في منتصف عقد الثلاثينيات. كان رياض السنباطي قد بدأ يعلن عن عبقرية جديدة قادمة في التلحين وفي العزف على آلة العود، منذ مطلع عقد الثلاثينيات، حيث ظهر عازفًا أساسيًا في فرقة عبدالوهاب، في فيلمه الأول «الوردة البيضاء» (1933).

          وعندما وضع لحنه الأول لأم كلثوم، على بلد المحبوب وديني، (غناه في الفيلم عبده السروجي)، كان اللحن شديد العذوبة والبساطة، لكنه كان العتبة الأولى التي جمعت في لقاء فني مباشر بين عبقرية السنباطي كملحن، وعبقرية أم كلثوم كمغنية.

          لذلك تسلطت الأنظار منذ البداية على هذا التعاون الجديد، ترقبًا لما يمكن أن يصدر عنه. النتائج الأولى للتعاون جاءت، على قيمتها الفنية الرفيعة، وكأنه تعاون قائم منذ سنوات، محيّرة لأنظار المراقبين الذين كانوا يحاولون تحديد الشخصية الفنية الخاصة لهذه العبقرية الموسيقية الجديدة القادمة، تحت اسم رياض السنباطي.

          فالألحان الكلثومية الأولى للسنباطي، على عظمتها، جاءت محيرة للنقاد. ففي فيلم «نشيد الأمل» (1936) وضع السنباطي ثلاثة ألحان لأم كلثوم، جاء الأولان (مونولوج «قضيت حياتي» وطقطوقة «افرح يا قلبي») شديدي القرب من خط القصبجي التجديدي، حتى أن لحن «قضيت حياتي»، يبدو كأنه من ألحان القصبجي شخصيًا. أما لحن السنباطي الثالث لأم كلثوم «نشيد الجامعة» (يا شباب النيل)، فقد جاء قريبًا من شخصية عبدالوهاب الموسيقية كما بدت في «نشيد العلم» (أيها الخفاق). كذلك وضع السنباطي لأم كلثوم في تلك الفترة، لحنًا تاريخيًا، كان عبدالوهاب يعتبره أحد أروع وأخلد ألحان السنباطي، هو لحن مونولوج «النوم يداعب»، الذي يبدو هو الآخر، شديد التأثر بمدرسة وخط محمد القصبجي.

          لم تكن هذه النماذج هي وحدها المحيرة للنقاد الباحثين عن شخصية هذا العبقري الجديد، فقد وضع السنباطي لأم كلثوم في تلك المرحلة لحن قصيدته الخالدة «سلوا كئوس الطلا»، الذي يذكر بانتماء كل هؤلاء العباقرة الأساسي، إلى مدرسة الإنشاد الديني، حيث يبدو اللحن قريبًا من شخصية وخط الشيخ زكريا أحمد.

          هذه البدايات، على روعة مستواها الفني، حيّرت النقاد في البداية، لكننا اكتشفنا فيما بعد، أنها لم تكن سوى مرحلة التكون الأولي العظيم لعبقرية رياض السنباطي وشخصيته الموسيقية.

أزمتان، مع القصبجي وزكريا

          في تلك الفترة الخصيبة التي كانت تتبلور فيها الملامح الأولية لشخصية العبقري الجديد رياض السنباطي، كانت أم كلثوم قد قطعت شوطًا كبيرًا مع أستاذيها الأولين الأساسيين: محمد القصبجي، وزكريا أحمد.

          التحول الأول الذي طرأ على هذا المشهد العام، وفي تلك المرحلة التاريخية، في النصف الثاني من عقد الثلاثينيات، كان انتقال شخصية أم كلثوم، من موقع التلميذ، إلى موقع الأستاذ. فقد كانت الشهرة المدوية التي تمتعت بها أم كلثوم، طوال تلك السنوات العشر الأولى، في مصر وفي سائر أرجاء الوطن العربي، قد أكسبتها لقب «كوكب الشرق»، كما ارتفع نجمها على قمة المجتمع السياسي والثقافي، ووصلت إلى مرحلة ناضجة من عمرها، لم يعد من الممكن معها أن تبقى قابعة في موقع التلميذ، يتلقى من أساتذته - مهما كانوا عظماء - التوجيهات التي ينفذها التلميذ دون مناقشة، ودون أن يكون له فيها رأي شخصي، بل موقف شخصي.

          أما التحول الثاني الذي يبدو أنه بدأ يطرأ، على العلاقة بين أم كلثوم ومحمد القصبجي بالذات، فهو أن هذا الأخير قد سحب معه أم كلثوم إلى مواقع بعيدة في التجديد الموسيقي والغناء، بناء على تأثره بأجواء الموسيقى الكلاسيكية الأوربية، لم تعد أم كلثوم على ما يبدو قادرة على تحمل ما يعتورها من تناقض مع شخصيتها الأساسية المبنية على الإنشاد الديني، وعلى الكلاسيكية التقليدية للقرن التاسع عشر.

          وقد جاءت الذروة الدرامية في هذا التحول، مع فيلم «عايدة»، الذي لحن فيه كل من القصبجي والسنباطي، مقطعًا أوبراليًا خالصًا غنتهما أم كلثوم، في الفيلم الذي اصطدم يومها بفشل جماهيري مدو.

          عند هذا الحد، بلغ تمرد التلميذة على أستاذها ذروته، فوقعت مأساة قرار أم كلثوم بمقاطعة القصبجي فنيا، حتى نهاية حياته، إذ بقي عازفًا على آلة العود في فرقتها، حتى منتصف الستينيات.

          أما بالنسبة لزكريا أحمد فمع أنه كان واضحًا أن مزاجه التقليدي أقرب إلى المزاج الأساسي لأم كلثوم، فإن مبالغته التقليدية قد بدأت أم كلثوم تتمرد عليها، بدليل أنها سجلت آخر الأدوار من ألحان زكريا أحمد في العام 1936، حيث توقفت بعدها نهائيا عن غناء هذا الشكل التقليدي العريق (كان عبدالوهاب قد سبقها إلى هذا التوقف)، وبدليل أن الأدوار الثلاثة التي لحنها زكريا لأم كلثوم بعد ذلك، قد اضطر لتسجيلها بصوته على اسطوانات، بعد تمنع أم كلثوم.

          إلى جانب هذا التمرد الكلثومي على تشدد زكريا أحمد في تقليديته، كان هذا الأخير شديد الاعتزاز بكرامته الشخصية، إلى درجة أوجدت مواقف تصادم بينه وبين أم كلثوم، في النصف الثاني من الأربعينيات. (لم يلحن لها بعد ذلك غير لحن «الهوى غلاب»، قبل رحيله في مطلع الستينيات).

السنباطي الكلثومي

          يمكننا اليوم أن نستنتج، بمزيد من الثقة، في نظرة استعادية لمسيرة الغناء العربي الكبير في القرن العشرين، أن قرار أم كلثوم بين مطلع الأربعينيات ومنتصفها بمقاطعة كل من القصبجي ثم زكريا أحمد، ما كان ليتحول إلى قرار حاسم، تقدم عليه أم كلثوم بلا تردد، لولا أن شخصية العبقري الثالث رياض السنباطي كانت قد وصلت، في تلك الأثناء بالذات، إلى مرحلة متقدمة من النضج والتبلور والتفرد بملامح شخصية، تميزه عن شخصيات أساتذته الكبار، بالذات القصبجي وزكريا أحمد.

          إن دليلنا الأهم على دقة هذا الاستنتاج يعتمد على المقارنة بين تاريخ اكتمال المقاطعة بين أم كلثوم من جهة، والقصبجي وزكريا أحمد من جهة ثانية، وبين انطلاق التعاون الوثيق والمثمر والتاريخي، بين رياض السنباطي وأم كلثوم، الذي استمر عنصرًا منفردًا في حياة أم كلثوم الفنية، حتى أواخر الخمسينيات، وبقي متواصلاً مع أم كلثوم بعد ذلك إلى نهاية حياتها، على الرغم من دخول أسماء عديدة إلى حديقة أم كلثوم بعد ذلك، مثل عبدالوهاب وبليغ حمدي وكمال الطويل ومحمد الموجي وسيد مكاوي.

          ويبدو أن رياض السنباطي قد قرر منذ تلك الفترة، أن يترك الجانب الأكثر محافظة والأقل تمردًا في شخصيته الموسيقية، لما يلحنه لأم كلثوم، حرصًا على مزاجها من جهة، واستحسانًا لملامح اللون الكلثومي - السنباطي التي بدأت تتبلور وتنضج، بينما يترك لروحه الموسيقية المتحررة والمتجددة، والأكثر قربًا لتجديدات العبقري محمد عبدالوهاب (الذي كان السنباطي يكن له إعجابًا منقطع النظير واحترامًا فنيًا شديدًا)، في خط آخر، خصصه لما لحنه لكل الأصوات الأخرى، بما في ذلك صوته، وسنتابع ذلك، بما يستحق من تفصيل في مقالة لاحقة.

          من ملامح هذا الخط، وهذه المدرسة، الأسلوب السنباطي في تطوير صياغة القصائد الكلاسيكية، بطريقة أصيلة متجددة، من «سلوا كئوس الطلا» إلى سلسلة القصائد الدينية الرائعة، «سلوا قلبي»، «نهج البردة»، «ولد الهدى»، «إلى عرفات»، «حديث الروح»، «الثلاثية المقدسة». وهو لون ولد من امتزاج التأثر بالتراث التقليدي للموسيقى العربية لدى السنباطي، ومن مزاجه الشخصي الأقرب ما يكون إلى التصوف، والابتعاد عن بهارج الحياة الاجتماعية.

          ومن الواضح أن هذه الروح قد سيطرت حتى على قصائد السنباطي الكلثومية غير الدينية، وعلى رأسها قصائد مثل «رباعيات الخيام» و«الأطلال» و«أقبل الليل» و«من أجل عينيك» وسواها.

          أما اللون الثاني الكبير في هذه المدرسة، فقد تمثل في سلسلة المونولوجات المسرحية المطولة التي أبدعها السنباطي لأم كلثوم في حفلاتها الشهرية، بعدد لا يحصى منها «هلت ليالي القمر»، «غلبت أصالح في روحي»، «دليلي احتار»، «يا ظالمني»، «عودت عيني»، «جددت حبك»، و«سهران لوحدي»، «حيرت قلبي معاك»... إلخ.

          وهكذا نرى أن اللون الكلثومي لدى رياض السنباطي قد ولد صيغة سحرية، تحل لأم كلثوم مشكلة ضيقها بجموح التجديد عند محمد القصبجي، وجموح التقليد عند زكريا أحمد.

--------------------------------

          أراعكَ طائرٌ بعدَ الخفوقِ
                                        بفاجِعَةٍ مُشنَّعةِ الطُّروقِ
          نَعمْ ولَهًا على رجلٍ عميدٍ
                                        أظَلُّ كأنَّني شَرِقٌ برِيقي
          كأنِّي إذا عَلمتُ بها هُدُوًّا
                                        هوتْ بي عاصفٌ منْ رأسِ نيقِ
          أعلُّ بزفرةٍ منْ بعد أخرى
                                        لَها في القلْبِ حَرٌّ كالحَرِيقِ
          وتَرْدُفُ عبْرَةً تَهتَانَ أخرى
                                        كفائضِ غربِ نضّاحٍ فتيقِ
          كأنِّي إذْ أكفكِفُ دَمعَ عيني
                                        وأنهاها أقولُ لها: هريقي
          ألا تلكَ الحوادثُ غبتُ عنها
                                        بأرْضِ الشَّامِ كالفَرْدِ الغَريقِ

وضاح اليمن

 

الياس سحّاب