الرياضة والصحة

الرياضة والصحة

لياقة.. لا إعاقة

مادمنا نتحدث عن اللياقة، أي أداء أمورنا الحياتية اليومية بكفاءة وارتياح، في حدود وظائف أعضائنا الطبيعية، وفيما يناسب أعمارنا وبنى أجسادنا المختلفة، فهذا يعني أننا لا نتحدث عن رياضة المنافسة، التي يمكن أن نقدرها في إطارها كاستجابة لغريزة حب التنافس الكامنة أو الظاهرة لدى البشر، والتي يجري تفريغ ضغوطها عن طريق الممارسة بالذات - كلاعبين، أو عبر الغير- كمتفرجين.

إننا نرنو إلى الحديث عن الرياضة الغائبة، رياضة كل الناس كمشاركن لا متفرجين، من أجل دعم الصحة وصيانة الجسد، ومن ثم فنحن - بشكل أو آخر- مع مدلول الحديث الجميل : "ما دخل الرفق في شَيْء إلا زانه ، وما دخل العنف في شيء إلا شانه". ليس فقط من منظور نبذ العنف، ولكن بمنطق مؤاخاة الفطرة التي فطر الله الناس عليها، والتي يثبت علميا كل يوم أنها الأصح والأجمل، في كل المجالات، ابتداء من بيئة الإنسان الداخلية - في جسده ونفسه - وحتى بيئته الخارجية من أعماق الأرض حتى أجواز الفضاء .

صحيح أن فطرتنا الجسدية تتضمن أن نقفز ونركض ونصارع فيما يسمى باستجابة "الهروب والقتال" الفسيولوجية الطبيعية، لكن هذه الاستجابة مودعة في أجسادنا بحكمة، لمواجهة "الطوارئ" عند التعرض لخطر ما حق يستدعى الفرار أو مجابهة خطر يحتم القتال. أما أن نضع أجسادنا - خلطا متعسفا بين رياضة التنافس ومطلب اللياقة - في حالة "فرار أو قتال" مستمرة، فهذا شيء مضاد تماما لفطرة الخلق، وهو ما تظهر نتائجه السلبية إن آجلا أو عاجلا .

ومرة أخرى.. نحن لا نجرم رياضة المنافسة، لكن لا نحبذها كسبيل للحصول على اللياقة البدنية، ولإيضاح خلفيات الاختيار، نعرض لبعض مما يسمى إصابات الملاعب، والتي أوردتها مجلة "فوكس" العلمية الشهيرة تحت عنوان : "هل تقتلنا صالة الألعاب؟"، وهو تساؤل مثير، يدعو- وندعو معه - إلى التفكير.. بل مزيد من التفكير.

من الفم إلى إصبع القدم

تقول الأرقام إن 12 ألفا من الأمريكيين يدخلون أقسام الطوارئ سنويا بسبب إصابتهم في "لعبة" الترامبولين، ومن بينهم 9 آلاف تكون إصاباتهم نتيجة اصطدام أكثر من لاعب يقفزون معا.

وبعيدا عن الأرقام تقول الدراسات إن غير اللائقين يصابون بنوبات قلبية قاتلة في ملاعب الإسكواش أكثر مما يمكن أن يتعرضوا له في منازلهم. وأن من يواظبون على التمرين في صالة الألعاب "الجيمينزيوم" يتعرضون لإصابات أكثر ممن لا يدخلونها، وبعض الإصابات تكون معيقة إلى درجة تستلزم الانقطاع عن العمل.

وإذا بدأنا من أعلى نجد أن كثيرين من لاعبي الغطس يصابون بما يسمى "متلازمة فم الغطاس" إذ يؤدي تغير الضغوط على الفك إلى اعتصار الأسنان والتسبب في نزف مستمر من اللثة خاصة إذا أهمل وضع الواقي المطاطي في الفم. وحتى مع وضع هذا الواقي، فإن اللاعبين الهواة الذين يقومون بأكثر من 40 غطسة عالية في العام، يمكن أن يعانوا من الاكتئاب ثم فقد الذاكرة في مراحل تالية من أعمارهم.

ونزولا من الرأس، تقول دراسة لجامعة جلاسجو إن الركبة هي أكثر مناطق الجسم عرضة للخطر جراء "التمارين" وتمثل حوالي 30% من إصابات الملاعب المزمنة. ويشتهر بين إصابات الركبة ما يسمى "ركبة العداء" حيث يتمزق ويتآكل الجانب الخلفي من الغضروف الماص للصدمات في مفصل الركبة نتيجة زيادة العبء عليه. وهذه الإصابة يلزمها بعض الوقت للظهور مترافقة بألم حاد أسفل الرضفة "صابونة الركبة" مع صوت طقطقة أو اِحْتِكَاك خشن ورغم التطور الطبي فإن معالجة هذه الإصابة لا تعيد الركبة إلى طبيعتها.

بعد غضروف الركبة تأتي إصابات أربطة المفاصل وهي شائعة بين لاعبي كرة القدم، فركل الكرة بقوة بسبب ضغطا شديدا على أربطة الركبة فتتمدد إلى درجة مؤذية، وبرغم تقدم جراحات إعادة تثبيت هذه الأربطة فإنها لا تعود أبدا إلى كامل كفاءتها المعتادة.

وليست أربطة الركبة وحدها هي المعرضة لكثرة الإصابات لدى لاعبي كرة القدم، لأن أربطة العقب تشاركها في تحمل أعباء "اللعبة" ومن ثم تشاركها في كثرة الإصابات، ولا تنجو من هذه الإصابات أربطة إصبع القدم الكبير التي تتعرض للتمزق أيضا جراء الاحتكاك بين حذاء سيئ وأرض ملعب صلبة.

العضلات تصرخ والأوتار تستغيث

تمزق العضلات يمثل ثاني أكثر إصابات الملاعب وصالات الألعاب شيوعا بنسبة 25 % من مجمل هذه الإصابات. والألم الذي يظهر بعد يوم من تمرين شاق يكون سببه تمزقا في الألياف العضلية والنسيج الضام المحيط بها. وإذا ظهر الألم أثناء التدريب فهو دليل على حدوث تمزق عضلي أكثر خطورة.

وبرغم أن التمزقات العضلية تلتئم فإنها تترك الألياف العضلية أقصر، مما يعني إعاقتها بمرونة أقل.

ويرجع السبب الرئيسي وراء التمزقات العضلية إلى إخفاق "التسخين" قبل الدخول في مرحلة التمرين العنيف. ومع ذلك فإن مجرد التسخين لا يضمن السلامة الكاملة من الإصابة، ومن المستحسن تقدير الحد الذي تحتمله العضلة في عملية "المط" فظهور الألم هو جرس إنذار يعني ضرورة التمهل أو حتى التوقف.

العضلات يمكن أن تتضرر بالتمرين العنيف في أشكال أخرى غير التمزق، فعندما تعاني خلايا النسيج العضلي من العوز للأكسجين يحترق الجلوكوز لا هوائيا، أي من دون أكسجين، وينتج عن ذلك "الحامض اللبني" الذي يسبب آلاما مبرحة.

إن العضلات تشكو إذا استعملتها بعنف أو مددتها أكثر مما ينبغي، حيث يستنفد الأكسجين وتختنق العضلة معبرة عن معاناتها بصرخات الألم والتوقف في انقباض مفاجئ يأخذ شكل تقلص يمكن إِيقَاف آلامه بالتدليك أو التبريد المتدرج والتمطي بحذر. ولكن مجرد نشوء هذا الألم يعني أن التمارين مخطئة ويجب تصحيحها بنبذ العنف والاتجاه إلى الرفق.

العنف بذاته توجه يقتضي المراجعة في مضمار الرياضة عموما، وخطأ في مجال تمارين اللياقة على وجه الخصوص، ومن ثم يكون ترديد عبارة "لا اِسْتِفَادَة بلا ألم" الشائعة في اللغة الإنجليزية وسط الرياضيين هو تكريس ما ثبت خطؤه. والأخطاء المكسفة صارت عديدة، فقد ثبت على سبيل المثال أن تمرين ثني الجذع حتى تلامس أصابع اليدين الإصبعين الكبيرين في القدمين دون ثني الركبتين يشكل عبئا ضارا على العمود النقري، ومثله تشبيك اليدين خلف الرقبة وإدارة الجذع بشدة إلى الحد الأقصى. كلاهما خطأ والصحيح في التمرين الأول هو ثني الركبتين قليلا مع ثني الجذع، وفي الثاني يجب إدارة الجذع برفق ودون بلوغ الحد الأقصى.

ومن أكثر الأجزاء تعرضا للإصابة جراء العنف والتمارين الخاطئة تأتي الأوتار، تلك الألياف العضلية التي تربط العضلات بالعظام، ومن أشهر إصاباتها ما يسمى "مرفق لاعب التنس" ،فالإمساك الخاطئ بالمضرب يسبب تكرار "لوي" أوتار المرفق والتهابها فيما بعد.

مع الأوتار نهبط، فنلتقي بوتر أخيلوس الذي يربط عضلات سمانة الساق بعظام الكعب وهو ليس بمنأى عن التخرب والالتهاب، وإصابته منتشرة بين العدائين لكنها أكثر شيوعا بين الدراجين، وهي مفارقة لافتة، فهذه "اللعبة" الوديعة - قيادة الدراجات الهوائية - تغدو بعنف التسابق مصدرا للإصابة والألم!

الإفراط شكل من أشكال العنف وله عواقبه ، فكثرة الركل العنيف لدى لاعبي كرة القدم تؤدي إلى تكون زوائد عظمية مؤلمة حول حواف عظام القدم وقصبة الساق. أما شظية هذه القصبة فلها متلازمة مؤلمة تعرف باسمها، وهي إصابة تنتشر بين العدائين ولاعبي كرة القدم المحترفين، وسببها تضخم العضلات في هذه المنطقة بأسفل مقدمة الساق من فرط التمرين، مما يؤدي إلى الضغط على الأعصاب والأوعية الدموية وانبثاق الألم، الذي لا يزول إلا بالكف عن التمرين لمدة أسبوع، وربما احتاجت شدة الحالة إلى العلاج بالعقاقير وحتى بالتدخل الجراحي لإزالة الضغط وملاشاة الألم.

لعل هذه الطائفة من الإصابات الرياضية سالفة الذكر تجعلنا ندرك أنه لا شيء يداني الحياة الرياضية التنافسية في كثرة التعرض للإصابات، خاصة عندما يكون الاختيار هو نوعا من الرياضات المليئة بالصدامات بين اللاعبين ككرة القدم والملاكمة وأيضا الأجهزة الصلبة والثقيلة.

إننا نتحدث عن اللياقة، لا عن المنافسة. وأن تكون لائقا يعني أن تكون "أكثر سلاسة" - هكذا تقول "سارة وليامز" من هيئة التعليم الطبي الأمريكية وهي تعلق على كيفية تغيير كم وكيف التمارين مع الزمن: "لقد اعتدنا أن نوصي بثلث ساعة ثلاث مرات أسبوعيا من التمارين العنيفة، لكن آخر الأبحاث تقول إن نصف ساعة من التمارين المعتدلة خمس مرات أسبوعيا هي أكثر فائدة، وإذا كان ذلك يوميا فهو يثمر فائدة قصوى".

تمارين اللياقة ينبغي ألا تكون عنيفة تتطلب كدحا ككدح الثيران، وينبغي ألا تكون "روتينا" يوميا مكررا، بل يحسن أن تكون معتدلة وممتعة ومتنوعة. وتقترح باحثة هيئة التعليم الطبي الأمريكية نموذجا لذلك يتكون من : "يوم للسباحة، وجولة مشي منعشة في اليوم التالي، وساعتين لغسيل وتشحيم السيارة في اليوم الثالث (بدلا من كراء شخص آخر للقيام بذلك)، والعمل في حديقة المنزل في اليوم الرابع، وهكذا تدخل (تمارين) اللياقة في نسيج حياتك".

هذا بالطبع نموذج أمريكي، أما معظمنا ممن ليس في نسيج حياتهم أي مسابح ولا حدائق بالمنازل ولا حتى سيارات، فنقول لهم : امشوا.. فمجرد المشي النشيط 15 دقيقة كل صباح وكل مساء، كفيل بتقليل مخاطر التعرض للأزمات القلبية، ناهيك عن الانتعاش الجسدي والنفسي العظيمين.

ماذا فعل الركض بكارتر؟

"طالما أوحى لي الرئيس الأمريكي جيمي كارتر بالود، ولكني شعرت إزاءه بالحب حين رأيته على شاشة التليفزيون وهو يركض بملابس رياضية برفقة مجموعة من المعاونين والمدربين والحراس الشخصيين. فجأة تلألأ العرق فوق جبينه وتشنج وجهه، مال معاونوه نحوه وأمسكوه من وسطه: أزمة قلبية صغيرة. كان المفروض أن يتيح هذا اركض للرئيس الفرسة لإظهاره شبابه الدائم. وقد دُعي المصورون لهذه الغاية، وليس الذنب ذنبهم إذا اضطروا أن يظهروا بدلاً من رياضي يفيض صحة، رجلاً يتجه نحو الشيخوخة، وأصيب بالنحس.. سوف يدخل إلى الخلود المضحك".

(من راوية "الخلود" للكاتب العالمي ميلان كونديرا)

آخرة الجري .. يا ملك الجري !

"جيمس فيكس" الذي لقب بملك الجري ومؤلف كتاب "المرجع الكامل في رياضة العدو" أصاب دنيا الرياضة وعشاق اللياقة بصدمة مروعة عندما سقط ميتا بسكتة قلبية بينما كان يجري في أحد تمارينه عام 1984. وأظهر تشريح الجثة بعد الوفاة أن أحد شرايين قلبه التاجية كان مسدودا بنسبة 99%، وشريانا آخر كان مسدودا بنسبة 80%، أما الشريان التاجي الثالث فقد كان مسدودا بنسبة 70% فقط. وتبين أن الملك "فيكس" سبق أن أصيب بثلاث نوبات قلبية قبل وفاته!

من كلينتون إلى سيلفستر

أن يصاب رياضيو المنافسة والاحتراف بما يعيقهم أو يقعدهم أثناء ممارستهم للرياضة فهذا أمر مفهوم في إطاره، أما أن تعيق رياضة اللهو أو اللياقة ممارسيها فهذا يحتاج إلى إعادة نظر.

الرئيس بيل كلينتون أصيب بعد وقوعه على درج ناد يمارس فيه الجولف مما أقعده عن الحركة العادية واضطره إلى التنقل على كرسي متحرك وبالهليوكوبتر بدلا من السيارة. وكانت لقاءات القمة التى يشارك فيها تعقد وهو على هذا النحو مقعد.

والأمير تشارلز عانى من كسرين أعلى المرفق عام 1990 بينما كان "يلعب" البولو على ظهر حصان ملكي!

أما الممثل سيلفستر ستالوني - لا عافاه الله جراء ما يهين العرب في تافه أفلامه - فقد انقطعت عضلة صدره العظمى من منبتها فيما كان يتمرد لينفخ علينا عضلاته الفارغة "فهو مريض وأجرى جراحة كبيرة في قلبه المعطوب".

فهل هذه كلها ألعاب ولياقة.. أم إقعاد وإعاقة ؟!.

 

محمد المخزنجي

 
  




هل كان هذا التشنج والعنت هو السبيل الوحيد للياقة؟





جيمي كارتر





بعد أن تقطعت الأنفاس وحل الألم يرتمي العداءون في انتظار الراحة التي تأتي ببطء.. أو لا تأتي





تمارين رفع الأثقال تعتبر مقوية للعضلات ومكثفة للعظام لكن لا داعي للمبالغة في الثقل





جيمس فيكس





بيل كلينتون





تشارلز





ستالوني