السياحة الجزائرية الحديثة في المشرق العربي أم الرحلة الجزائرية الحديثة إلى المشرق؟

 السياحة الجزائرية الحديثة في المشرق العربي أم الرحلة الجزائرية الحديثة إلى المشرق؟
        

          أردت أن أعقّب على ما جاء في مقال الدكتورة سميرة أنساعد «الرحلة الجزائرية الحديثة إلى المشرق»، في العدد 613 لشهر نوفمبر 2009، من التباس وخلط وغموض، في الواقع يعرّي المستوى الحقيقي للإبداع الأدبي الذي يُنتج اليوم بالجزائر ويدرّس في جامعاتها، ويزيد من شكوك ومخاوف إخواننا في شرق الوطن العربي حوله، حيث أبانت الكاتبة - مشكورة - عن نوع من التقهقر والركود الأدبي في بلدها من حيث إنها إرادت إثبات العكس، «أرادت أن تسعى فضيّعت تسعة» مثلما يقول المثل الشعبي الجزائري، وبالرغم كذلك من إيجابية المحاولة ونفض الغبار بمثل هكذا أعمال ودراسات نقدية في بلدها، على اعتبار التفاوت في القيمة والمستوى في الإنتاج الإبداعي العربي في المشرق ونظيره في المغرب العربي، ذلك التفاوت الذي أخذ يتسع - ومن دون قصد - بالإساءة أحيانًا، وحيث لم يسجل تاريخ الأدب العربي الحديث أي محاولة تذكر للاقتراب والدنو في مستوى الأدب المغاربي بمستوى الأدب العربي المشرقي على الأقل، كما حدث - على سبيل المثال - في قفزة الأدب السوداني الحديث ومجاراته المستوى الرفيع لدى جارته مصر. باستثناء بعض القمم التي يُشهد لها بأنها حظيت باستحسان وقبول لدى إخواننا في المشرق العربي، فنجحت وغطت على الغابة كلها كابن بطوطة قديمًا في أدب الرحلات، والشاعر الظاهرة أبو القاسم الشابي، ولأن الظاهرة الأدبية المكتوبة باللغة العربية غير موجودة أصلاً في الجزائر وبلاد المغرب العربي عامة، أو أنها مغيبة، فيبقى كل ما ينتج من إبداع ودراسات نقدية لغوية وأدبية نثرًا وشعرًا متقوقعا ومحصورا داخل الحدود السياسية لأنه هزيل، فأي محاولة من هذا القبيل يُخشى عليها إن هي تجاوزت الحدود البرية أو الجوية إلى العلن من أن يضربها الريح من جوانبها - على حد تعبير عميد الأدب العربي - أما الاستثناءات القليلة أخيراً كرواية «ذاكرة الجسد» التي اكتسحت المكتبات العربية، فتعود إلى العامل التجاري والسياسي أكثر منها إلى العامل الإبداعي المحض - مع طول انتظار مثل هذا البروز - دُعّمت هذه الرواية ورُحّب بها كونها تتناول ظاهرة سلبية، فربحت دور النشر اللبنانية بمجرد التفكير بها، زيادة على فضول زائد لمعرفة خبايا الصراع الغريب - المسلّح - التي نشب في الجزائر.

          فإذا كان الرحّالة العربي الشهير ابن بطوطة قد ألّف كتابًا ضخمًا نال به بحق ريادته في مجال أدب الرحلة بعد أن أفنى عمره في تدوين ما لقيه في إفريقيا، والهند، بأسلوب لغوي راقٍ ممتع وأدب خالص ينمّ عن شخصية مبدعة، فما بال المتطفلين المتشدقين اليوم يخوضون في هذا الجنس الأدبي من دون ترو، فأصبح الأستاذ بالجامعة عندنا فجأة أديبًا مشهوراً ويشبّه بالروّاد والعمالقة!

أدب الرحلة.. اقتدار لغوي

          ألَيس أدب الرحلة استحضارا لحوادث ماضية لها علاقة مع ما يجري باقتدار لغوي عن طريق الاستشهاد والحوار في صياغة متقنة تنهل من طريقة الحكي والسرد الاستطرادي على طريقة كليلة ودمنة، فضلا عن جمالية التعبير الأدبي عامة بما فيه توظيف الموروث الشعبي والتراث المحلي في الأرض التي يزورها الرحّالة، لتكريس العجائبية والغرائبية، التي تتميز بها المنطقة، كما فعل ابن بطوطة في وصف «كركدن» رآه لأول مرة حيث لم يثنه ذلك عن متانة الأسلوب وجزالة اللفظ وقوته حيث راح يصف حيوان وحيد القرن في منتهى الدقة جامعًا بين متعة الوصف وجمال التعبير، فأين نحن من أدباء الرحلة اليوم؟ حتى وإن سعت الكاتبة إلى ذكر أشياء مفروغ منها لتوحي بأن هناك أدب رحلة في الجزائر، لكنها لم تقدّم لنا مؤلفًا واحدًا للرحالة الذين ذكرتهم، حيث فتحت المزدوجتين غير ما مرة لتبين قول هذا وذاك من دون أن تذكر من أين استمدت الفقرة إلا إذا كانت مجرّد مذكرات شاهدة على رحلة سياسية أو مقالات أرّخت عند هؤلاء الكتّاب الجزائريين لما يشبه أدب الرحلة في معتقدهم، فالعنوان لا يعكس تمامًا ما حاولت الكاتبة أن توهم به القارئ في الموضوع ذلك أن هناك خلطا وغموضا بين الرحلة السياحية الموثقة كتابيًا وأدب الرحلة الذي هو جنس أدبي مستقل بذاته له معايير محددة، فلقد ألفينا الأمر مجرد مذكرات تشبه إلى حد بعيد سردا تاريخيا لأهم ما توقف عنده السائح لمنطقة الحج بالنسبة للرحالة السابقين الذين حاولت الكاتبة أن توهمنا بأنهم روّاد أدب الرحلة الجزائرية! ومن دون منازع، لكن أين هي أعمالهم؟ فهي تقول: «وركز بعض كتّاب الرحلة الجزائريين على التعريف بالتاريخ الفردي للأشخاص والتعريف بأبرز أعلام العرب، والمسلمين الذين استدعت الضرورة الأسلوبية والرغبة في تخليصهم، واستخلاص العبرة منهم، والاقتداء بهم بالرجوع إلى ماضيهم..».

خلط بين أدب الرحلات والسياحة الثقافية

          والواقع أن هناك خلطا تارة بين ما يقدمه كاتب التراجم والسير من بحث زمكاني لأجل موضوعه وما يقوم به الرحالة المستكشف لتلك الاختلافات والتناقضات الموجودة عند مختلف المجتمعات التي زاروها، مثل استكشاف الرحالة الإنجليز لبادية المشرق العربي وحواضرها المختلفة سيرًا على الأقدام عبر مسالك شاقة ودوّن أدباؤهم بداية القرن الماضي بأسلوب أقل ما يقال عنه أنه أدب الرحلة - وهناك التباس تارة أخرى بين دور الأدب المقارن في استجلاء الظواهر الأدبية الفنية وإبانتها، ودور الرحالة في الإبقاء على عناصر التشويق والتميّز، هذا التشويق والتميّز الذي لا يمكن مصادفته أبدًا في الأماكن المقدسة بالحجاز وقاهرة المعز بمصر لأنها في الأصل سياحة دينية وثقافية، فاستكشاف مكتبات صادق الرافعي التي تضم أعمالاً سمعية، وأخرى نقدية فريدة في حي من الأحياء التي عاش فيها لا تعدو إلا أن تكون سياحة ثقافية قام بها السائح محمد دبوز، ثم صاغها في أسلوب صحفي تقريري بعيدا عن أدب الرحلات وبانبهار زائد عن اللزوم بالرواد، طه حسين والطهطاوي حين وصفهما لباريس ببلد الثقافة المتميزة، كأنه بصدد ترجمة شخصية لعلم من الأعلام معروف عند العامة والخاصة وبحماسة جعلته يتناسى - مثله مثل صاحبة المقال - أن مصطفى صادق الرافعي واحد ممّن أضرم الثورة على الفساد واللادينية والميوعة في العلن، وجعل من رسائله المشفّرة بالعشق والهيام لمي زيادة عنوان تفوّقه اللاديني في السر! ولاغرابة في أن يكون رجال الدين والأئمة - الأموات والأحياء - في شبه الجزيرة العربية والشام إذن محل اهتمامات زوّار البقاع المقدسة والسياح لمعالمها الأثرية من الجزائريين، فكل الجزائريين الذين ذكرتهم الكاتبة مَن أقاموا مطولاً في رحلتهم السياحية ذوو ميول دينية عشقوا التراث الديني في السعودية وسورية وبغداد، فهموا إلى تدوين ملاحظاتهم في شكل خواطر ومذكرات متراوحة بين التأريخ والتقرير، وكذلك فعل أبوراس ناصر وأبو القاسم سعدالله ومحمد ناصر، وكذلك كان أصحاب التوجه الأدبي الذين زاروا مصر والشام - باستثناء الأمير عبدالقادر الجزائري في أول رحلة له مع والده محيي الدين، حيث ذكرت جل كتب التاريخ أن هدفها الرئيسي هو تنمية وعيه وتهيئته للحكم وليس بغرض أداء فريضة الحج فقط، على اعتبار بعد المسافات بين مختلف الحواضر ذات الجنب الديني والثقافي معًا، فيسعى كل من قَدِم لضرب العصفورين بحجر واحد بقدر المستطاع، وإلا يسمى ناسكًا أو باحثًا وليس رحّالة، من هؤلاء  ممن كانوا سياسيين كتوفيق المدني وعثمان السعدي اللذين أكثرا التدوين والتقرّب من الشخصيات المهمة بعد تكليفهما بمهام سياسية في كل من دمشق والقاهرة: الأول في الجانب السياسي والتاريخي، والثاني في بعثته الدراسية والصحفية لمساندة الشخصيات الثورية في القاهرة.

          أما عن نصوص أدبية تتبع رحلات هؤلاء وسياحتهم بالشرق الأوسط، فلا ندري عن أي نصوص تتحدث الكاتبة، ولكي تحدث الالتباس أضحت تختم كلامها عن اللغة المستعملة وهي لغة الرحلات، والكل يعلم أن اللغة في الأدب خطاب، وأن خطاب واستشهاد وحوارات شخصيات هؤلاء الرحالة السيّاح لا يرقى إلى مستوى أدب الرحلة في مذكراتهم وتقاريرهم، فشتان بين هذا وذاك إن على المستوى البياني أو على المستوى الأدبي والدلالي - ما عدا الاستشهادات المنقولة عن أمهات كتب التراث الإسلامي والأدبي العربي التي تبقى ذات مستوى رفيع - ولحاجة في نفس يعقوب، ولمزيد من الخلط، دأبت الكاتبة على التنويه بأسلوب أدب الرحلة في استحضار التاريخ وتوظيف مصادره، وتنويع السرد والاستطوال وفن المقامة في كل مرة، لكننا لم نجد هذا كله في كتابات السيّاح الجزائريين بطريقة تجعلنا ندرجهم في خانة الرحّالة، معاصرين كأحمد منور وعثمان سعدي أو محدثين كتوفيق المدني ومحمد الغسيري.

          وخلاصة القول، إن الأدب المكتوب بالعربية في الجزائر يخلو من هذا الجنس الأدبي، غير أن شطط المرتحلين السياح أساتذة بجامعات جزائرية إلى المشرق العربي، أرادوا غير ذلك متعاضدين متكاتفين ذرًا للرماد في العيون، وتشبها وتقليدًا مهووسًا بطه حسين ونجيب محفوظ وتوفيق الحكيم، ومحمد عبده وسعد زغلول والطهطاوي وغيرهم، وفيما يقبع فن القصة والرواية والنقد الأدبي في الحضيض، ومازالت أقسام التاريخ والأدب بتلك الجامعات تمنحهم المنح لمباشرة تلك السياحة التي تتمنّع عنها جيوبهم، كما نستشف من كلام أحمد منور: لا يريد عيشة أكثر من عيشة «سبعة عشر جنيهًا!»، فكم هو شاق أدب الرحلة الجزائرية الحديثة إلى المشرق ومكلف، وسهل مطواع التجوال الجزائري الحديث في المشرق وممتع.

بوزيان السالم بغلول - الجزائر