تعقيبًا على موضوع «نشر الإسلام أسئلة الحاضر.. وإجابات الأمس»

 تعقيبًا على موضوع «نشر الإسلام أسئلة الحاضر.. وإجابات الأمس»
        

          أحييكم وكل العاملين في المجلة الغراء «العربي» وأتمنى لكم دوام التوفيق والنجاح في عملكم، وبعد:

          لقد قرأت مقال الدكتور سليمان إبراهيم العسكري الافتتاحي الرائع في حديث الشهر في العدد 621 - أغسطس 2010م، بعنوان «نشر الإسلام أسئلة الحاضر.. وإجابات الأمس» والذي لفت انتباهنا إلى جملة من الأمور المهمة، وقد ولّد عندي بعض الملاحظات.. أوجزها باختصار تتمة للفائدة، هي:

          الأولى: أهمية البحث المستفيض حول تاريخ أمتنا الإسلامية، التي أقامت حضارة عظيمة، قدمت من خلالها أصولاً ثابتة في مختلف نواحي الحياة السياسية والاقتصادية والفكرية.. إلخ، ومثلت بمفردها حضارة زاهرة في العالم المعروف في العصور الوسطى - وهي الفترة الزمنية الممتدة من عام 476م إلى 1453م - بل إنها أثرت في غيرها من الحضارات المختلفة خصوصًا الحضارة الأوربية إبان عصر نهضتها في العصور الحديثة - والتي تشمل القرون «14 - 15 - 16» الميلادية - حتى قيل إنه لولا الحضارة الإسلامية لتأخرت النهضة الأوربية عدة قرون.

          الثانية: يجب على الباحثين في التاريخ كالمؤرخين، أن يتصفوا بالقيم الأخلاقية الأصيلة من رحابة الصدر، وسعة النظر، والنقد النزيه، والدقة العالية، والتمحيص الشديد، والبعد عن الكذب والتزوير والاختلاق في الحقائق، وغيرها الكثير، لكي يكون إنتاجهم صحيحًا ونافعًا للبشرية. والحقيقة أن المستشرقين - وهم تيار فكري يعنى بالدراسات المختلفة عن الشرق الإسلامي والتي شملت حضارته وأديانه وآدابه ولغاته وثقافته - قد انقسموا إلى قسمين:

          القسم الأول: منصفون، يتسمون بالإنصاف في دراساتهم المختلفة.

          القسم الثاني: متعصبون، يتسمون بجورهم فيها، فنلحظ أنهم يعمدون إلى قلب الحقائق، وتشويه الوقائع، ونسج الافتراءات المضللة، والتزوير المتعمد في أبحاثهم وكتبهم التي صنفوها حول الإسلام وشريعته والرسول صلى الله عليه وسلم والتاريخ الإسلامي واللغة العربية... إلخ. والتي من الأفضل أن ترمى في مزبلة التاريخ، لانعدام الفائدة منها.

          الثالثة: ضرورة المحافظة على اللغة الأم (العربية الفصحى)، عن طريق الاهتمام بعلومها المختلفة، من نحو وبلاغة وصرف وقراءات، بالإضافة إلى المعاجم والقواميس اللغوية، التي تحفظ اللغة من الزوال والاضمحلال، من حيث معانيها وتراكيبها النحوية الصرفية... إلخ، وتدريسها للطلاب في مختلف المراحل الدراسية، لإجادتها كتابة ونطقًا واستخدامًا في توسيع ثقافاتهم الأدبية والعلمية.

          وإنني أتعجب من بعض الذين يحاولون اغتيالها ووأدها، من أجل إحلال اللهجات العامية أو اللغات الأجنبية محلها، لكي تصبح لغة القراءة والكتابة والتعليم. والأسوأ من ذلك الاتهامات بأنها أصل التخلف الحضاري للمسلمين، وهذا أمر مردود، فالدراسات التاريخية الموضوعية والعلمية المنهجية المنصفة تؤكد الحقيقة التي لا تقبل مجالا للشك أنها لغة الدين والعلم والتاريخ والحضارة.

          الرابعة: أن الفتوحات العربية الإسلامية كان هدفها الأساسي «ديني» وهو نشر الدين الإسلامي وتعاليمه العظيمة في أوساط أبناء شعوب العالم، وكان المسلمون الفاتحون يتجنبون كل أساليب التخريب والتدمير والإفساد في البلدان التي يفتحونها، فضلا عن اتصافهم بالتسامح الديني، لأن الإسلام علمهم عدم إكراه أي إنسان على اعتناقه بالقوة، قال الله تعالى: لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيّ  بعكس الحملات الصليبية التي بدأت في أواخر القرن الخامس الهجري (الحادي عشر الميلادي) بغية القضاء على الإسلام واستعمار بلاده بحجة تخليص بيت المقدس من أيدي المسلمين، ولكن حقيقة الأمر أن لها أهدافًا أساسية أخرى عدوانية وتوسعية من سياسية واقتصادية واجتماعية. أما الهدف الديني فقد كان عبارة عن قناع يغطي هذه الأهداف.

          وقد سيطرت عليها روح صليبية متعطشة للدماء، فقامت على أعمال العنف والقسوة، حتى أنهم قتلوا آلافًا من المسلمين عزلاً من السلاح ومنهم الطفل والمرأة والشيخ، وأحرقوا المكتبة العظيمة «دار الحكمة»، وكان فيها نحو مائة ألف كتاب... إلخ.

          الخامسة: إن قيادة المسلمين للعالم المعاصر بجميع مجتمعاته وأديانه ولغاته لن تتحقق إلا بابتعادهم عن الصراع العقائدي، والولاء المذهبي الضيق، والتخبط الفكري والسياسي، والرجوع الحقيقي إلى كتاب الله تعالى (القرآن الكريم) والسنة النبوية، بالتمسك بهما، وتنفيذ تعاليمهما في كل مجالات الحياة واقعًا ملموسًا، وسلوك الأساليب الحسنة لنشرهما، التي جاء بها رسولنا محمد صلى الله عليه وسلم من العلم، وحسن القول، والصبر، والحكمة، والعدل، وفهم الواقع على حقيقته، والتحرر من العصبية والتقليد والهوى، وأن يكون شعار ذلك قول الله تعالى: ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ . بالإضافة إلى سلوك طريق العلم النافع في كل مناحي الحياة، وذلك لكي يتميزوا في دينهم، ومعارفهم، وأخلاقهم، وأصول أنظمتهم، وسمو أهدافهم، وطهارة وسائلهم، وحينئذ سيتبوؤون المكانة المناسبة التي تؤهلهم لقيادة العالم من جديد.

ختاما:

          أتمنى أن تظل مجلتكم مدرسة فكرية حرة مستقلة، ومتصفة عند طرح موضوعاتها بـ «وضوح الهدف، وعمق الفكرة، وبعد النظر، ودقة المعلومة، وشمولية الرؤية، وواقعية الطرح»، لكي تسهم في القضاء على حالة التخلف أيًا كانت، التي أصابت المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها، وترتقي بمعارفهم في جميع نواحي الحياة الدينية والثقافة والسياسية والاقتصادية والاجتماعية والعلمية، وتعمل على بناء شخصياتهم المتكاملة، وتحميهم من السقوط الحضاري، وتمنحهم الفاعلية لشق طريقهم نحو العلم والتقدم والرقي، لحمل رسالتهم السامية إلى العالم.

فوزي أمين العزي
صنعاء - اليمن