أناشيد من ياقوت

أناشيد من ياقوت

ساهم أكثر من جهد في إيجاد سفر فني جميل يحمل هذا العنوان الذي بادرت الفنانة والخطاطة اللبنانية، المقيمة في المغرب. يسار نعمة صفي الدين إلى إِبْدَاعه برفقة الفنان السوداني المقيم في إسبانيا راشد دياب.

جاء هذا السفر على شكل محفظة مقاسها 52 × 50 سم، تضم ثماني لوحات فنية، تتألف كل منها من نص لإحدى رباعيات عمر الخيام أنجزت بالخط الكوفي الحر التشكيل ليسار صفي الدين، أدمجها راشد دياب في أرضية فنية ملونة من إبداعه ومع كل لوحة نموذج للرباعية المنفذة، قام بخطها بالخط الفارسي الخطاط المغربي محمد أمزيل .

قام بطباعة هذا السفر- المحفظة بتقنية الليتوغراف الفنان الإسباني ألفريد و بيكر. وقد أنجز هذا العمل بثلاثين نسخة مرقمة من 1 إلى 30 على ورق فابرانو بمحترف " مدني " بمدريد. وأشرف عليها الفنان المغربي المعروف محمد المليجي والناقدة فاتن صفي الدين.

قدم لهذا السفر ثلاثة أدباء عرب هم الروائي السوداني الطيب صالح والشاعر اللبناني عباس بيضون والروائي المغربي محمد زفزاف. وألحق به كتيب يشمل دراسة باللغتين العربية والفرنسية بقلم الخطاطة يسار صفي الدين حول حياة الخيام ورباعياته.

الفنانة وتجربتها

والفنانة يسار نعمة صفي الدين من مواليد عام 1936 وهي مقيمة في الدار البيضاء منذ عام 1988 وقد درست الخطوط الكوفية بأنواعها واهتمت بتاريخ ونشأة الخط العربي قبل أن تتخصص في تصميم المجوهرات الإسلامية وقد انتسجت إلى معهد تعليم الخطوط العربية والإسلامية في باريس وتعلمت على يد الخطاط العراقي عبد الغاني العاني.

لدى سؤالنا الفنانة يسار نعمة صفي الدين عن سبب اختيارها رباعيات الخيام بالذات موضوعا لتجربتها الفنية المشتركة مع الفنان راشد دياب، كان جوابها أن الأمر أبعد ما يكون عن المصادفة. فثمة إرادة مسبقة تكمن وراء هذا الاختيار تمتد إلى سنوات خلت. فللرباعيات سحرها الخاص المتجدد على الأذن العربية، ولابد من مشاركة حسية تتجاوز السمع لتلامس الوجدان بشكل أكثر حميمية. وهل أكثر من البصر ارتقاء بالحواس؟

نحن - إذن - أمام لمسات مشتركة تجمع عالم راشد دياب السري والغامض والمفعم بالدلالات اللونية الفاضحة والساترة على حد سواء، بعالم يسار المشدود بمنتهى الإشراق والصوفية إلى عالم التراث، الطامح أبدأ إلى الاكتواء، وبإصرار بشمس المستقبل.

في مختلف مراحل تجربتها الفنية. حددت الفنانة يسار نعمة صفي الدين شخصيتها على أسس واضحة، فهي على العكس من الفنانين المعاصرين الذين أبدعوا في منح الحرف العربي ليونة تفر به من المنحى التشكيلي المعاصر، لجأت إلى فن واحد من فنون الخط العربي، وهو الخط الكوفي اليابس " أو المزوي " منه تحديدا لتحافظ على نسقه الجمالي وشروطه التقليدية في مجال رسم الحرف وشكل الكلمة، لكنها عمدت إلى إعادة توزيع الكلمات على أسس جديدة منحت التعبير الخطي قدرة هائلة على التفجر والحركة والديناميكية. فكيف تم تحويل القاعدة إلى انفجار والسكون إلى ديناميكية؟

أحست يسار نعمة صفي الدين، بفطرة الفنان وتلقائيته، بأن التمسك بالقاعدة وحده من شأنه أن يشد خطواتها باتجاه الماضي. وهو أصعب على الفنان من الإحساس بتيبس خطواته وجفاف أنامله، وهو المورقة خطاه والمتوهجة أصابعه أبدا " والمتوجهة على حد سواء " باتجاه المستقبل؟!

لم تجعل يسار خطوطها مواعظ معلقة في فضاء الذاكرة، كما يفعل الخطاطون التقليديون، بل لجأت إلى الفضاء التشكيلي كبديل للفضاء السكوني المكتفي بذاته، مانحة خطوطها طاقات تعبيرية جديدة تتجاوز وعاءها الهيكلي الذي انصبت فيه منذ قرون. إلا أن ما يستوقفنا في تجربة الفنانة، وما أشرنا إليه آنفا، هو تميز تجربتها عن تجارب الفنانين الذين عملوا على تطويع حروفهم ومنحها سمة العبور إلى عالم التشكيل المعاصر، فالحرف العربي المنتمي إلى الخط الكوفي الذي يستهوي الفنانة، يستعصي في أحيان كثيرة على الالتواء والتشكل فهو صريح في هويته، واضح كل الوضوح في تجذره. ولابد إذن في هذه الحالة من البحث عن سمات بديلة تفتح أبواب التعبير التشكيلي بكل جمالياته ومؤثراته أمام تجارب الخط العربي التي منحتها الفنانة وقتا وجهدا ثمينين.

هنا.. تلجأ يسار إلى اللون، تحاول استنطاقه وشحنه بمختلف الأحاسيس والمؤثرات التي تعج بها خطوطها الطامحة إلى الخروج من عزلة الحرف ورماد الذاكرة إلى آفاق المستقبل وإشراقاته المتعددة. وقد لا يكون اللون كافيا وحده، إلا أنه يبقى رهانا من الرهانات العديدة للفنانة. لم تذهب خطوط يسار نعمة صفي الدين - إِذْن - إلى عالم التشكيل المجرد، ولم تعان غربته بل استحضرت حالتها التشكيلية الخاصة بها، جامعة بذكاء ودراية بين عالمين قد يبدوان متناقضين إذا تناولناهما بشكل منفصل، لكنهما متفاعلان ومتلازمان في الفهم الجدلي الحي للواقع والفن على السواء : عالم التراث بكل مرجعياته وجذوره الضاربة في القدم، ويمثله هنا الخط الكوفي تحديدا. وعالم الحداثة، حداثة الرؤية التشكيلية ومضامينها الإنسانية المنفتحة على كل ما هو تقدمي وجديد، والتي تجد ترجمتها في التوزع القلق والمشروع على العديد من الرهانات. ولعل أكثرها إثارة هذا البحث المشترك مع الفنان راشد دياب.

عرفت رباعيات الخيام ترجمات عدة إلى العربية لعل إنشاد كوكب الشرق أم كلثوم جعل أشهرها ترجمة الشاعر المصري الراحل أحمد رامي التي تبدأ بالمطلع الشهير: سمعت صوتا هاتفا في السحر.

إلا أن ترجمة رامي ليست الأفضل، كما يقول بعض النقاد والأدباء، وثمة ترجمات تفوقها قيمة من الناحية الفنية ومن ناحية دقة نقل المضمون الخيامي الصعب. ومن بين تلك الترجمات ترجمة الشاعر البحريني إبراهيم العريض واللبناني أمين معلوف والعراقيين أحمد الصافي النجفي وعبد الحق فاضل، وقد اعتمدت الفنانة يسار صفي الدين على ترجمة الشاعرين العراقيين والشاعر البحريني، ذلك أن هؤلاء الشعراء ترجموا عن الأصل الفارسي "مما زادها بالعربية ثراء واقترابا من روح الشاعر عمر الخيام " كما تقول الفنانة في الكتيب المرفق بالمحفظة، وقد جاء فيه:

"إن حكايتي ورباعيات الخيام ليست منفصلة عن اهتمامي وتعلقي بالخط الكوفي، فبعد أن عملت على تطويعه على طريقتي متفردا، جانحا، لا تربطه قيود ولا تحكمه قاعدة، تأتي الرباعيات لتكون بانطلاقها، الصدى لما تردده الفنون مجتمعة من إِيقَاعَات عذبة تتغنى بالإنسان وحريته وشغفه بالحياة ".

يكاد يكون العلامة الراحل عبد الحق فاضل المرجعية الرئيسية لهذا العمل، فإليه يعود الفضل الأول في إنجاز هذا الكتاب الفني، كما تؤكد الفنانة، ففي بلد أفريقي مثل ساحل العاج يندر أن تعثر على كتاب واحد بالعربية، غير أن الفنانة تعثر بمحض المصادفة، على نسخة قديمة من الطبعة الأولى لكتاب " ثورة الخيام " لعبدالحق فاضل، في أحد أسواق ساحل العاج ليصبح مرجعها وسلواها ومركز اهتمامها. والمعروف أن الطبعة الرابعة كانت قيد الإنجاز عندما انتقل الكاتب إلى رحمة الله سنة 1992. إلى جانب هذا الكتاب، اعتمدت الفنانة على ترجمة الشاعر أحمد الصافي النجفي والبحريني إبراهيم العريض - كما أسلفنا. وزاد من اهتمامها بالخيام قراءتها رواية " سمرقند " لأمن المعلوف المترجمة عن الفرنسية والتي تحكي حياة عمر الخيام كما تورد الفنانة اسم مؤلف آخر هو " عمر الخيام والرباعيات " للدكتور عبد المنعم الحنفي.

شهادات

من الكلمات التي قدمت للعمل، والتي كتبها كل من الطيب صالح، ومحمد زفزاف وعباس بيضون نقتطف الفقرات التالية:

يقول الروائي السوداني الطيب صالح عن " أناشيد من ياقوت ":

" كتبت السيدة الرباعيات بخط كوفي جميل، بحيث تبدو الحروف كأنها امتداد للمعاني في هارموني جمالي بديع. وأضاف الفنان البارع الدكتور راشد دياب أعماقا وأبعادا عجيبة لمعاني الشعر وخطوط السيدة يسار بألوان الياقوت والزمرد والعقيق والذهب والسندس والسماء والبحر والجبال، بحيث إن المتصفح للكتاب يجد نفسه بالفعل في غابة أو حديقة من نسج الخيال البحت لا نهاية لروعتها ".

ويقول الروائي المغربي محمد زفزاف:

" أستطيع أن أقول إن يسار استطاعت أن توفق في تقريب عالم عمر الخيام عبر الخط والألوان إلينا سوف يظل رقم 7 في ذاكرتنا كما ظل في ذاكرة الأجداد".

أما الشاعر اللبناني عباس بيضون فيقول في تقديمه:

" في رباعيات الخيام شيء من صور الجنة وروائحها وأطيابها فهذا الشعر يستدعي الجنة إلى الأرض، وفي ظني أن هذا ما فعله الفنانون المسلمون على الدوام : موسيقاهم ورسومهم وزخارفهم لا تفتأ تحلم بالحديقة، الحديقة التي انشبكت في حروف وتأسلبت في زخارف وتنمنمت في رسوم، فالحديقة صوت ورسم، وهي في سقف البيت وعلى أرضه وفي فنائه وبركته ذكرى الجنة".

الفنانة اللبنانية يسار نعمة صفي الدين

الرباعيات غمرتني بنشوة المطمئن،
أروت كياني بسلسبيل عذب،
وقاربت بأن تصبح "تلاوة"...
تلاوة حكيمة، رددتها أجيال عبر
قرون...
من بلاد الهند وفارس
جاءني نداء...
لمن هذه التراتيل؟
لمن كل هذه الأناشيد؟
إني أحسها تنبع من ذاتي وأحس معها
بأن نسائم الكون تلفح وجهي
وتنعش كياني..

 

فراس عبدالمجيد

 
  




شجرة الكلام مشكلة من أبيات الرباعيات





صفحات من الكتاب - اللوحات





الفنانة اللبنانية يسار نعمة صفي الدين





تداخل الألوان والحروف يكسب الرباعيات اسلوبا فنيا جديدا





تداخل الألوان والحروف يكسب الرباعيات اسلوبا فنيا جديدا