عبدالهادي الجزار.. ثروة باقية من الفن الجميل

عبدالهادي الجزار.. ثروة باقية من الفن الجميل

بالرغم من حياته الفنية القصيرة التي لم تتجاوز العشرين عاما، إلا أن ما أنجزه عبدالهادي الجزار من إبداع تشكيلي يتجاوز كل التوقعات، حتى أنه كان مدارا للكثير من الأطروحات الجامعية والدراسات النقدية التي تناولت تجربته الأصيلة.

هاهو الزمن يمضي، وتتوالى مدارس الفن التشكيلي متأثرة بما يحدث في العالم من منجز حديث على صعيد الإنتاج الفني، ليتأكد لنا كل يوم قيمة هذا الفنان الموهوب الذي خط مسارا مهما في الحركة الفنية العربية المعاصرة.

التقى الجزار أوائل الأربعينيات أستاذه الفنان حسين يوسف أمين الذي اختاره عضوا بجمعية " الفن المعاصر" في عام 1946 التي ساعدت الجزار على اكتشاف أسلوبه، ومهدت له الطريق للبحث عن فلسفة فنية يطرح من خلالها رؤية جديدة على الواقع الفني، ومن ثم يعثر من خلالها على رموزه وأشكاله ليخلق فنا له مواصفات شديدة الخصوصية ينتمي للجزار ذاته، وتأكيده للمعنى الذي شغله طوال سنوات إنتاجه، وهو السر الخفي عن معنى الحياة ومعنى الموت.

ولد عبدالهادي الجزار بالإسكندرية في 23 مارس عام 1925، وكان والده من رجال الدين، وانتقل إلى القاهرة في العام 1940، ثم التقى الفنان حسين يوسف أمين، وفي العام 1944 التحق بكلية الطب وأمضى بها ستة أشهر، وسرعان ما هجرها للالتحاق بكلية الفنون الجميلة، وفي العام 1946 أقامت جماعة "الفن المعاصر" أول معارضها في قاعة الليسيه الفرنسي بباب اللوق.

وبعد معرض الجماعة الثاني اعتقل الجزار هو وبعض الفنانين بسبب لوحة " الوجبة" الثورية ولم يطلق سراحه إلا بعد أن تدخل محمود سعيد ومحمد ناجي، وفي العام 1950 حصل على شهادة الفنون الجميلة وعين بالكلية مدرسا، وسافر إلى باريس في إطار معرض "مصر فرنسا" ثم أقام الجزار الكثير من المعارض بعد ذلك. وفي العام 1957 يحصل على منحة لدراسة الفن في إيطاليا لمدة أربع سنوات، كما اشترك في الكثير من المعارض في الداخل والخارج، وأقام العديد من معارضه بالبندقية وسان باولو وباريس والقاعات العالمية في بعض العواصم الكبرى، وحصل على الكثير من الجوائز المهمة الممنوحة له من الداخل والخارج. وفي 7 مارس من العام 1966 يغادر الجزار الحياة، وقد ترك خلفه ثروة من الفن، تمثل أهم تيارات الفن المصري، قال عنها الناقد الفرنسي "آلان رسيون ": "إذا كانت مسألة الهوية تقع في قلب التصوير المصري، فإن معالجة عبدالهادي الجزار لهذه المسألة تجعل من أعماله أكثر الأعمال المصرية مصرية وأشدها أصالة".

إن المتأمل لأعمال عبدالهادي الجزار الفنية سوف يدرك أن مجمل إبداعه التشكيلي كان معبرا عن:

أولا: موهبة فردية شديدة الفرادة، تتسم بإحساس فطري عارم، وحساسية تجاه التقاط أسرار الحياة ورموزها الخفية، والتعبير عن هذه الأسرار والرموز بوسائط تشكيلية نادرة وكاشفة عن تجربة شديدة الخصوصية.

ثانيا: إنها نابعة من مناخ فني عام كان يسود في تلك الحقبة من تاريخ مصر الفني.

لقد كان هذا المناخ الذي تفتحت فيه مدارك الجزار، والذي أسهم في تكوين رؤيته الفنية، وتكوين ملكاته الإبداعية يتسم بفوران، ورغبة في التجاوز، ومحاولة مواكبة ما يحدث في العالم.

كانت الأفكار الجديدة عبر المستشرقين والزائرين القادمين من وراء المتوسط، وعبر نهضة جديدة ناشئة تنفض عن كاهلها تراب القرون الوسطى في مصر، حيث تكونت الجماعات الفنية، وتصارعت الأفكار بين القديم والحديث على مستوى الثقافة والإبداع والموسيقى وكل الفنون بأشكالها المتعددة، تم اكتشاف الأساليب الجديدة في الرسم والنحت، وطرحت الدعوات للعودة والاستفادة من التراث الشعبي والمصري القديم، وكان جيل الرواد قد أرسى الملامح الجديدة للفن المصري المعاصر عند راغب عياد وصبري راغب ومحمد ناجي ومحمود سعيد، الذي تأثر الجزار بفنه كثيرا حيت ألهمه تأمل الروح المصرية الشعبية في تجلياتها المختلفة.

هذا المناخ شارك في تكوين وعي الجزار الفني، بالإضافة إلى وعي الجزار الخفي بالموت وأسراره، فلقد كان يدرك مدى خطورة مرضه، وبأنه يعيش في الحياة مثل الزائرين، الذين عليهم أن يرحلوا قبل الأوان، وهم في زهرة أعمارهم، هذا الإحساس جعله يتمتع بشفافية تقترب من النبوءة، وبحساسية تنفذ إلى روح الواقع الغامض ذي الطابع الأسطوري.

حتى أن مرحلة الجزار الأخيرة والتي واكب فيها ما أنجزته ثورة يوليو، وعبر عنها بالعديد من اللوحات مثل لوحته "السد العالي " حتى هذه المرحلة لم يهرب الجزار من ربقة إحساسه بالموت.

وعبر لوحات الجزار الكثيرة التي تعطي إحساسا بفوران الحياة وتوهجها، والمتأثرة بذلك المناخ الأسطوري الذي جسده الفنان في لوحات "مواليد عرايا"
و "أبوالسباع" و "فرح زليخة" و "بورتريه للسيدة ليلى عفت" و "قارئ البخت"
و "شواف الطالع" و "محاسيب السيدة" و "الدرويش والفيلين" و "المجنون الأخضر".

فوران الحياة

يقول المصور عصمت داوستاشي في دراسته عن عالم الجزار: "الجزار لم يكتشف عالما غير موجود، ولم يبتكر حلا تشكيليا يمثل إضافة لفن التصوير المصري المعاصر. إنه لم يفعل غير ما يفعله كبار المصورين المجددين حين يعكفون على رسم لوحات متتالية في مضمون استحوذ على خيالهم الخصب في معمار تشكيلي يتسق مع وجدانهم العريق وطموح الإبداع ، المتحفز في تجسيد التيمة الشعبية التي تتمحور حول الضريح وصناع الأحجبة والتعاويذ ومنشدي الأوردة والأدعية في حلقات الذكر والتواصل والهلوسة في عتمة البخور والمجاذيب والدراويش والواصلين رافعي البيارق والأعلام وآكلي الثعابين والحواة وملتهمي الشعلات وراشقي الأسياخ في أجسادهم ولاعبي السيرك والاستعانة بالسحر والغيبوبة في جو من الذهول الهستيري في أردية صوفية تبوح فيها كل عطور الغرائز الإنسانية".

يكشف هذا النص مدى علاقة الجزار الوثيقة بحي السيدة زينب الذي نشأ فيه، بتاريخيته القديمة، وحواريه، وأزقته المسحورة والمغلفة بسحر المتاهات، وأنماط شخوصه التي سكنت وعي الفنان منذ طفولته المبكرة.

لقد أبدع عبدالهادي الجزار، في مرحلته الأولى التي امتدت من العام 1948 وحتى العام 1959، هذا العالم قادما إليه من رسم القواقع حتى آخر حياته التي انتهت بأعمال تجريدية ثورية شديدة التعقيد والمعاناة.

وفي زيارة لمعرضه الأخير "اللوحات الصغيرة للفنان عبدالهادي الجزار" والمقام بصالة عرض "مراسم " بمناسبة مرور 75 عامة على ميلاده والمعروض به 40 لوحة بالحبر الشيني والجواش والألوان الزيتية، كما يستضيف المعرض أهم أعمال الجزار مثل " فرح زليخة " وبورتريه " زوجة الفنان، ولوحة "المجنون الأخضر" و "البقعة المجهولة".

صالة "مراسم " تقع في حي مدينة نصر البعيد، صالة أقامها محبو الفنون الراغبون في ذيوعه، شقة صغيرة في عمارة وسط أبنية كثيفة، وشح هائل من الزائرين.

حين صعدت حتى الدور الرابع وجدت الصالة مغلقة فضغطت على الجرس، وحين صلصل العصفور في الداخل، فتحت لي سيدة شي منتصف العمر ، هادئة وورعة، تذكرك بأم ابنك الطيبة الجالسة الآن تشاهد التلفزيون، تتبعها آنسة تكاد تكون بنتها.

ألقيت التحية ودخلت.

كان الجزار يستقر على الجدران، لوحات ومراحل من حياته الفنية المختلفة، خطوت داخل الصالة وانتابني إحساس بأن روح الجزار تشيع في المكان ببسمته الوادعة وطوله الفارع، وكأنها تستقبل الزائرين، قلت: كل إلى فناء إلا ما يبدعه المبدعون، فهو خالد مثل عناصر الطبيعة، وضوء الشمس والريح.

انصرفت السيدتان وتركتاني في حالي حيث حجرة جانبية، على جدارها قليل من الصور وعلى أرضها مزهرية من زجاج، بدأت شحذ خيالي والتأمل الهادئ في المكان، وبخيالي عبرت زمانا ولى، وبدأت التفرس في العناصر المكونة لخلق لوحة.

كان الجزار يحلم من خلال الوجوه، والأشياء، مجسدا المشاعر الإنسانية فوق الملامح، ومن خلال تلك المشاعر تستطيع التعرف على الشعور الجمعي لأمة عبرت التاريخ، وعبرت الأزمنة تاركة الكثير في المكان وفي الذاكرة من الفنون.

زليخة والزهرة

كانت تستقر على الجدار لوحة "فرح زليخة" القابضة على زهرة، قد تكون وردة، أو ربما قرنفلة حمراء مثل الدم، في غصنها تتشبث ورقة خضراء حية فيما تهم زليخة في غرسها في آنية ربما من زجاج أو فخار. كانت زليخة ترفع كفها للسماء، ويميل رأسها على كتفها مستقرا على شال أخضر مثل زرع مصر، وبنت صغيرة تحمل وجها غجريا غامضا، تلبد عند قدميها وتنظر إلى عالم غامض متأملة العيون التي تتأمل اللوحة، والقطة البيضاء تقعى وكأنها غافية تحلم. تزدحم الجدران بوجوه الجزار الفطرية، المتوحشة، منتمية للفن البدائي الأسطوري، تدفع موتا محاصرا، وأبدية تواجه بنظرة عين مسحورة، ومزهرية تنبت وردة الأمل، ولون في خضرة ماء البحر.

لوحة "المجنون الأخضر " يشبك فيها المجنون وردة على أذنه التي يتدلى منها قرط من الذهب ينتهي بخرزة الحسد، وذراعان تخرجان من الرأس في سديم من لون أصفر، وعينان متقدتان بالجنون لفك العمل والسحر.

فواقع ووجوه، ومراكب على الشاطئ، وبورتريهات لأحبة صادفهم الجزار يوما ومضى، ثبتهم على الورق سواء بألوان متعددة أو بالحبر الشيني ليبقوا خالدين عبر السنين.

كنت قادما من مدينة مشغولة بأسعار لوحات الجزار التي تعدت مئات الألوف من الجنيهات، وبأن رغبة البعض في الاقتناء قد هزمت غلو السعر، وحين خرجت سيدة المعرض سألتها عن حقيقة السعر فأكدت أن ما يقال حقيقة، وأن بعض اللوحات برغم ارتفاع سعرها فإن زوجة الفنان لا تريد التفريط فيها بأي ثمن. تساءلت: هل هي هجمة من الأغنياء، ورغبتهم في حفظ ثرواتهم في شكل لوحات تتضاعف أسعارها مع الزمن، مثلما يفعل اليابانيون مع الفن الأوربي؟

أم أن ثمة مباهاة مظهرية تشيع الآن بين بعض الطبقات بتزيين حوائطهم وجدران قصورهم بلوحات من الجزار ومحمود سعيد وحسن سليمان وبعض اللوحات الأوربية؟

أم أنه الوله الفني يدفع البعض لشراء اللوحة رغم سعرها المرتفع؟

وعاد السؤال يستفزني:

هل ارتفاع الأسعار الآن في سوق فني، وفي مدينة مثل القاهرة يعوق انتشار اللوحة، ورواج الفن، ويحد من تداوله؟

هل ارتفاع سعر اللوحة دلالة رواج فني وازدهار، أو هو تعبير عن ثراء طفيلي كاذب؟

هذه الأسئلة وجهتها لبعض نقاد الفن، والفنانين، ومن قابلتهم من العامة، هؤلاء الذين يعيشون يومهم، يطلبون الستر، وتدبير لقمة العيش.

ارتفاع سعر الذوق

قال الناقد والروائي ادوار الخراط:

لا يحول ارتفاع سعر اللوحة دون انتشار الفن التشكيلي، فالانتشار يمكن أن يحدث عبر المستنسخات، وفي الجرافيك، المهم مناقشة القضية على مستوياتها المتعددة، الثقافية والاجتماعية والاقتصادية.

هل يعني ارتفاع السعر ارتفاع الذوق؟

أعتقد أن ما جرى في الواقع من متغيرات على مستويات عدة انعكس بالضرورة سواء سلبا أم إيجابا على حالة الفنون جميعا.

وقال الفنان عزالدين نجيب:

أعتقد أن الفنان ذاته هو جزء من الأزمة، لأنه يضع السعر الفلكي للوحة، تعويضا عن وضعيته غير اللائقة في المجتمع حيث يعاني العزلة والتهميش في الوقت الذي يرى فيه رموز السلطة من الفنانين يقيمون أعمالهم بمئات الآلاف من الجنيهات، بلغ سعر لوحة أحدهم ربع مليون جنيه.

وهذا في حقيقة الأمر ضد وصول الإبداع الحقيقي إلى الجماهير التي تشعر بالخوف أمام ذلك العالم المادي المتوحش والذي يعطي فرص اقتناء الفن للأغنياء وأصحاب الملايين.

مأساة الاقتناء هي حجب اللوحة عن الناس، ويمكن ذيوع اللوحات من خلال كتب تصدر عن الفنانين، مثلما أصدر المركز الثقافي الفرنسي كتابه عن الجزار، وصندوق التنمية عن محمود سعيد، الذي يستعد الصندوق لإصدار طبعة شعبية منه.

وقال الفنان عدلي رزق:

من قال إن الفن يقيم بالمال أو بالشهرة؟

لو حتى فوق أي تقييم، ولم أرسم يوما تحت حد حاجة من الحاجات. أنا أمارس التصوير لأنني أحب ذلك، وأرسم وليس في رأسي ذيوع لوحة أو انتشارها، وأراهن على التاريخ، أسعد كثيرا بزيارة معرضي، لكنني أدرك أن رواج الفن يخضع لكثير من المواضعات الإعلامية، وذكاء الفنان الاجتماعي، وصلاته بالسلطة وغيره من أساليب قد تساهم في انتشار اللوحات وذيوعها.

أنت تذكر حديثنا الدائم حول دور الإعلام، وتبني المؤسسة لبعض الفنانين التابعين لها.

كل هذا الهراء لا يعنيني، ما يعنيني هو إنتاج لوحة تخصني أنا، سواء راجت أو لم تنتشر.

ومن الغريب أنني استطعت عبر السنوات الماضية أن أخلق حوارا مهما مع الواقع الفني في مصر والعالم العربي من خلال معارض تتصف بالخصوصية الشديدة ، وبأسعار لوحاتها منخفضة السعر.

أنا أراهن على الآتي .. على الزمن.

ويقول الفنان حلمي التوني:

كما تعرف أن موجة اقتناء اللوحات بدأت أوائل السبعينيات مع أنهار المال المتدفقة، وأنا أذكر أنه كانت هناك صالة للعرض بشارع قصر النيل ويجاورها مطعم، وأن رجال الأعمال المصريين كانوا يصطحبون رجال الأعمال الأجانب إلى هذا المطعم، وبعد العشاء وعند الخروج كانوا يمرون بهذه الصالة حيت يهدون الأجانب لوحات على سبيل الرشوة والعمولات المدفوعة.

أيضا راج في الفترة الأخيرة أن فنانا مصريا مخضرما غزير الإنتاج قد وضعت لوحاته على الإنترنت وسعرت بعضها بثلاثة ملايين دولار ، ثم اتضح أن محترفا جمع لوحات هذا الرسام والذي يقتني عشرات اللوحات من أعماله قام بهذه اللعبة لرفع أسعاره.

هذه ظواهر غير طبيعية، وهذا لا يعني أن الأعمال الجيدة على مستوى الوطن العربي والعالم لم ترتفع أسعارها، فلقد بلغت لوحة لبيكاسو اقتناها بعضهم بسبعة آلاف دولار في السبعينيات وباعها في العام 1997 بمبلغ 49 مليون دولار.

أما عن أسعار لوحات الجزار، فهذا شيء عادي جدا أن تصل أسعار بعض لوحاته إلى نصف مليون والمليون، فالجزار فنان لا يتكرر كثيراً.

وحين خرجت من صالة العرض وقابلني عامل الجراج تحت العمارة، وكان مشغولا بغسيل سيارة واقفة، وقد شمر ثوبه، وحين سألته: إن كان معه مليون جنيه هل يشتري به صورة ؟ نظر تجاهي وأعطاني ظهره قائلا : مليون جنيه.. إيه يا عم.. هو احنا لاقيين ناكل!

 

سعيد الكفراوي

 
  




المجنون الأخضر





لوحة ودن من طين وودن من عجين





فرح زليخا





لوحة صندوق الدنيا





عبدالهادي الجزار في مرسمه





لوحة آكل الثعابين