خليفة التليسي.. إنجازات أدبية وحضارية

 خليفة التليسي.. إنجازات أدبية وحضارية
        

          لو كان الأديب الليبي الكبير الدكتور خليفة التليسي الذي فقده الأدب العربي والأمة العربية أخيرًا، أديبًا من أدباء المركز «بيروت أو القاهرة على سبيل المثال» لما كان شأنه الثقافي أقل من شأن أدباء هذا المركز الكبار. ولعله كان يفوق أكثرهم، استنادًا إلى ما تركه من آثار جليلة تضعه في مصاف كبار المثقفين والمنوّرين العرب في القرن العشرين.

          للابتعاد عن المركز ضريبته الباهظة التي دفعها التليسي كما دفعها سواه من الأدباء الكبار الذين لم ينعموا بأنوار المركز ونجوميته. لقد نال من الشهرة أقل مما يستحق، في حين حصد الكثير من أدباء المركز أكثر مما يستحقون لأن الأضواء والشاشات كانت بتصرفهم. لقد أدرك هؤلاء من العظمة ما هو مشكوك بأمره، في حين كانت العظمة الحقيقية التي ستدرك بعد حين، من أولئك الذين وهبوا عمرهم ونور عيونهم، ومنهم التليسي، لتلك الثقافة الجادة المعمّقة التي تتوخى غرس البذور، وري العقول، والحض على كل ما ينفع الناس ويحرّض عقولهم ويستثير الأسئلة في نفوسهم.

          الليبيون لا يخفون عتبهم على إخوتهم العرب، إذ يرون أن أديبًا كبيرًا مثل خليفة التليسي كان ينبغي أن يوليه العرب من العناية أكثر مما أولوه. هم يرون أن العمل الثقافي الليبي عمل مسكوت عنه، أو مضطهد. ولكن آخرين من أبناء الأقطار العربية، خارج ما يسمى بالمركز، يقولون أيضًا ما يقوله الليبيون، فليس هناك إذًا موقف إيديولوجي، أو موقف عن سابق تصور وتصميم، كما يقولون باللغة الجنائية، وإنما هناك إهمال غير مقصود ناتج عن حضور المركز حضورًا طاغيًا في حياتنا الثقافية، كما هو ناتج عن اتساع رقعة الوطن العربي وغياب الأطراف والأقاليم في زحمة العمل اليومي، وانعدام الرؤية القومية إلى حقيقة المشهد الثقافي العربي.

التليسي في قلب المشهد الثقافي

          على أن خليفة التليسي كان في قلب المشهد الثقافي في الشمال الإفريقي على الخصوص، سواء في بلده ليبيا أو في تونس أو المغرب الأقصي، وفي ليبيا بالذات كان للتليسي مقام رفيع كشخصية وطنية وثقافية. وكثيراً ما لامست سيرته حدّ الأسطورة كرجل ذي طابع ريادي وتنويري من نوع الرجال الذين تعرفهم الأمم في مفاصل معينة من تاريخها.

          بدأ التليسي حياته العامة وزيرًا للثقافة والإعلام في بلاده زمن النظام الملكي السنوسي، كان دون الثلاثين من عمره عندما جذب اهتمام المسئولين، فولّوه الوزارة وهو في هذا العمر الغض، أديبًا مهمومًا بالأدب العربي، واللغة العربية وبتاريخ بلاده.

          من كتبه الأولى كتابه عن «الشابي وجبران» يجلو فيه جوانب من شخصية كل من هذين الشاعرين الرائدين، ويعرض لنماذج من أدبهما، ويأتي بآراء في مذهبهما الشعري المجدد لم يأت بها سواه. وفي مراحل أخرى من حياته، سنجد التليسي يعود إلى الشابي وجبران ورفاق جبران من أدباء المهجر. ومن أطرف ما ذكره مرة، في بحث له، أن الشابي كان أول مَن أسكن الشعر في تونس وبقية الشمال الإفريقي، إذ قبله لم يكن هناك لا شعر ولا شعراء!

          وفي باب الأدب أيضًا، سيُعنى التليسي في وقت لاحق، بترجمة أعمال بعض الروائيين والقصاصين الإيطاليين الكبار مثل برانديللو، شيخ أدباء إيطاليا والحائز على جائزة نوبل، إلى اللغة العربية. كان التليسي يتقن الإيطالية والإنجليزية وعنهما سينقل أيضًا أعمالاً لآخرين غير بيرانديللو، وسيضع قاموسًا ضخمًا إيطاليًا - عربيًا. كما سينصرف إلى ترجمة ما كتبه المستشرقون الإيطاليون من تاريخ ليبيا. من ذلك: «ليبيا منذ الفتح العربي حتى سنة 1911» لأيتوري روسي، و«طرابلس تحت حكم الإسبان وفرسان مالطة» لروسي نفسه، و«طرابلس منذ سنة 1510 حتى سنة 1850» لكونستانزو برنيا، و«الرحالة والكشف الجغرافي في ليبيا» لأثيليو موري، و«ليبيا أثناء العهد العثماني الثاني» لفرانشسكو كورو»، و«سكان طرابلس الغرب» لأوغسطيني، و«برقة الخضراء» لأثيلو تروتسي. وقد ظل التليسي معنيًا على الدوام بتاريخ بلاده، فنراه يؤلف كتابًا عنوانه «معجم معارك الجهاد في ليبيا 1911-1931» ليكمل خطواته التي بدأها في ميدان الترجمة والتأليف لمسيرة النضال الوطني الليبي وهو جهد علمي كبير وضعه التليسي بين أيدي الباحثين والمؤرخين الذين سيأتون بعده.

النفيس في كنوز القواميس

          والواقع أن الباحث يتحير وهو يتحدث عن الدكتور خليفة التليسي ويعرض لشتى وجوهه الأدبية والعلمية والثقافية. فهو باحث جاد كثيرالعطاء، وناقد أديب له باع طويل في هذا المجال، وشاعر كبير، ومؤرخ مدقق، ومترجم بارع في مجالات كثيرة، منها الشعر والأدب والنقد والتاريخ.

          بالإضافة إلى «معجمه الإيطالي العربي»، وضع التليسي في سنواته الأخيرة معجمًا سمّاه «النفيس في كنوز القواميس».

          كان هذا المعجم حصيلة جهود مضنية من البحث في بطون الأمهات، وثمرة صبر دءوب على التنقيب المتأني في كنوز التراث اللغوي العربي. وخلاصة سنوات عدة بذل فيها خليفة التليسي من صحته الشيء الكثير، وأعطى من نور عينيه الشيء الأكثر. ولاشك أن مثل هذا العمل لا يمكن أن يقوم به إلا عاشق للغة العربية.

          يقع المعجم في أربعة مجلدات عدد صفحاتها 2547 صفحة.

          وقد صدق التليسي في قوله عن «النفيس»: «هذا عمل ليس من أعمال الكسب، ولكنه من أعمال المجد: مجد اللغة العربية وواجب خدمتها جيلاً بعد جيل. وقليل هم الذين يُقبلون على أعمال المجد في عصرنا هذا الذي تغلّبت فيه قيمة النفع المادي على كل قيمة».

          ويرى بعض دارسي هذا المعجم أنه ليس من الموضوعية والإنصاف أن نقرن «النفيس» بمختارات المعاجم كمختار الصحاح ومختار القاموس، ذلك أن «المختارات»، وإن استقلت بغايتها ومنهجها، يبقى أصلها ملقيًا بظلاله عليها، ومغطيًا بعباءته فوقها، وتقف بجانبه كما يقف الابن الصغير بجانب أبيه الكبير. في حين أن «النفيس» قد استقل بشخصيته وكيانه عن «تاج العروس» وذلك بما أحدثه من تغيير شامل في ترتيب ألفاظه، وما قام به من تهذيب جوهري وتخريج واستخلاص وتركيز وتكثيف، وما أضافه من رجوع إلى الأصول التي اعتمد عليها صاحب «التاج» كما يقف الابن الكبير بجانب أبيه: يطاوله قامة، وينافسه علمًا، ويناقشه رأيًا، ولكنه يدين لوالده بفضل السبق، ويحفظ له حق البر والتقدير، ويعترف له بمكانة الأبوّة وشرف الأستاذية.

          ولخليفة التليسي خمسة مجلدات تمثل «مختاراته» من الشعر العربي قديمه وحديثه. ويرى الدكتور علي فهمي خشيم، أمين عام مجمع اللغة العربية بليبيا، أن هذه المختارات تدل على ذوق رفيع واطلاع واسع, برزت من خلاله شخصية التليسي حتى لكأنه هو صاحب تلك الروائع التي اختارها. ولا عجب فإن الشاعر لا يستجيد إلا الشعر الجيد.

المختارات من الشعر العربي

          والتليسي شاعر كبير متماسك اللفظ جزل الأسلوب حديثه في الوقت نفسه. وأن نظرة واحدة إلى ديوانه، لتضعه في الصف الأول من الشعراء المجيدين. وتكفيه قصيدته الرائعة: «وقف عليها الحب» التي تنبض بحب الوطن والتعلق به. وإذا قال التليسي شعرًا غزليًا انجذب المرء إلى تلك الصور البديعة التي يعرضها، وشُدّ إلى وصفه الرائع لمختلف حالات الحب والمجد والمحبوب كذلك.

          وقد أشار التليسي إلى أن من أهم ما دفعه إلى تقديم هذا العمل، أي «المختارات من الشعر العربي»، لفت نظر الجيل الجديد إلى ماضيه الزاخر بالأمجاد الفنية، خاصة أن هذا الجيل ينشأ على انفصام شبه تام عن تراثه. أما المناهج المدرسية التي وضعت للتعريف بالشعر العربي فلم تنجح في الغالب إلا في توسيع هوّة الانفصال هذه، والتنفير من التراث، وبالتالي الجهل بآفاقه الواسعة. لقد دعا عبر هذه «المختارات»، وهو الأديب الشاعر المتذوق للشعر، الحسّاس لمواطن الجمال فيه، إلى ارتياد هذه الواحات الفنية الفتانة لتذوق أجمل لوحات الشعر العربي والتأثر بها.

          ولاشك أن من غاياته في هذه المختارات غايات تربوية وقومية، فالشعر كان الحافظ لأيام العرب، وراوية تاريخهم وحامل قيمهم وفضائلهم.

          وقد نقل التليسي إلى العربية الأعمال الشعرية لكل من الشاعرين الكبيرين الهندي طاغور والإسباني لوركا في مجلدات عدة.

حضارة البحر المتوسط

          واهتم اهتمامًا خاصًا بحضارة البحر الأبيض المتوسط، ومنها الحضارة العربية الإسلامية ودور المسلمين الفاتحين فيها. وكانت كتابات كثيرة له تهدف إلى تمتين العلاقات بين ضفتي هذا البحر. والغريب أن الكتاب الأخير الذي صدر له، قبل رحيله بأشهر، عنوانه «البحر المتوسط - حضاراته وصراعاته» وقد نقله عن الإنجليزية ومؤلفه هو إرنل برادفورد. وجاء في مقدمة التليسي: «والذي أغراني بالعكوف على ترجمته الشعور غير العدائي الذي يحمله المؤلف للحضارة الإسلامية وعصور سيادتها على البحر، وانبهاره بالمعجزة الإسلامية، التي استطاعت خلال نصف القرن الأول من الدعوة، أن تنتشر بسرعة مذهلة في كثير من الأصقاع وتملك الضفة الجنوبية للبحر المتوسط، وكذلك تنويهه بالدور الذي قام به العرب في تطور أساليب الملاحة وروح التسامح التي أبدوها نحو الشعوب التي حكموها، ويقدم في ذلك صقلية، نموذجًا، كما يرد روح التعصب إلى اليهودية والمسيحية وتنديده بالحملات الصليبية!

رأي في قصيدة البيت الواحد

          لخليفة التليسي آراء نقدية كثيرة تدل على طول تجربة له مع التراث العربي والثقافة العربية منها رأي له صدر في كتاب عنوانه «قصيدة البيت الواحد» يقول في مقدمته: «الأصل في الشعر العربي هو البيت الواحد. وعندما كان الشاعر العربي القديم يرسل البيت الواحد ليعبّر به عن لحظته الشعرية لم يكن يواجه أي مشكلة تعبيرية. فقد كان البيت الواحد يعبّر عن حاجته، ويستوعب اللحظة الشعرية التي يعانيها بكل أبعادها، وربما تناول شاعر آخر هذا البيت فأجازه وأضاف إليه بيتًا. وربما كان دوران هذه الأبيات على جملة من الشعراء على النحو الذي نلحظه في أدبنا الشعبي حتى اليوم هو المسئول الأول عن بعث الشعور بالحاجة إلى الانتقال إلى مرحلة القصيدة».

رجل مؤسسات

          وكان خليفة التليسي رجل مؤسسات من طراز رفيع. فقد أسّس «الدار العربية للكتاب» منذ ثلث قرن، فأصدرت عددًا كبيرًا من الكتب لأدباء الشمال الإفريقي بخاصة، وللأدباء العرب بعامة، وكانت جسرًا من التواصل الثقافي بين المشرق والمغرب.

          وقد أسّس ما لا يحصى من المجلات والمنابر والجمعيات الثقافية. أسّس مجلتي «ليبيا الحديثة» و«الروّاد». أسّس اللجنة العليا لرعاية الفنون والآداب. وضع أساس التلفزة الليبية ووكالة الانباء الليبية، أسس رابطة اتحاد الأدباء والكتّاب الليبيين. أسس مجلة الناشر العربي. أنشأ مجلة الفصول الأربعة.

          عمل أمينًا عامًا لاتحاد الناشرين العرب سنوات طويلة، كان نائبًا للأمين العام لاتحاد الأدباء والكتّاب العرب. يحمل دكتوراه فخرية من جامعة نابولي، وجائزة الفاتح التقديرية للآداب، وهي أعلى جائزة أدبية في بلاده. أعمال ومنجزات خليفة التليسي في الميادين الثقافية والوطنية والقومية تحتاج إلى جهد خاص لجمعها. شخصية أدبية وفكرية حملت أمانة الثقافة العربية باقتدار. عربي الولاء، قومي الاتجاه، إنساني النزعة، له دور كبير في خدمة اللغة العربية وصدّ الهجمات الشرسة عنها. رجل زاهد متواضع رقيق المشاعر، وشاعر بالغ الحساسية الشعرية.

          عرفت خليفة التليسي منذ أكثر من ربع قرن والتقينا مرارًا في طرابلس وتونس والدار البيضاء والقاهرة وبيروت وبغداد. وكثيرًا ما كنت أزور هذه العاصمة العربية أو تلك خصيصًا لكي ألتقي به عندما يخبرني بأنه سيكون فيها. وإن أنس لا أنس السحر الذي كان يفيض من شخصيته ومجلسه، وطيب تلك الشمائل التي نادرًا ما التقت كلها في إنسان واحد. والعزاء في ما تركه من أثر أو آثار. وقديمًا قال الشاعر:

          تلك آثارنا تدل علينا
                                        فانظروا بعدنا إلى الآثار.

 

 

جهاد فاضل