خليفة التليسي مترجماً لكتاب البحر المتوسط.. حضاراته وصراعاته

خليفة التليسي مترجماً لكتاب البحر المتوسط.. حضاراته وصراعاته
        

          لم يعد البحر المتوسط ما يشد كثيراً الانتباه إليه، فقد مضى زمن، حين كان محور العالم وعقدة مواصلاته، ومنه انبثقت حضاراته، والسيادة دائمًا لمن يسود عليه. ولكن ما كُتب عنه لم يتسم بالشمولية، وإنما هي مجرد معلومات تقصّاها الجغرافيون والرحالة قديمًا، أو كتابات حديثة تؤرخ لمرحلة ما، على غرار «البحرية العربية وتطورها في عهد معاوية لفلهلهم هونيرباخ، أو «القوى البحرية والتجارية في حوض البحر المتوسط (من 500 إلى 1100م) لأرشيبالد لويس.

          من هنا كانت فرادة الكتاب الذي نحن في صدده، لما يمثله من دراسة يتسع مداها، لتحيط بتاريخ هذا البحر من شرقه إلى غربه، ومن قديمه إلى حديثه، وذلك تحت عنوان «البحر المتوسط، صورة جانبية»، ولكن المترجم شاء أن يستبدل بالعنوان الأخير، من دون تسويغ مقنع، «حضاراته وصراعاته»، مع العلم أن المؤلف أدرى بمعارج دراسته التي خطط لها وأدار حركتها في ظل منهج تتشابك فيه الأطروحات وتندرج في انسياب يبقى العنوان المختار في نبضه، من المقدمة إلى الخاتمة. فالمؤلف وإن تطرّق إلى ما وراء البحر، حيث تعاقبت حضارات ولم تخفت بالتالي الصراعات من حوله، إلا أن الإشكالية المركزية كانت ولاتزال مسكونة بعباب ذلك البحر، امتدادًا إلى مرافئه الأمامية والخلفية، ولم تتوغل بعيدًا، سوى ما اتصل بعالمه وخصوصياته، وبمعنى آخر التقاط الصور الجانبية، تلك الصيغة التي أضافها المؤلف إلى عنوان كتابه.

          إنه «إرنل برادفورد Ernle Bradford»، ولم نعرف عنه في مقدمة المترجم سوى أنه بريطاني، مولود سنة 1920، وأن أحد الطلبة في الجامعة الملكية في مالطا شكا له عدم وجود مرجع عن البحر المتوسط، مما كان دافعه إلى التصدي لهذه المهمة. وهنا تتوقف سيرة المؤلف، فيلتبس علينا الأمر، إذا كان أستاذًا في الجامعة، أو باحثًا متخصصًا في هذا المجال، أو رحّالة استبر ذلك البحر لنحو ثلاثين عامًا، سجّل خلالها انطباعاته ومشاهداته، حيث حل أو ارتحل من مرفأ إلى آخر، ما كان ثمرة هذا الكتاب الفريد الذي ربما تفوّق فيه على أقران خاضوا التجربة من مواقعهم العلمية الأكاديمية.

الإسكندرية - برشلونة - اسطنبول

          وإذا كان المؤلف قد تأثر بشكوى الطالب السالفة، فإنه لم يكن في الواقع بحاجة إلى تحفيز في هذا الصدد، بعد أن سبر، طولاً وعرضًا، هذا البحر الذي بات يشعر أنه وطنه، مرتبطًا بعلاقة وجدانية معه، فيما تستبدّ به الغربة في البحار الأخرى المختلفة في طبيعتها عن بحره الأثير.. هذا الشعور، يتصادى مع انطباعه، بأن ثمة ما يميز هذا البحر المتوسط( في بيئته ومناخه، متسائلا في هذا السياق: «لماذا طلى الإغريق تماثيلهم ومعابدهم بألوان لمّاعة برّاقة، فالجو والضوء والسماء والبحر، كلها تطلب إشعاعًا قويًا عنيفًا وعنصرًا من الإبصار العامي غير مألوف لدى أهل الشمال. إن المدينة «الإسكندرية» تتوافر على جماليات معمارية وألوان وأضواء وتدافع بشري حي قوي. لاشيء يشبه أي شيء رأيته. وهذا المشهد يبدو مألوفًا من برشلونة، حتى اسطنبول التي «تتميز بمثل هذا الطابع، ولها أيضًا تلك الفيلات الفاخرة، الغارقة في بياض جدرانها الناصعة وروائح «الجاردينيا» التي تتصاعد في السماء عندما تخبو حرارة النهار.. وأسمع - والكلام لايزال له - المؤذن يعلو صوته بتمجيد الكمال الإلهي «لا إله إلا الله» الواحد، الخالد، القادر على كل شيء، فأشعر لذلك بحالة من حالات الكشف التي يمكنها أن تغيّر الحياة بكاملها».

          هكذا تمضي حكاية البحّار الجوّال مع البحر، يحط في مرفأ لينطلق إلى آخر، محدّقًا في ما حوله، دقيق الملاحظة، مراكمًا انطباعاته في الذاكرة، وربما على الورق، عندما يستكين إلى وجهة أخرى من الترحال البعيد، جائلاً في الأزمنة القديمة بما يتعدى المشهد إلى التاريخ، ويكون في المحصلة هذا الكتاب الذي يحتار القارئ في تصنيفه: دراسة، أو موسوعة، أو رحلة، أو حتى رواية، قبل أن يدرك أن فيه من ذلك كله. أما الكتب الأربعة المندرجة «أبواباً، فيه، فيمكن أن تكون مستقلة عن بعضها، وفي الوقت عينه تشكّل كتابًا واحدًا، متوازنًا في منهاجه وغير جاف في أسلوبه المنسكب في وتيرة انسيابية شائقة، على الرغم من صفحاته التي نيّفت على الستمائة والخمسين.

          لقد عشق «برادفورد» البحر وامتطى صهوته ملاّحاً، ثم ضابطاً في الحربية، مكابدًا عواصفه وغضب أمواجه، ولكنه لم يكفّ عن الترحل فيه، من ساحل الشمال الإفريقي إلى البحر الإيجي ومالطا وصقلية، كذلك سواحل إيطاليا وكورسيكا، وسردينيا. ثم لمدة عام - والكلام له - كنت ربان مدمرة، وكان تعيينًا محظوظًا، إذ كان يعني أن أتآلف مع العديد من الخرائط الخاصة بالجزر والمواني والسواحل والمراسي، وكثير منها شاهدته فيما بعد في أحوال أحسن ما كانت عليه». إنها الحرب العالمية الثانية، إذن التي انخرط فيها بما يوائم اختصاصه واهتمامه، ولكنه يسارع إلى الاعتراف، بأن هذه لم تأت به إلى البحر، فقد صمم مسبقاً على أن يذهب إليه - بحافز طموح شبابي - رسامًا أو عالم حفريات أثرية» على حد قوله.

تدوين التجربة المثيرة

          من هذا العالم الخضم، تحوّل برادفورد، ومعه خرائطه وانطباعاته، إلى تدوين تجربته المثيرة، بقلم مؤرخ، وكأنه قادم من الجامعة وليس من المراكب التي تقاذفتها الرياح، وحفت بها الأخطار من كل صوب. فلم يكن مجرد ملاح مغامر، يستعين بين الحين والآخر بالخرائط المطوية في جعبته، ولكن هذه كانت ملأى بالكتب في التاريخ والجغرافية وسواهما، والتي منها استمد ثقافته الواسعة، المضافة إلى خبرة واسعة أيضًا، ليكتب هذا السفر القيم، بما يتجاوز الانطباعات إلى الدراسة العلمية، بشروطها وأدواتها شبه الكاملة.

          وكما سلف، وزع المؤلف دراسته إلى أبواب، أو كتب أربعة، وكل منها تفرّع إلى عشرة فصول. وهو ما يعبّر عن توازن في المنهج، وتماسك لا يُخلّه سوى عدم التوثيق في الحواشي، مكتفيًا بلائحة مطولة من المراجع، خصوصًا باللغة الإنجليزية، والبداية كانت من «الجزيرة»، والمقصود هنا «لفانزو» في بحر إيجة، حيث تستهوينا بلاغة في الوصف، ينافس بها أدبيًا جمح به الخيال، كما يتبدى في قوله: «ليس هناك شيء حول «لفانزو» مما يثير الفضول أو الاهتمام، فرأسها الأصلع مغطى، في الربيع والخريف، بالأعشاب والطحلب، ارتفاعها حوالي تسعماية قدم محفوفة من جوانبها بالأجراف الصخرية، تتخذ «لفانزو» شكل كمثرى، فرأسها متجه إلى الشمال، وهي في أغلبها قاحلة جرداء، ولكنه في بعض الأخاديد الأرضية يوجد العنب الذي يستخرج منه النبيذ. وبعض أشجار الحمضيات، ولاشيء أكثر من ذلك سوى بعض أشجار الزيتون القليلة الهامدة معلقة كأنها العضلات التي تصارع فوق أكتاف الأرض الجرداء، أو بعض أشجار الخروب الدائمة الخضرة، تلقي ظلالها الكثيفة».

          هذا أنموذج فقط مما يكتنف الصفحات الطوال، المترعة غالباً بهذا النفس الأدبي، من دون أن يربك ذلك المضمون المتخم بالتفاصيل عن البيئة والسكان والاقتصاد والمعابد والآلهة، وكل ما نحتاج إليه هو التعرف إلى تلك الجزيرة اليونانية القديمة. وعلى ذلك الإيقاع يسير في بقية الفصول. عن البحر وبحّارته الأوائل، والأتروسك والإغريق والفينيقيين والرومان، وما رافق ذلك من حروب وصراعات وتجارات، مستلة مادة من المصادر التاريخية الكلاسيكية، ربما نعرف الكثير منها، ولكن الصياغة الأنيقة تجعلنا نتابع بشغف حيثياتها، وكأننا نقرؤها للمرة الأولى. وليس ثمة شك أن مشاهدات المؤلف تضيف جديداً، قد يستوقفنا في كل صفحة من الكتاب، كالقول - على سبيل المثال: «إن التشكيلة الواسعة لأنواع السمك وأحسنها طعماً، نعثر عليها في البوابات الثلاث الرئيسية، وهي مضيق جبل طارق ومضيق مسينا ومضيق البوسفور. ولكن مضيق مسينا في مجموعه العام حالة أخرى، باعتباره المنطقة الوحيدة التي لها مدّان وجزران متميزان، وهذا معناه أنه في أي يوم قمري هناك، ارتفاعان للماء وانخفاضان، في اليوم الواحد.

البحّارة الأوائل

          ويحدّثك، تحت عنوان «البحّارة الأوائل» عن «أول نموذج للمراكب التي تصوّر علاقة محددة بالسفن التي سيطرت لقرون عدة على البحر المتوسط، يمكننا أن نجده في مصر، بعضها يرجع إلى ثلاثة آلاف سنة قبل الميلاد، ولا يفوته الفضول حينئذ أن يعبر إلى تاريخ القطر المصري وجغرافيته، ونمط سكانه وإنجازاتهم الثقافية، آخذًا عليهم، بالرغم من تلك الريادة، البطء في المغامرة على مساحة البحر المتوسط. وخلافًا لذلك كان الفينيقيون، المجازفون في ركوبهم هذا البحر، واشتهروا بارتياده على نطاق واسع منذ القرن السادس عشر قبل الميلاد، واتخاذهم مراكز مهمة على ضفافه، منوّهًا على الخصوص بصور وجبيل، فضلاً عن طريقة التبادل في السلع، قبل أن يطوّروا ذلك إلى استخدام عملة خاصة بهم». إنهم حقيقة تجار البحر المتوسط.

          أما الإغريق فكانت رحلاتهم محدودة، وإن اتسمت بروح المغامرة، ولكن من دون أن يتوسعوا بعيدًا في طول البحر، مستثنياً جزيرة كريت، رائدة في هذا المجال، والتي ربما كان سكانها سابقين في نشاطهم البحري على الفينيقيين، معترفًا في الوقت عينه بأن المعطيات ضئيلة عن هذا الدور للجزيرة. وفي هذا السياق يتطرق إلى الصراع التقليدي بين اليونان والفرس، بعد سيطرة هؤلاء على العراق وتقدمهم باتجاه البحر الأيوني. ولم نجد تفسيرًا مجددًا لهذا الصراع، وبدا أنه يلجأ في هذه المسألة إلى هيرودوت، التي استبعد العوامل المادية والاقتصادية المحرّكة له، «ولكنه أحسّ بالصراع العميق بين الشرق والغرب الذي غيّر تاريخياً من وقت إلى آخر كل ملامح البحر المتوسط».

          لقد تشكّلت صورة أخرى إذن، فلم يعد البحر فقط مسرحاً للتجارة، ولكن الصراع علي النفوذ بات يتقدم على الأخيرة، ذلك الذي تبلور بصورة أكثر وضوحًا مع حملة الإسكندر، ثم مع الرومان الذين امتدت سيطرتهم على جميع سواحل البحر، ومن بعدهم إلى ورثتهم البيزنطيين، الذين حمل هذا البحر، وإن جزئيًا اسمهم «بحر الروم»، ليمثل الجميع على هذا المدى، قطبية الغرب، مقابل قطبية الشرق، والصراع لا ينتهي منذ ذلك الحين. ولكن دون ذلك، وفي سياقه، تفاصيل من الصعب الإلمام بها في مقالة محددة، إذ يحتاج ذلك إلى دراسة مطولة للإحاطة بذلك الثراء الحضاري الذي يكتنفه كتاب فريد في بابه، وتتوجه عناوين مثيرة، كالعلاقة بين الرومان وبين اليهود والمسيحيين، وفي هذا السياق يرى المؤلف أن الحكام الجدد، في توسعهم إلى المشرق، كان حتميًا أن يصطدموا باليهود، «الجنس الذي يعتقد جازمًا أنه الشعب الذي اختاره الله». ولعل هذا التطرف وما نجم عنه من الفوضى دفع بالإمبراطور ممثلاً بابنه، إلى حصار أورشيلم، وإنذار اليهود بالخضوع لأمره، وحين لم يستجيبوا له كانت النكبة التي قد يكون المؤلف بالغ فيها.

          أما المسيحية، فإنها لا تشبه - وفاقًا لرأيه - اليهودية، فقد تأسست على الانفتاح، وعلى قاعدة أنها للجميع، ولذلك لم تقع في التجربة التي وقع فيها اليهود، كما لم يساعدوا هؤلاء «في نضالهم الوطني ضد روما»، مما أحدث قطيعة بين الديانتين، من دون أن يجعلها ذلك «المسيحية»، قريبة من الحكم الروماني الذي ناوأها أيضًا، إلا أنها، على الرغم من معاناتها، لم تتخل عن المرونة في التعبير عن ذاتها، وفي هذا الصدد يقول المؤرخ الهولندي فان فلوتن في كتابه «السيطرة العربية»: لقد انتشرت المسيحية في الظل تحت ثقل الاضطهاد والآلام، منسجمة ومقولة المسيح إن «مملكتي ليست من هذا العالم»، واستطاعت أن تحافظ على طابعها العالمي المتطور، متسللة بهدوء عبر القرون إلى أمم مختلفة ذات حضارات متقدمة وراقية».

          وفي النهاية انتصرت المسيحية معترفًا بها الإمبراطور قسطنطين، بعد مغادرته روما إلى مدينة أقامها على تخوم الشرق، واتخذها عاصمة له، ولم يطل الوقت حتى سقطت روما تحت ضربات القبائل الجرمانية، فورثت حينذاك روما الجديدة «القسطنطينية» قطبية الغرب، فيما قطبية الشرق ظلت فارسية، قبل انتقالها إلى الإسلام الذي أطاح بالأخيرة، وانتزع من الأولى مكامن قوتها، لتنكفئ قرون عدة إلى جزء من آسيا الصغرى والبلقان، قبل أن تسقط بدورها في يد الأتراك العثمانيين، وتتحول كنيستها العظيمة، وهي من إنجازات جستنيان أبرز رجالات عصره إلى مسجد.

الإسلام يحول ملامح الحياة

          كان الإسلام قد انطلق في مطالع القرن السابع الميلادي، وخلال مدة لا تتجاوز الخمسين عامًا - والكلام لبرادفورد - «استولى العرب على مناطق واسعة من الأرض، وحوّلوا ملامح الحياة في الشرق الأوسط والمشرق والشمال الإفريقي، ففي المشرق كانت المنافسة اليائسة بين بيزنطة وفارس قد أنهكت كلاً من الطرفين». وفي رأيه «أن الإسلام ليس بالضرورة دينًا تبشيريًا، فليس من أجل تحويل الناس إلى الإسلام انطلق العرب من أرضهم. ولقد أظهروا حقًا في البلدان التي فتحوها درجة من التسامح نحو الممارسات الدينية اليهودية والمسيحية. ويبدو أن الأوضاع الاقتصادية إلى جانب عوامل أخرى دفعت هؤلاء الفرسان إلى سلسلة من الغارات. وأهم ما زوّدهم به الدين الجديد هو الوحدة فيما بينهم، حيث كانت القبيلة تقاوم أختها لأحقاب وأحقاب وقرون وقرون فوق أرض صحراوية قاحلة، أما الآن فهم موحّدون جميعاً بهذا الدين المقدام الجريء التوحيدي».

          هذا الرأي لا يخلو من الموضوعية، لاسيما في ربط الفتوح بوحدة المسلمين، ولكن نفي الصفة التبشيرية عن الإسلام، وترجيح العامل الاقتصادي، عاملاً شبه أساسي في حركة الفتوح، لا يعبّران عن قراءة دقيقة للمرحلة، تلك التي التبست عمومًا على مؤرخي الغرب. متكئين ربما على رواية البلاذري في «فتوحه»، وفيها أن الخليفة أبا بكر دعا القبائل العربية، سوى مَن كان في مكة والمدينة والطائف. «يستنفرهم للجهاد ويرغّبهم فيه وفي غنائم الروم». هذا مع العلم أن معظم هذه القبائل كانت لوقت قصير مرتدّة على الإسلام، ولكن الأخير وحّدها في قضية سامية، قاتلت بحماسة من أجلها، وذلك تحت قيادة نخب من روّاد الإسلام الذي أحدث تحوّلاً انقلابيًا في بيئته، باتت العقيدة هي المحرّك الأساسي فيه، ومن دونها لم تكن الفتوح المذهلة التي كان القرآن في نبضها، وآياته تتلى بعد استراحة المجاهدين من قتال باسل في النهار.

نظرة إيجابية إلى الإسلام

          ولكن براد فورد عمومًا، يحمل نظرة إيجابية إلى الإسلام، أكثر ما تتجلى في ما اقتبسه عن «وليام كولكان» بشأن الأندلس، وقد جاء في قوله: «إن الفتح الإسلامي أعطى لإسبانيا مكانة مهمة في تاريخ أوربا. وعلى الرغم من أن المسيحية أثناءه كانت في حالة دفاعية، فإن إسبانيا الإسلامية، لم تكتف ققط بالتعامل معها بتسامح، بل أسهمت في تطوير الفن والثقافة في أوربا المسيحية، حتى مجالات العلوم والرياضات والطب والفلك، كان لدى العالم الإسلامي الكثير مما يعلّمه أكثر مما يتعلّمه. فالصناعيون حملوا إلى أوربا فن النسيج. وقد تقدمت إسبانيا نفسها تقدماً هائلاً تحت الحكم العربي. وازدادت الأرض خصوبة في الأندلس بطرق الري التي أدخلها الشرق الأدنى، والتجارة مع الشمال الإفريقي ومصر وسورية ازدهرت، وكان الكثير منها في أيدي اليهود الذين تحرّروا من الاضطهاد المسيحي، كما أعفوا من الضرائب.

          ولم يكن تأثير العرب المسلمين فاعلاً إلى هذا الحد في هذه البؤرة الحضارية في أقصى غرب البحر المتوسط فحسب، بل  امتد مع استقرارهم في الجنوب الإيطالي (صقلية). و«خلال النصف الثاني من القرن التاسع الميلادي - وفاقاً لقول المؤلف - لم يتردد العرب في استعمال قوتهم، فتمكنوا من أن يسيطروا خارج إسبانيا على ليون، وأقاموا لهم مستعمرات على طول الساحل الجنوبي الفرنسي، وتغلغلوا برًا حتى الون وأرلس. أما جزر البليار، فقد كانت ضحية سهلة لسفنهم العاملة من خارج برشلونة»، ولكن صقلية كانت البوابة الثانية التي عبرها العرب إلى المجال البري الأوربي بعد إسبانيا، وإن كانت السيادة العربية أقل رسوخًا منها في الأخيرة، فقد واجهتها حرب صليبية مبكرة من النورمان، أدّت إلى إخراج المسلمين منها، من دون ثقافتهم التي استمرت لوقت طويل متوهجة في الجزيرة.

          ويصف ذلك براد فورد بقوله: «إن التراث العربي، ممتزجًا بالدهاء الماكر للحكام النورمان، أنتج انصهارًا ملحوظًا في العمران والثقافة، بطابع صقلي فريد». ثم يعقّب أخيرًا في هذا السياق: إن الإضافة اللامعة التي جاء بها العرب إلى البحر المتوسط، وإلى الثقافة الغربية التي تشربت علميًا وفنيًا كثيرًا من الأفكار والصيغ الجديدة، كانت مهمة بشأن أي حدث وقع في هذا البحر». ولكن عاصفة رعدية ستهب في الشرق. ممزقة إمبراطورية العرب، وسيصل تأثيرها إلى بوابات أوربا، تلك التي كان وراءها الفرسان البدو القادمون من سهوب التركستان، ومن الواضح أن المؤلف يقصد هنا السلاجقة، وإن التبس عليه الأمر فيما بعد من خلال إشارته إلى القوى العثمانية بأنها «لم تضف شيئًا إلى نوعية الحياة»، في وقت تطلب قرونًا عدة لظهور هذه السلالة التركية. فالسلاجقة إذن ما يعنيهم، أولئك الذين هيمنوا على الخلافة العباسية، وتصدّوا للفاطميين منتزعين القدس من سيادتهم، أي بعد خمسة أعوام فقط على انتصار سلطانهم «ألب أرسلان» على الإمبراطور البيزنطي في معركة منزكرت، هذه التي أشعلت فتيل الحروب الصليبية، المضطربة في مشاعر الغرب الأوربي في ذلك الحين.

الصليبيون يعبرون إلى المشرق الإسلامي

          من هذه النافذة يطل المؤلف على موضوعه الصليبيين الذين عبروا إلى المشرق الإسلامي وأسسوا المملكة اللاتينية انطلاقاً من القدس في نهاية القرن الحادي عشر الميلادي، إضافة إلى إمارات ثلاثة (الرها، أنطاكية، طرابلس)، لم تكن بالضرورة في فلك الأخيرة، ولسنا بحاجة إلى الخوض في هذه الموضوعة بتداعياتها خلال قرنين من الزمن، وكانت معركة حطين بقيادة صلاح الدين الأيوبي مفصلاً تاريخيًا في سياقها، فذلك مما هو معروف بتفاصيله في الشرق والغرب، كذلك الدور الملتبس للمدن الإيطالية التي جابت سفنها حينذاك البحر المتوسط، حيث تداخل الدين مع التجارة، بل تقدمت الأخيرة على حساب الأولى، وربما أسهمت بصورة غير مباشرة في إضعاف الصليبيين، إلى جانب عوامل عدة وضعت حدًا لنفوذهم الشرقي على يد المماليك (1291م).

          بيد أنه لم يتوسع في الدور البحري للمماليك، مركّزًا في المقابل على الهزائم التركية العثمانية أكثر من الانتصارات، وإن لم يفته التنويه بتلك التي تحققت في عهد السلطان سليمان، ومنها احتلال رودس، البؤرة الصليبية الأخيرة في شرق المتوسط. ولكن فشل العثمانيين في احتلال مالطا (501)، أنقذ أوربا من خطر الإمبراطورية الصاعدة التي بلغت ذروتها من القوة في ذلك الحين. هذه العمليات البحرية للعثمانيين، وما انطوت عليه من مشروع لاختراق أوربا، تركت أثرًا سلبيًا لدى المؤلف، يتبين في المقارنة المعقودة بين إمبراطورية العثمانيين وإمبراطورية العرب، وهي ليست بالمطلق في مصلحة الأولى التي - وفاقاً لرأيه - أخذت ما يناسبها من حضارة الأخيرة، ولم تضف إلا القليل جدًا عليها. وقد تعمّد في هذا السياق، وصف التركي بأنه «ظل بدويًا في أعماقه» نافرًا بصورة كلية من أوربا، مما يفسر الانحسار للسلطنة العثمانية بعد حصار فيينا، حين بدأ العد العكسي لنفوذها الأوربي، لاسيما بعد هزيمة أسطولها في البحر المتوسط. وصعود البحرية الأوربية إلى حد السيادة الكاملة عليه.

مستقبل إسرائيل لم يزل في الميزان

          هذا الكتاب يؤرخ على طريقة «برادفورد»، للبحر المتوسط، متتبعًا بدقة تطور الأحداث على ضفافه، من العهد اليوناني حتى ستينيات القرن الماضي. ولم يكن ليفوته التوقف عند الصراع العربي - الإسرائلي، رائيًا إلى ذروته في الهزيمة المدوية للمصريين (في يونيو 1967) وذلك خلال «حملة نهارية ليس لها تقريبًا نظير في تواريخ المعارك في هذا الجزء من البحر المتوسط» على حد تعبيره، وهو لم يأت على ذكر غيرها من المعارك أو الاعتداءات على مصر «عدوان 1956 على سبيل المثال». بيد أنه يرى من منظور آخر، «أن مستقبل دولة إسرائيل لايزال في الميزان، بالرغم من انتصاراتها على العرب». ويضيف: «أن العرب بالرغم من الاختلاف فيما بينهم، فإنهم متفقون وموحدون على كراهية إسرائيل، وأكثر من ذلك لا يزيدون على أنهم بدو متخلفون كما كان أغلبهم طوال قرون من الحكم العثماني». هذه النظرة ليست سوى انعكاس لما ساد في أوربا بعد الهزيمة، وهي تخفي وراءها موقفًا غير ودي من العرب، بوصفهم «بدوًا متخلفين»، على غرار توصيفه للأتراك بعد تهديدهم لأوربا، كما سلفت الإشارة.

          ويحاول في النهاية ترميم هذه النظرة، بإبداء شيء من التفاؤل بأن العرب، وبسبب عائدات النفط، ربما يمكنهم ذلك من التطور الذي «سوف يؤدي هذا - والكلام له - في يوم من الأيام إلى أن يغادروا تخلفهم ومستواهم الأمي وهو المستوى الذي عُرفوا به حتى اليوم».

أفكار مستوردة

          إنها أفكار مستوردة من الغرب، روّج لها عن بعد المؤلف برادفورد، وأظنه يجهل العرب في حاضرهم، ولا يعرف الكثير عن حضارتهم، سوى ما قرأه ونوّه به على الساحة الإسبانية. وليس من شأني الدخول معه في سجال حول هذه المسألة، ولكنني أرى بأسفٍ أنه زجّ بنفسه طرفًا في موقف سياسي، بدا نافرًا في هذه الدراسة المرجعية القيمة، بيد أنه حين يعود إلى عالمه الأوربي، يستعيد موضوعيته المفقودة في المشرق الحديث، لاسيما حين يكتب مأساة بلاده، معبرًا عنها بقوله: «إن انغماس بريطانيا الطويل في شئون البحر المتوسط، قد انتهى بفقدان بريطانيا لسلطتها وسطوتها ونفوذها عبر العالم. فالبريطانيون ينضمون إلى القائمة الطويلة للدول التي حكمت البحر في وقت أو آخر. ولقرون عدة فرضوا عليه بثقل أساطيلهم البحرية وقوتهم المالية، سلمًا لم يعرفه منذ عهد الإمبراطورية الرومانية». أين بريطانيا اليوم من مجدها الغابر؟ فقد أصبح ذلك من التراث، كما مجد العرب والعثمانيين، إلا أن هؤلاء حملوا من تبعات التخلف والفشل مالم تنل شيئًا منه بلاده التي كانت سببًا فيه.

          لقد مرّت قوى عدة في ذاكرة البحر المتوسط وتماوجت في مسيرته الحضارية، ودائمًا كان ثمة صعود وهبوط، والسيادة هي للأقوى، وإن لم يكن بالضرورة منتميًا لثقافته أو مندرجًا في إطاره الجغرافي. وكان براد فورد واقعيًا حين اعترف بأن الأربعينيات كانت بداية الأفول لهذا البحر الذي كانت بريطانيا آخر إمبراطورياته، مؤرّخة، بانهيارها قوة عظمى، نهاية الدور السيادي للبحر المتخم بأسرار التاريخ، قديمه وحديثه.

 

 

إبراهيم بيضون