زيارتان للشاعر العربي الكبير أحمد السقاف.. أوراق تُنشر لأول مرة

زيارتان للشاعر العربي الكبير أحمد السقاف.. أوراق تُنشر لأول مرة
        

          على مدى ساعتين متواصلتين، كان لقائي بالشاعر العربي الكويتي الكبير «أحمد السقاف» - رحمه الله - وذلك صباح يوم الأحد 27 فبراير 2005، في منزله، الموعد كان في العاشرة صباحًا، ولا أدري كيف سبقتني لهفتي وشوقي لرؤية الرجل، فوصلت قبل الموعد بربع الساعة، وحين هاتفته قلت له: «اعذرني يا سيدي، لقد وصلت مبكرًا قليلاً، ويمكن أن أنتظر في السيارة حتى تهيئ نفسك، قال لي: لا عليك.. ادخل.

          بابا بيت السقاف الخارجي والداخلي كانا مفتوحين، إنه باب الكرام الذي لا يغلَق أبدًا.. «بيته في حي الشويخ - فيلات، قصر السلام، قطعة 4 شارع جمال عبدالناصر رقم 47 منزل 6».

          صناديق البريد عند مدخل الفيلا: صندوق القبس، الأنباء، السياسة، الوطن، الراي.. تدل على أن هذا البيت بيت رجل مثقف بكل معنى الكلمة.

          وقف الرجل يستقبلني، ومد يده اليمنى التي كانت ترتجف ارتجافًا شديدًا، وكانت يده اليسرى شبه ميتة.

          شيخ عجوز 86 عامًا، ما الذي يدفعه لاستقبال أديب سوري مغمور يقيم في الكويت؟! تساءلت في سري، وتألمت شديد الألم لما فعلته السنون بالرجل، أكلت لحمه وشبابه، وتركته جلدًا على عظم!

          كان يسحب رجليه ويجرهما على الأرض جرًا، حتى خشيت على الرجل أن يتعثّر بالسجاد الفاخر على الأرض.

          أنّبني ضميري لأنني سآخذ الرجل من مرضه وأهله واستراحته.

          الصالة الفاخرة حافلة بالتحف الأثرية، تعلوها قبة زجاجية شبه شفافة، يدخل منها ضوء الشمس والنهار، هناك صورة للسقاف مع زوجته، بالبدلة وربطة العنق (الكرافت)، وهو في الأربعين تقريبًا، وصورة أخرى له بالغترة والعقال.

          كنت مكلفًا من قبل مجلة «الكويت» بأخذ شهادة السقاف عن صديق عمره ورفيق دربه الأديب المرحوم عبدالله زكريا الأنصاري، رحّب بي الأستاذ، وأنا بدوري أطريته، وأثنيت عليه، وتمدّحته بما هو أهل له، وقلت له: أنا فلان الفلاني من مدينة حلب، بلد عمر أبو ريشة، وصديقك عبدالله يوركي حلاق.. وأضفت: إنها زيارتي الثانية لك يا سيدي، وكانت الزيارة الأولى قبل عشر سنوات، قال لي: لا أذكرك.. قلت وهذا كتابك «الطرف»، وعليه إهداؤك لي. نظر مليًا تفحّص الخط، وقال لي: الكتاب كتابي، والخط خطي فعلاً، لكنني لا أذكرك يا بني، فاشتد حزني وألمي لما فعلته الأيام والسنون بالرجل، الذي كان يعاني ارتعاشًا شديدًا في الأطراف منعه من الكتابة، وما أدراكم ما الكتابة بالنسبة لهذا الأديب؟! لكنه لم يمنعه من مواصلة ما تبقى له من حياة بكل ثقة وإيمان.

***

  • ملاحظة:

          كان قد سبق لي أن تشرّفت بزيارة السقاف للمرة الأولى، وتحديدًا بتاريخ 30 / 12 / 1995، يومها كان الرجل متعافيًا ومتماسكًا، التقينا مساء في رابطة الأدباء، ثم انطلقنا إلى منزله، أدخلني مكتبته الخاصة به، والعامرة بكل صنوف الكتب، من الأرض حتى السقف، هنا يكتب السقاف ويبدع أعظم الأشعار والقصائد، هذا المكان الأثير إلى قلبه، حيث ينهمك في القراءة والكتابة، وهنا يمضي أعظم وأغلى أيام حياته، ثم أخذ يتناول كتبه ومؤلفاته وأهداني - بكل الكرم والأريحية - سبعة من كتبه دفعة واحدة: «الأوراق، العنصرية، الصهيونية في التوراة، المقتضب في معرفة لغة العرب، صيف الغدر، حكايات من الوطن العربي الكبير، قطوف دانية، الطّرَف في الملح والنوادر والأخبار والأشعار»، ونقش على كتاب الطرف الإهداء التالي:

          «هدية لأخي الأعز الأديب اللبيب الأستاذ بسام سرميني مع الدعاء بالتوفيق - أحمد السقاف»، لم يوقع السقاف واكتفى بكتابة التاريخ فقط.

          تحدّثنا عن الثقافة والأدب والأدباء في سورية والكويت، وأشاد الرجل بالفكر القومي المستنير لدى الأدباء السوريين، وخص بالذكر صديقه الحميم، ومجايله في العمر، صاحب مجلة «الضاد» الشاعر الحلبي عبدالله يوركي حلاق، الذي كان يشاركه الهيام بالعروبة والقومية والوحدة العربية، وتشرّفت خلال هذه الزيارة بإهدائه مجموعتي القصصية الأولى «أحلام سين التسويف»، وشدّ على يدي وشجّعني، حين علم أنها فازت بالجائزة الثانية على مستوى الوطن العربي في مسابقة الشاعرة د. سعاد الصباح، دام اللقاء - يومها - أكثر من ساعة، قدم لي السقاف بيديه الكريمتين كوب العصير، وكان يمشي ويتنقل من غرفة إلى أخرى بكل راحة واطمئنان، أذكر أني خرجت من عنده، أضم كتبه إلى صدري، والدنيا لا تتسع لفرحي!

***

          واليوم تدور رحى السنين عقدًا كاملاً، وألتقي هذا الشاعر العملاق، الذي يقطر مهابة وجلالاً، للمرة الثانية مع فارق كبير في حالته الصحية، عشر سنوات كافية لتأكل من صحتنا وأجسامنا الشيء الكثير، وحين أشرع في تشغيل المسجل لتسجيل الحوار بيني وبينه، وشهادته في الأديب الأنصاري، يفاجئني السقاف باعتذاره عن التسجيل، وتفشل كل محاولاتي في ثني الرجل عن قراره، ويسقط في يدي!

          آخذ قلمي وأحاول الكتابة.. أيضًا لا يسمح لي ويعتذر، قائلاً: «يا بني استمع فقط»!

          أقول له: يا سيدي ذاكرتي ليست بأحسن حالاً منك، والله أنسى، أسماء وأرقام وأعوام، ويرد علي: إذا شئتم أزوّدكم بشهادة مكتوبة عن الأنصاري، التسجيل في مرة أخرى، قلت لروحي أية شهادة مكتوبة، وماذا عن هذا اللقاء التاريخي؟ أأتركه يضيع سدى؟! قلت مستسلمًا: حسنًا نأخذ صورة معك، قال لا، في مرة أخرى.

          حرمني السقاف - غفر الله له ورحمه - من صورة العمر معه، لكنني أقسم أن صورته ستبقى بأدق أدق تفاصيلها في ذاكرتي وهو ينتصب مثل نخلة شامخة أمام ناظريّ، بالرغم من أعوامه الستة والثمانين!

          استهل السقاف حديثه لي بقول الشاعر:

          إن الثمانين وقد بلّغتها
                                        قد أحوجت سمعي إلى ترجمان

          وفهمت من إشارته أنه ينبغي علي أن أرفع صوتي وأنا أتحدث إليه.

          فتح السقاف أبواب ذكرياته القديمة، وشرع يحدّثني عن بدايات تأسيس مجلة العربي، وكيف ذهب إلى سورية والعراق ولبنان ثم مصر، ليقع اختياره على الدكتور «أحمد زكي» ليكون رئيسًا لتحرير المجلة.

          سألته: ما الإغراءات التي قدمتها للمفكر أحمد زكي حتى وافق، أكانت مكافأة مادية كبيرة؟

          أجابني: لا أبدًا.. الرجل كان منعّمًا ماديًا، عنده فيلا في المعادي، وفيلا أخرى يؤجرها ويستثمرها، رجل حاصل على ثلاث شهادات دكتواره في العلوم البحتة!

          قلت: إذًا، ما الإغراء الذي جعله يقبل طلبك؟ ردّ السقاف: قلت له بالحرف الواحد: «إن قبولك رئاسة تحرير مجلة العربي سوف يضيف إلى مجدك الثقافي والفكري مجدًا عظيمًا، يفوق كل ما حققته في حياتك، وهكذا وافق، هذا هو الذي أغراه رحمه الله».

لماذا أحمد زكي

          سألت السقاف مناورًا: لماذا أحمد زكي؟ لماذا لم تكن أنت أيها السقاف رئيسًا للتحرير، وأنت الأديب والشاعر الفحل؟ ألم تشعر بالغيرة والندم في حياتك لأنك أسندت هذا المجد لغيرك؟!

          ابتسم السقاف - يرحمه الله - وقال:

          لا.. أبدًا.. لقد أتيت بمن هو أولى مني برئاسة «العربي»، لم يكن همي الزعامة والبروز والظهور.. كان همي أن أغرس هذه الشجرة العظيمة، لتكبر وتثمر، ويفيد منها أبناء العروبة جمعاء.

          ثم أتحفني بهذين البيتين:

          من عيون الشعر العربي للمعري، وقال:

          ولو أني حببت الخلد فردًا
                                        لما أحببت بالخلد انفرادا
          فلا هطلت عليّ ولا بأرضي
                                        سحائب ليس تنتظم البلادا

          قلت: ولكن أبا فراس الحمداني يقول:

          معللتي بالوصل والموت دونه
                                        إذا متُّ ظمآن فلا نزل القطر

          فرد السقاف على الفور: لا.. هذا موقف أناني لا وجود له في حياتي.

  • تعليقات على هامش الحوار:

          الحديث مع الشاعر السقاف، وهو الشاعر والمفكر والمثقف المخضرم، كان لابد أن يتسم بطابع الاستطراد والاسترسال، تكلم في الأدب والثقافة والسياسة، وهموم الوحدة العربية، وقد يتساءل القارئ: كيف تسنّى لي جمع شتات الحوار دون تسجيل أو كتابة؟!

          والحقيقة أني عندما رأيت السقاف - يرحمه الله - قد انسجم في سخونة الحوار، استللت قلمي، وصرت «أغشش» من تحت الطاولة، تمامًا كما يفعل بعض التلاميذ، أكتب وألتقط من تلك الدرر الثمينة ما قدّرني الله عليه، ويبدو أن الشيخ المهيب قد ضبطني - عدة مرات - متلبسًا والقلم بيدي أكتب وأخربش، فغضّ الطرف عني، وعمل كأنه لم يرني، وكذا يفعل الكرام والكبار دائمًا.

          وأحب أن أورد بعضًا من تلك التعليقات والمداخلات نظرًا لأهميتها:

  • في سورية التقيت من أجل «العربي» علي الطنطاوي وشكري فيصل وسعيد الأفغاني وغيرهم، وفي لبنان التقيت الأديب سليم اللوزي.
  • أول عدد صدر من «العربي» كان في شهر ديسمبر 1958، برئاسة أحمد زكي الذي توفي - رحمه الله - عام 1972.
  • فهد العسكر كان صديقي، كنا نلتقي في المقهى في ساحة الصفاة في الأربعينيات، عائلته طلبت حرق أشعاره، خمريات وغزليات.. كان جريئًا أكثر من اللازم، لم يكن سياسيًا ولا يتقن لعبة المداراة.
  • المفكرون القوميون في بعض الأقطار العربية لم ينجحوا في التطبيق، وأساؤوا للفكر القومي، تمامًا كالإسلاميين الذين انحرفوا بالإسلام نحو الإرهاب والتدمير والتشويه.
  • شغلت منصب وكيل وزارة الإعلام 1962 - 1965، ثم وزير التربية، والأشغال، ترأست الهيئة العامة للجنوب والخليج العربي، عضو منتدب بدرجة سفير، أخطط بناء المدارس والمشافي في اليمن وكل دول الخليج.
  • سيغرّد الجميع تغريدًا جميلاً إذا اتجهوا نحو الديمقراطية وكرامة الإنسان العربي، والتضامن العربي كفيل بتحقيق الاتحاد، الأفارقة ليسوا أحسن منا، وفي ظل الديكتاتورية لا نريد اتحادًا ولا وحدة.
  • لم يعرف العرب ولم يألفوا حاكمًا عربيًا يأتي إلى حاكم آخر ويتنازل له عن الحكم مثلما فعل شكري القوتلي عام 1958، وتنازل عن الحكم لعبدالناصر مجسّدًا بذلك منتهى الإصرار السوري نحو الوحدة العربية.
  • القوتلي قال لعبدالناصر خذ بالك 99 في المائة من الشعب السوري سياسيون، فردّ عبدالناصر مداعبًا: كنت خبرني بذلك قبل التوقيع على الوحدة.
  • العروبة تهضم كل القادمين إليها، لا تستثني أحدًا: الأتراك - الألبان - الأكراد - الأرمن - اليهود.. العروبة تهضم الزلط - الحصى.. العروبة بحر متلاطم وهؤلاء اليهود شرذمة كما وصفهم القرآن الكريم، وسوف يذوبون في الكيان العربي.
  • انتظروا خمسين عامًا، سيبقى من اليهود من يبقى، ويعود لموطنه الأصلي من يعود، وستجدهم يتكلمون العربية، وسوف يذوبون ويستعربون ويصبحون عربًا!.

 

 

محمد بسام سرميني