من المكتبة العربية: الأندلس قراءة سياسية في التاريخ

من المكتبة العربية: الأندلس قراءة سياسية في التاريخ
        

          كثير من المثقفين العرب والمسلمين يؤرقهم سؤال تاريخي بأثر رجعي عن السبب فيما يتصورون أنه «ضياع» للأندلس من المسلمين، أو «ضياع» الحضارة العربية الإسلامية على شبه جزيرة إيبيريا بعد ثمانية قرون من الوجود العربي الإسلامي هناك. ولكن عددًا قليلًا من هؤلاء حاولوا، أو يحاولون، الوصول بأنفسهم إلى شاطئ الإجابة عن هذا السؤال المؤرق بعد الإبحار في مياه التاريخ وأمواجه المتلاطمة؛ والدكتور إبراهيم ماجد الشاهين واحد من هؤلاء الذين حاولوا الإجابة عن السؤال المضني والمحير: لماذا ضاعت الأندلس؟

          ومن هنا كتب الكتاب الذي نناقشه في الصفحات القليلة التالية. والمؤلف ليس مؤرخا بالمهنة أو التخصص؛ ولكنه يبحث في التاريخ بأدوات الباحث الذي تشده الرغبة الحقيقية في المعرفة التاريخية. ومن هذه الناحية اكتسب صفة الباحث الجاد الذي دفعه سؤال مندهش إلى البحث التاريخي. وعلى أية حال فإن البحث التاريخي ليس مقصورًا على من يحملون لقبًا أكاديميًا في التخصص من ناحية كما أن البحث التاريخي لا يحتاج إلى تدريب كثير من ناحية أخرى؛ وإنما يحتاج إلى التساؤل والرغبة في المعرفة، والالتزام بأصول البحث العلمي: وهو ما فعله مؤلف الكتاب.

          اختار المؤلف لكتابه عنوان «الأندلس قراءة سياسية في التاريخ»، وربما كان الأصوب أن يقول إنها «قراءة سياسية معاصرة»؛ لأنه قرأ التاريخ بالفعل قراءة سياسية تحمل المفاهيم المعاصرة التي تحكم عقليته، ولم يقرأه «قراءة تاريخية» تحاول أن تستوعب المفاهيم والحقائق السياسية التي كانت موجودة في تلك الفترة التاريخية التي تناولها كتابه.

          قسّم الدكتور الشاهين كتابه ثمانية أبواب تشمل المدخل والخاتمة. وفى المدخل ناقش قضايا الفكر التاريخي، ومفهوم التاريخ ومعناه. وعلى الرغم من أن هذا التمهيد يكشف عن ثقافة واسعة للمؤلف، وعن اجتهادات لافتة للنظر، فإن بعض آرائه عن التاريخ ومنهج البحث التاريخي الواردة في هذا الجزء يحتاج إلى مناقشة، وبعضها يحتاج إلى مراجعة لاسيما فيما يتعلق بتكوين الأسطورة حول نواة تاريخية: فقد كانت الأسطورة الحاضن الحقيقي للتاريخ منذ بداية تأريخ التاريخ؛ وظلت الأسطورة تؤدي دورها في نقل الرؤية الشعبية للتاريخ حتى الآن. والحقيقة أن الأسطورة لاتزال تلازم الكتابة والسرد التاريخي في جميع الثقافات ولم تكن وقفا على الكتابات التاريخية العربية وحدها. ويعالج الباب الثاني فتح الأندلس: ويطرح عددا من الآراء المثيرة في هذا المجال. وهناك الكثير من نقاط الجدل في هذا الباب؛ خاصة ما يتعلق بالحديث عن اليهود الذين لم تكن أعدادهم أو ظروفهم التاريخية الموضوعية تسمح بقيامهم بالدور الذي يزعمونه لأنفسهم في فتح الأندلس.

          وعلى أية حال، فإن معرفة المؤلف بتاريخ إسبانيا قبل الفتح الإسلامي تشي بأنه قرأ الكثير عن تاريخ هذه الفترة. وهو يسلط الضوء على حقيقة مهمة مؤداها أن فتح الأندلس تم على عدة مراحل وفترات تاريخية؛ كما أن الانهيار أيضا استغرق عدة قرون. ويطرح الدكتور الشاهين الكثير من الأسئلة المهمة؛ بيد أنه لا يحاول الإجابة عن هذه الأسئلة ويكتفي بالقول إن المؤرخين كتبوا جوانب من الحقيقة فقط. وما ذهب إليه المؤلف حقيقي إلى حد بعيد؛ ولكنه ليس عيبا أو نقصا في هؤلاء المؤرخين من ناحية، كما أنه ليس تزويرا أو تشويها من ناحية أخرى. ذلك أن كل المؤرخين في كل الثقافات لا يمكنهم سوى تسجيل شهادات جزئية على الحوادث التاريخية التي عاصروها؛ ولكن البحث التاريخي يقوم على أساس تجميع المادة التاريخية من كتابات المؤرخين، ومن المصادر التاريخية الأخرى، للوصول إلى أقرب ما يمكن من الحقيقة التاريخية.

          ومن ناحية أخرى يتهم الدكتور الشاهين المؤرخين العرب بالرومانسية؛ على حين يكتب هو نفسه برومانسية متصورا أن التاريخ فعاليات مثالية وليس أفعالا للبشر تحمل الصراعات والمتناقضات. ذلك أن البحث التاريخي لا يسعى إلى تصوير «ما كان يجب أن يحدث» وإنما يبحث «عما كان بالفعل». وفى هذا السياق يطرح المؤلف أسئلته عن أسباب توقف الفتح وعندما يطرح وجهة نظره نجد الكثير من المفاهيم الحديثة التي لا تصدق على عصور لم تعرف هذه المفاهيم: سواء عند المسلمين أو غيرهم.

          وهنا نجد بعض جوانب الاختلاف مع الدكتور الشاهين. فهو يتجاهل دور البابوية الكاثوليكية في إشاعة التعصب ضد الآخر في أوربا العصور الوسطى: سواء كان هذا الآخر من المسلمين، أو اليهود، أو المذاهب المسيحية الأخرى، ويبدو أنه لم يعط الوزن الحقيقي للنفوذ البابوي في ذلك الزمان. أما حديثه عن الباسك فيحتاج إلى مراجعة لأن الباسك كانوا، ولايزالون، مشكلة سياسية وعسكرية واجتماعية في إسبانيا منذ الحكم الروماني حتى الآن. وربما نلتمس العذر للمؤلف لأنه دخل في عدة تخصصات وفترات تاريخية لكل منها باحثون متخصصون.

          وقد لاحظ المؤلف أن جيوش الفتح الإسلامي كانت قليلة العدد، وهو ما حسبه من أسباب تعثر الفتح. والحقيقة أن جيوش الفتوح الإسلامية في كل مكان كانت قليلة العدد ولم تقتصر على جيوش فتح إسبانيا (لم تزد على عشرين ألف جندي وربما كانت عشرة آلاف فقط في بعض الأحيان)، وهي مسألة أجمع الباحثون على أنها من إيجابيات حركة الفتوح الإسلامية التي كانت فتوحا «سلمية» في كثير من الحالات.

قراءة أخلاقية

          ويشد الانتباه بشكل عام في كتاب الدكتور الشاهين أنه يقرأ التاريخ قراءة أخلاقية جعلته يصدر أحكاما دون مراعاة الظروف التاريخية الموضوعية من ناحية، وطبيعة السلطة في ذلك الزمان من ناحية أخرى؛ فالصراع على السلطة من طبائع الأمور في كل زمان ومكان، ولكنه كان يتسم بقدر هائل من العنف في عصر الولاة بالأندلس. وتتجلى رومانسية مؤلفنا وهو يتحدث عن الخليفة عمر بن عبدالعزيز، وفى خلطه بين الدين الإسلامي والتصرفات التاريخية للمسلمين.

          وهناك انحياز واضح للثقافة الأوربية والتاريخ الأوربي على حساب العرب (وربما كان هذا ناتجا عن الإحباط العام الذي نعانيه جميعا من الحال العربية الراهنة) وقد جعله هذا يقع في بعض الأخطاء التاريخية الواضحة: فيقول إن الإمبراطورية الرومانية تغلبت على مشكلة السلطة المركزية وهو ما يخالف الحقيقة التاريخية تماما. فقد قامت الإمبراطورية الرومانية بعد سنة 34 ق.م وبدأت تعاني مشكلة السلطة منذ القرن الثاني الميلادي، ثم تفككت وانقسمت تماما في بدايات القرن الرابع لتنهار في الغرب في الربع الأخير من القرن نفسه على أيدى القوات الجرمانية.

          وتظل القراءة الأخلاقية للتاريخ تلازم الدكتور الشاهين في كتابه حين يقول: «... مع الأسف لم يتغلب الإيمان بمفهوم الأخوة الإسلامية على النعرة العنصرية...» وهو يرى أن فتوح المسلمين الأولى كانت قائمة على الجهاد «... ولكن مع مرور الزمن، وتآكل الإيمان الصحيح في نفوس المسلمين.... أصبحت حروب المسلمين من أجل مكاسب الدنيا...»! إن في مثل هذه الأحكام تجريدا للتاريخ من «تاريخيته».

          ويتبنى المؤلف نظرة استشراقية بحتة تقلب الحقائق التاريخية وهو يزعم أن الإسلام لم ينتشر في إسبانيا، وفى حديثه عن تقسيم السكان المسلمين في الأندلس، يقع في التناقض والحيرة عندما يتبنى الدراسات التي قام بها بعض المستشرقين عن أعداد السكان. ولكن الأكثر مدعاة للدهشة أنه يلوم المسلمين لأنهم لم يتفاعلوا من خلال الأندلس والقسطنطينية للاستفادة من الحضارة الأوربية (كذا!) أية حضارة أوربية تلك التي يتحدث عنها الدكتور الشاهين؟! هل هم الفيزيقوط الهمج في إسبانيا؟ أم أوربا التي مزقها الإقطاع والجهل بعد انهيار الإمبراطورية الرومانية وسيطر عليها الرهبان الكاثوليك المتعصبون من خلال البابوية؟! أم بيزنطة التي كانت في رحلة أفولها مبكرا؟ وعلى الجانب الآخر كانت الحضارة العربية الإسلامية أرقى حضارات العصر منذ القرن السابع حتى القرن السادس عشر على أقل تقدير. إن السبب الذي يسوقه وراء هذه المزاعم غير التاريخية يبدو مستمدا من انبهاره حاليا بالحضارة الغربية الراهنة (وهو انبهار له ما يبرره على أية حال) وهو سبب يكشف عن رؤية تستحق من المؤلف أن يترفق بنفسه قليلا قبل إطلاق الأحكام: إذ يقول: «... ولكن ما حدث ببساطة أن المجتمع الإسلامي قرر أن يغلق بوابات تبادل الحضارات...»، أهكذا؟ بهذه البساطة...؟! ثم ينتقل المؤلف فجأة للحديث عن الواقع الحالي بكل ما يحمله من ملامح عابسة عابثة، ويلوم التاريخ بدلا من أن يلوم الذين خلقوا هذا الواقع التعس.

          ولكن مناقشة الدكتور الشاهين لمرحلة السقوط في الأندلس، وما بعد السقوط ، ثم محاكم التفتيش وقضية الموريسكيين أوضحت مدى ما يتمتع به المؤلف من سعة اطلاع؛ فقد كانت المعلومات والآراء التي طرحها تكشف عن أنه درس موضوع محاكم التفتيش بشكل جيد في هذا الكتاب. وعلى الرغم مما تعرض له الموريسكيون من ظلم واضطهاد بزعم أنهم مسلمون في الباطن يتظاهرون بأنهم مسيحيون؛ فإن المساحة التي أفردها الكتاب لمناقشة هذا الموضوع المهم غير كافية. وفي رأيي أن مناقشة هذا الموضوع تستحق دراسة مستقلة.

          على أية حال، فإن الكتاب الذي يحمل عنوان «الأندلس قراءة سياسية في التاريخ» كتاب مثير للجدل، وجدير بالقراءة، فضلا عن أنه محاولة جيدة من مثقف

          مهموم بالحاضر الذي يحاول فهمه من خلال ما جرى في الماضي.
---------------------------
* كاتب كويتي ودكتور مهندس معماري.
** أكاديمي من مصر.

---------------------------------------

          صدعَ البينُ والتَّفرّقُ قلبي
                                        وتولَّتْ أُمُّ البَنينِ بِلُبّي
          ثوتِ النفسُ في الحمولِ لديها 
                                        وتولَّى بالجِسْمِ منّي صَحْبي
          ولقدْ قلتُ والمدامعُ تجري
                                        بدموعٍ كأنها فيضُ غربِ
          جزعًا للفراقِ يومَ تولتْ
                                        حسبيَ الله ذو المعارجِ حسبي

وضاح اليمن

 

 تأليف: د.م. إبراهيم ماجد الشاهين*