(النقطة المتحوّلة): يحَاول استكشاف المسرح في أربعين سَنة

عرض: فاروق عبد القادر

عندما يكون الكتاب عن فن المسرح، وعندما يكون الكاتب هو "بيتر  بروك" فإن القارئ يكون على موعد مع وجبة فكرية وفنية يمتزج فيها عمق  الفكر بخصوبة التجربة، وهذا ما نتوقع أن يجده القارئ في هذا المقال.

           صاحب هذا الكتاب ليس بحاجة لتقديم  طويل، هو أشهر فناني مسرح الغرب  المعاصر، وأكثرهم تأثيراً وإثارة للجدل، وليس  بوسع أي متابع لهذا المسرح أن يتجاهل أعماله  الكبرى، ومن بينها عدد هائل من  "الشكسبيريات"، بالإضافة لأعمال أخرى من  المسرح القديم والمعاصر: من سينيكا إلى ميللر،  ومن آردن إلى جان جينيه، ومن بيتر فايس إلى  دورنيمات، ومن تشيكوف إلى التأليف الجماعي،  ولعل أهم ما تميز به بيتر بروك هو أنه "رجل  المسرح" بالتعريف وبامتياز، فقد حاول - في  عروضه كلها - أن يكون المسرح "مسرحاً"، أي  أن يقدم "مسرحية" لا محاضرة أو قصة أو منشوراً  دعائياً أو حشداً من الأفكار، وحين اعتمد هذه  الحقيقة لم يعد يحمل تقديساً زائفاً لنص بعينه، أو  تراث بعينه أو تقنية بعينها، وكان هذا يعني طرح الأسئلة الأساسية: "لماذا المسرح على الإطلاق؟  لأي هدف؟ هل هو مفارقة تاريخية؟ هل هو أثر  بالٍ متخلف يجب أن يحال إلى الاستيداع مثل  نصب تذكاري قديم أو زيٍ عتيق طريف؟ لماذا  نصفق ونستحسن.. لأي شيء؟ هل لخشبة  المسرح مكان حقيقي في حياتنا؟.. أية وظيفة  يمكن أن تؤديها؟.. وماذا يمكن أن تكتشف؟  ما خصائصها وما سماتها العامة؟..

          في كتابه السابق "المساحة الفارغة، 1969"  طرح بروك تلك الأسئلة، وحاول أن يلتمس لها  الإجابات عبر أشكال المسرح الأربعة التي  ناقشها: المميت والخشن والمقدس والمباشر. ومجال بحثه يدور حول ثوابت ثلاثة: الممثل  والمخرج والجمهور. ولعل فناناً مسرحياً معاصراً  لم يتناول دور الجمهور في التجربة المسرحية بمثل  هذا الشمول والنفاذ. بروك يضع الجمهور في  قلب التجربة ويلقي عليه عبئها: "هنا ترتد  المشكلة مرة أخرى إلى المتفرج. هل يود أي تغيير  في شروطه؟ هل يود أن يتغير شيء في نفسه، في  حياته، في مجتمعه؟ إذا لم يكن يريد فهو ليس  بحاجة للمسرح من حيث هو امتحان قاسٍ،  منظار مقرِّب، أضواء كاشفة، مكان للمواجهة. من ناحية أخرى قد يود أن يكون المسرح هذا كله،  في هذه الحالة لن يصبح بحاجة للمسرح فقط،  لكنه بحاجة لكل شيء يستخرجه منه، إنه  بحاجة ملحة إلى الأثر الذي يخدش، وإلى أن  يبقى هذا الأثر لا يزول..".

***

          والكتاب في تسعة فصول تمضي عناوينها كما  يلي: حسٌ بالاتجاه - ناس على الطريق: رجعة  للماضي - استفزازات: القسوة والجنون والحرب -  وما شكسبير؟ - العالم كفاتحة للزجاجات - شَغْل المساحة الفارغة - حرب السنوات الأربعين - سينما  الحياة - الدخول في عالم آخر. ويختتم بروك كتابه  بخاتمة قصيرة هي "أمثولة" حول ما يعنيه  "الاهتمام" في المسرح.

          وقد لا أكون مبالغاً لو قلت إن في هذا الكتاب  "كل" بيتر بروك، فبالإضافة لعروض المسرح التي  قدمها أو شارك في إعدادها، يحدثنا عن تجربته  في إخراج الأوبرا، أو "فن الضجيج" كما يسميه  (الفصل السابع)، وتجربته في الإخراج للسينما  (الفصل الثامن)، بعض هذه الأفلام سبق أن  أخرجه للمسرح (الملك لير، مارا/ صاد، يو. اس)  وبعضها الآخر كان عملاً سينمائياً خالصاً. كما  يحدثنا عن عدد هائل من فناني المسرح والسينما  والأدب والتشكيل الذين عرفهم أو عمل معهم،  من جوردون كريج إلى صمويل بيكيت، ومن  جروتوفسكي إلى سلفادور دالي، ومن دورنيمات  إلى جون جيلجوود، ومن تيد هيوجز إلى جين  مورو، ومن وليم جولدنج إلى مارجريت دورا.. (الفصل الثاني بوجه خاص).

          أما شكسبير فيبدو أنه عشقه الأول والأخير،  نقطة الابتداء والانتهاء، وربما كان وجه التميز فيما  يكتبه بروك - وسط فيض الكتابات التي لا تتوقف  عن شكسبير - أنه، مثله، رجل مسرح، ومن  ثم وجد بروك سبيله نحو فهم وتمثل تلك الغابة  الملتفة من الكلمات على طول سبع وثلاثين  مسرحية، وهو يقدم خبرته به مركزة مصفاة  (الفصل الرابع بوجه خاص).

مركز لأبحاث المسرح

          في 1970 أسس بروك "المركز الدولي لأبحاث  المسرح" في باريس، وهو يحدثنا عنه حديثاً طويلاً في هذا الكتاب، كان هدفه أن يختبر  الشروط الأساسية التي يمكن أن يقوم فيها مسرح  يعتمد على ما هو جوهري فقط: "أقمنا أولاً  "مركزاً للأبحاث" أضفنا له فيما بعد "مركزاً  لإبداع"، وأصبح هذان الاسمان يدلان على  سلسلة متداخلة الحلقات من الأنشطة.. (..) كان المركز نقطة تلتقي عندها ثقافات مختلفة،  وكان على ارتحال دائم، يأخذ جماعته المختلطة  تلك في رحلات طويلة للتفاعل مع جماعات لم  يحدث أن عرفت فرقاً مسرحية من قبل..".

          وما أطول الرحلات التي قطعها بروك وفريق من  الممثلين ذوي الجنسيات المختلفة، والأطر  الثقافية المتباينة، وهم يرتجلون ويقدمون  عروضهم: وسط أفريقيا، وعلى أطراف أستراليا،  وفي أماكن عديدة من أمريكا وآسيا، عن هذه  التجربة الفنية والإنسانية الخصبة تمت عروض  ذات أهمية خاصة في المسرح المعاصر:  "أورجاست" عن كتاب الزرادشتيين القديم  "الأفستا" في 1971، و "الأيك" عن قبيلة  أفريقية تعاني الجفاف والمجاعة في 75/ 1976"  و "اجتماع الطير" عن الشاعر الصوفي الفارسي  فريد الدين العطار في 1979، ثم آخر أعمال  بروك - وربما أعظمها - "المهابهاراتا" عن الملحمة  الهندية الشهيرة في 1987.

          يلفت النظر في اختيارات بروك هذه أنه ليس  محاصراً داخل أطر ثقافته الإغريقية - الأوربية أو  مقتصراً عليها، بل هو قادر على أن يبحث في  تقديم "أوديب"، كما يبحث في تقديم "الملك  لير"، ويلتفت - في ذات الوقت - نحو كتاب  الزرادشتيين القديم، وصوفية فريد الدين العطار  والملحمة الهندية الكبرى "المهابهاراتا.."، وهو  حين يقترب من تلك الإبداعات الفذة الصادرة  عن ثقافات أخرى، إنما لا يقترب منها بأفكار  مسبقة، أو قوالب جاهزة يقسر مادته على أن  تتلاءم معها، لكنه يقترب منها باحترام ومحبة.  ورغبة صادقة في فهم منطقها الداخلي، والوظيفة  أو الوظائف التي كانت تؤديها في الثقافة التي  صدرت عنها. حين قرر بروك تقديم  "المهابهاراتا.." كانت الخطوة المنطقية التالية أن  يذهب، هو وفريقه إلى الهند، وبما رأى وعرف  هناك تحدد توجهه نحو العمل: "مسَّ قلوبنا هذا  الحب الذي يكنه الهنود "للمهابهاراتا"، وملأنا  بالاحترام والخشية نحو المهمة التي أخذناها على  عواتقنا،.. وما قاد خطانا في الهند أكثر من سواه  إنما كان التراث الشعبي، فهنا تعرفنا على كل  التقنيات المشتركة في كل فنون الشعوب على  السواء، والتي ظللنا نستكشفها عن طريق  الارتجال سنوات متصلة.. (..) رجعنا من الهند  وقد عرفنا أن عملنا هو أن نوحي، لا أن  نقلد..".

رحلة إلى إفريقيا

          وأود أن أقف لحظة عند رحلته في إفريقيا، فقد  تكون أهم رحلاته وأشهرها، بدأت في نهاية  1972، من الجزائر - عبر الصحراء - إلى النيجر،  ومنها إلى نيجيريا، ثم داهومي، ومنها إلى النيجر  مرة أخرى، ثم شمالاً إلى مالي، وعبر الصحراء -  متخذين طريقاً آخر إلى الجزائر. كانت المجموعة  تضم ثلاثين من الممثلين والفنيين، واستغرقت  ثلاثة شهور.

          في "النقطة المتحولة" نص مقابلة طويلة  يتحدث فيها بروك عن رحلته - يسأله الصحفي  الذي أجرى المقابلة: ماذا كانت دوافعك للقيام  بتلك الرحلة؟

          ويجيب بروك: "انطلاقاً من ملاحظات  وخبرات متناقضة، ومن ملاحظة رئيسة هي أنه  ليس هناك مسرح تام في أي جزء من عالم اليوم،  كل ما هناك شذرات من المسرح، فقد انطلقنا  نستكشف الشروط التي يمكن من خلالها للمسرح  أن يتحدث حديثا مباشراً، ما هي الشروط التي  يصبح في ظلها ممكناً أن تصدر تجربة المسرح عن  لقاء جماعة من الممثلين، ويستقبلهم المتفرجون ويشاركونهم، دون مساعدة - بل بتعويق - من  الإشارات والرموز والثقافة المشتركة؟.

          "كان عملنا كله يدور حول هذه المسألة بطرق  مختلفة، وحين ذهبنا لأفريقيا لم يكن ذلك على  أمل أن نجد هناك شيئاً نتعلمه أو نأخذه أو  ننسخه. ذهبنا لأفريقيا لأن الجمهور في المسرح  عنصر فعال ومبدع .. (..)، وما أردناه من  الذهاب لأفريقيا هو أن نذهب إلى حيث الجمهور  المثالي، صاحب الاستجابات المليئة بالحياة  المنفتح انفتاحاً كاملاً لكل الأشكال، لأنه لم يكن  أبداً مشروطا بالشروط الغربية..

          "وما أن تخرج من المدن الأفريقية حيث تجد  جماعة قليلة من الناس، حتى تجد أمامك قارة  كاملة، متحررة تماماً من كل ارتباطات المسرح  بالمعنى الذي نعرفه، لكن هذا الجمهور - بكل  انفتاحه - ليس بالجمهور الساذج أبداً، ولا  بالجمهور "البدائي"، ففكرة "البدائية" هذه  زائفة تماماً فيما يتعلق بأفريقيا، حيث الحضارات  التقليدية ليست فقط بالغة الثراء والخصوبة،  بالغة الاكتمال، بل هي كذلك - فيما يتعلق  بالمسرح - تهيئ الناس على نحو فريد: فالأفريقي  الذي نشأ على تقاليد الطريقة الأفريقية في الحياة  لديه فهم بالغ الرقي والتطور لازدواجية الحقيقة،  فما هو مرئي، وما هو غير مرئي، والانتقال الحر  بينهما، هي عنده - بطريقة عيانية - شكلان لذات  الشيء. وما نعتبره نحن أساس الخبرة المسرحية،  وندعوه تصديق الوهم، هو ببساطة انتقال مما هو  مرئي إلى ما هو غير مرئي، والعكس، أمر مفهوم  في أفريقيا، لا باعتباره تخيلاً، ولكن باعتبارهما  وجهين لذات الحقيقة. لهذا السبب ذهبنا إلى  أفريقيا، كي يتاح لنا إمكان التجريب في عملنا،  من حيث علاقته بما نعتبره الجمهور المثالي..".

صور فنية لشخصيات حية

          قلت إن بيتر بروك يقدم في "النقطة المتحولة"  عدداً من فناني المسرح والسينما والأدب الذين  عرفهم وعمل معهم، وهو في تقديمه يرسم لهم  صوراً فنية بالغة الشفافية والدلالة، مازجا فيها  المعرفة بالخبرة الشخصية.

          خذ مثالاً هذه الصورة التي يرسمها لفنانة  السينما الفرنسية والعالمية جين مورو (وقد أخرج  بروك رواية مارجريت دورا "موديراتو كانتابل"  لجين مورو وايف مونتان). يكتب بروك: "جين  مورو - بالنسبة لي - هي الممثلة النموذجية في  السينما المعاصرة، لأنها لا تؤدي على أساس من  "بناء الشخصية"، بل تمثِّل بنفس الطريقة التي  يضع بها جودار أفلامه، وأنت معها أقرب  ما تكون من عملية صنع وثيقة للانفعال. الممثل  المتوسط المدرب يقترب من دوره على أساس فهم  جيد لمبادئ ستافسلافسكي، فهو يتعقل الدور،  ويُحضِّر له حتى يستطيع "بناء الشخصية"،  وعنده توجيه واع لما يفعل، هو حين يفعل هذا  يشابه - بمعنى من المعاني - مخرج السينما التقليدي  وهو يُعد كاميراته. إن الممثل يعِّد نفسه كذلك،  ويخرج لنفسه، سواء جاء هذا حسناً أو جاء شيئاً  آخر.

          لكن جين مورو تعمل كأداة من خلال  غرائزها، إنها تصل إلى حدس داخلي حول  الشخصية، ثم يبدأ جانب منها يراقب ارتجالاتها  عنها، وتتركها تتحدث، وتتدخل أحياناً تدخلاً  طفيفاً مثل فني ماهر، حين تريد، مثلاً، أن  تواجه الكاميرا، وتأخذ الزاوية الصحيحة منها،  لكنها تظل تقود دفق الانفعال خلال الارتجال.،  بدل أن تحدد، مقدماً، العقبة التي يتعين عليها أن تتخطاها، والنتيجة أن أداءها يمنحك  سلاسل لا تنتهي من الدهشات الصغيرة، وفي  كل منها لا تستطيع أنت ولا هي - أن تعرف ما  الذي يحدث بعدها!..".

ثقافة الدولة وثقافة الفرد

          في الفصل الأخير من الكتاب، وتحت عنوان  "ثقافة الروابط" يفرِّق بيتر بروك بين "ثقافة الدولة" من جانب، و "ثقافة الفرد" من  الجانب الآخر، ويرى أن كليهما قاصر ومحدود  وواقف عند جانب واحد، وأن ثمة "مساحة  فارغة" يجب أن تشغلها تلك الثقافة الثالثة،  ثقافة الروابط.

          ماذا يعني هذا بالنسبة للمسرح؟

          يجب بيتر بروك: "في مجال عملي، المسرح،  كانت خبرتي الشخصية - خلال هذه السنوات  القليلة الأخيرة - كاشفة لأبعد الحدود. كان جوهر  عملنا في "المركز الدولي لبحوث المسرح" يقوم على  جمع الممثلين من أطر وثقافات عديدة متباينة، وأن  نساعدهم على أن يعملوا معاً على تقديم أحداث  مسرحية أمام شعوب أخرى، ووجدنا - أول ما  وجدنا - أن الكليشيهات الشائعة عن ثقافة فردٍ ما  غالباً ما يشارك فيها هذا الفرد نفسه، وهو قد جاء  إلينا معتقداً أنه جزء من ثقافة قومية خاصة،  وتدريجيا، ومن خلال العمل، يكتشف أن ما كان  يظنه ثقافة لم يكن سوى طرائق سلوكية سطحية في  تلك الثقافة.

          "ولأكن محدداً تماماً هنا، بالنسبة للمسرح كان  هذا يعني نهجاً عيانياً للعمل له اتجاه واضح، هذا  الاتجاه ينطوي على تحدٍ لكل العناصر التي تضعها  كل البلاد على شكل المسرح، كي تبقيه داخل  قوس مغلق، سجيناً داخل لغة أو أسلوب أو  وظيفة اجتماعية أو مبنى أو نمط معين من  الجمهور. ومن خلال عمل فعل المسرح، الذي  لا ينفصل عن الحاجة إلى إقامة علاقات جديدة  بشعوب مختلفة، بدا إمكان إيجاد روابط ثقافية  جديدة.

          "لأن الثقافة الثالثة هي ثقافة الروابط، فهي  التي يمكن أن توازن التشظي الموجود في عالمنا  وعليها أن تعمل في استكشاف علاقات - حيث  اختفت هذه العلاقات أو ضاعت - بين الإنسان  والمجتمع، بين نوع إنساني وآخر، بين العالم  الصغير والعالم الكبير، بين الإنسانية والآلية،  بين المرئي وغير المرئي، بين الفئات واللغات  والأنواع. ما هي هذه العلاقات؟ العمل الثقافي  وحده هو الذي يمكن أن يستكشف ويكشف  تلك الحقائق الحيوية..".

          وأخيراً، أود أن أشير إلى أن بيتر بروك سيدِّ من  سادة النثر بالإنجليزية، ومن حيث هو مسرحي،  فهو يعرف - أكثر من سواه - معنى الاقتصاد  والتركيز، وأن لكل كلمة "وظيفة" تؤديها في  السياق الكلي للعمل.

          بعبارة أخرى: إن الشأن في "النقطة المتحولة"  - كما كان في "المساحة الفارغة" - هو أن عدداً  قليلاً من الصفحات يحوي حشداً من الأفكار  والتصورات والمعاني، يحاول أن يعكس - كما جاء  في عنوانه الثاني - خبرة "أربعين عاماً في  استكشاف المسرح".

          وهل يمكن إيجاز تلك الخبرة كلها في بضع  صفحات






غلاف الكتاب