النجوم تنام على الجبال

النجوم تنام على الجبال

اليمن : أرض الجدود والوعود (1)
عدسة : حسين لاري

أعود إلى اليمن محملاً بحنين وذكرى وأسى، أطل في عيون الأصدقاء القدامى فأرى ما فعله الدهر بي ويهم، يحدث هذا دوماً عندما يعود المرء إلى بيته القديم، فيصبح أسيراً لحالة من المقارنة المضنية يود أن يرى ما كان يراه حتى ولو لم يعد موجوداً، واليمن هي بيتنا العربي القديم، منها جاءت بذرة الميلاد بكل ما فيها من قوة ووهن، وبقيت فيه التذكارات القديمة التي حسبنا أنها قد ضاعت وسط زحام الأحداث وبقيت فيه حتى ملامحنا القديمة والأسماء التي ننتمي إليها القبائل التي خرجنا من صلبها، كل شيء أصابه القدم وتغطى بالرماد، ولكنه باق على حاله شأن كل البيوت القديمة.

عندما هبطنا إلى صنعاء في ذلك الصباح كان يحيط بها ضباب له لون الحجر، زبد هش، تبزغ من خلاله قمم المآذن البيضاء، أذرع تتوسل لفالق الإصباح، تبدأ المدينة في الكشف عن ملامحها، المباني الحجرية المزينة بخطوط من الجص، والنوافذ التي تعلوها دائما أكاليل من الزجاج الملون، تحيي بنا الملامح العربية الأليفة وهي تفتر عن ابتسامة بيضاء رائقة في الصباح، تتحول إلى ابتسامة خضراء - أجل خضراء وغريبة - عند وهج الظهيرة، خلف تلك الأقنعة تكمن وجوه بني قحطان الذين هاجروا وحكموا وعمروا ثم انتكسوا، ومنهم تعلمنا فضيلة الاستسلام والاستكانة بعد أن غارت الشهب بنا وبهم، فمن المؤكد أن العرب العاربة والفراعنة وبني تدمر وأحفاد بابل وآشور كانوا هجرة قحطانية وإلا لماذا آلنا جميعا إلى نفس المآل.

سوق الملح، قلب المدينة التاريخي مستعص عن التغيير، الأبنية الحجرية راسخة كالجبال التي تحيط بالمدينة، أما الأرض قد تم رصفها بأحجار بيضاء بدلا من الحصى القديم المدبب، والسيارات تزاحم الناس في الأزقة الضيقة، ولكن الوجوه اليمنية بملامحها التي تبدو كما لو تم نحتها بإزميل دقيق بدت على حالها، العمامة على الرأس والخنجر حول الوسط والقات في زاوية الفم، تختلف الوجوه والأعمار والأحجام والمراكز الاجتماعية وتبقى هذه السمات الثلاث، في تلك الساعة من ظهيرة اليوم، السوق مازال يحمل السمة الأساسية لكل الأسواق الإسلامية القديمة، دوائر متصلة من الحوانيت والبيوت مركزها المسجد، أو الجامع الكبير وهو من أوائل المساجد التي بنيت في الإسلام، ثم يقسم السوق حسب البضائع المعروضة، كل جزء من السوق يختص ببيع سلعة معينة حتى يسهل للزبون المقارنة بين أنواع البضائع المختلفة.

مازالت الدهشة تملك قلبي وأنا أقف أمام مجموعة العمارات النادرة التي تحيط بالسوق والتي يبدو الناس في ظلالها مثل مجموعات من النقوش الإضافية، متحف مفتوح يصور تلك العلاقة الحية التي نشأت بين البشر والحجر، كتل البيوت في تلاصقها تثير في داخلي نوعا من الرهبة والجمال، أحاول أن أفهم ذلك الأسر الغامض الذي تبعثه في داخلي، يبدأ كل بيت بكتل متراصة من الحجر يندر أن يكون فيها فتحات، اللهم إلا فتحة الباب الضيقة، أساس متراكم ومتين لكل بيت لا تضعفه الفجوات، يكون الجزء المعتم الذي يستخدم في تخزين الحوائج المنزلية، لا تبدأ الفتحات في الظهور إلا بعد دور أو أكثر، فتحات قليلة وصغيرة مكونة من جزأين، فتحة سفلى يمكن أن يطل منها سكان البيت وخاصة النساء على الطريق دون أن يراهن أحد، وجزء علوي يسمى "القمريات "، وهو بالفعل أشبه بنصف قمر مكون من الزجاج الملون، يوفر الضوء مصفى عند إغلاق الجزء السفلي، يرتفع البناء وتزداد الفتحات، تخفت وطأة الحجر ويحل الطوب الآجر بدلا منه، كأن البناء ينشد نوعا من الخفة ويجعل جدرانه مرتدة إلى الخلف قليلا خوفا عليها من الانهيار، هكذا بقليل من المهارة الفطرية يتحول البيت إلى برج سامق، خبرة معمارية فذة توظف نوعية المادة وكتلتها في آن واحد، لا تسعى خلف المتانة والصلادة فقط ولكنها تسعى للجمال أيضا، فهو يحيط كل الفتحات من نوافذ ومشربيات وأبواب بهالات متصلة من الجص الأبيض، جص ناعم رقيق يعطينا تلك المفارقة الحادة مع الحجر الداكن الصلد، كما أن هناك هوسا غريبا بالزخرفة.

كان زميلي المصور يرغب في اقتناء خنجر يمني تقليدي، وقادنا مرافقنا أمين الوارفي إلى واحد من أشهر صناع الخناجر في السوق، وكانت فرصة لنا أن ندخل هذا الحيز من السوق الذي كان يستأثر دوما باهتمام السياح الأجانب، كانت الأنصال اللامعة تضوي في عتمة الحوانيت، وتبادر إلى ذهني سؤال لم أعرف له إجابة محددة، كيف تم اختصار السيف العربي القديم إلى هذا الخنجر الرمزي، ولماذا بقي رمزاً للوجاهة والرجولة؟ إن اليمني مدين للجبال بالكثير من صفاته، فهي التي وهبته الفطرة والنبل، وهي التي أبقت في داخله إحساسا دائما بالخطر يجعله دائم التحسس لمقبض خنجره، فهل أصبح اليمني مستعصياً على التغيير؟

يسألني الأصدقاء هذا السؤال في كل مكان أقابلهم فيه، بعد كل هذه السنوات كيف ترى اليمن وما الذي تغير فيها ؟ إنه ذلك المناخ الآسر الجديد، مناخ من الحوار والجدل وطرح كل المحرمات، إنه سحر التعددية التي أخرجت كل ما تم كبته طوال السنوات الماضية وإعادة طرح كل القضايا من جديد، قضية الوحدة التي بلغت الآن من العمر عشر سنوات، وقضية القات التي بلغت مئات السنوات وقضية التخلف والتنمية التي سوف تظل إلى ما بقي من السنوات، فين أين نبدأ؟

أتذكر الرحّالة الألماني هانز هولفريتر الذي فعل المستحيل لدخول اليمن في الثلاثينيات من القرن الماضي، في وقت كان الأئمة يحرمون دخول أي أجنبي، لقد فعل المستحيل، حتى أنه دخل اليمن من أقصى الجنوب عبر صحراء الربع الخالي، وخاض مغامرة نادرة ومثيرة في كتابه "اليمن من الباب الخلفي"، فلماذا لا أبدأ مثله، ولماذا لا أستفيد من مزايا الوحدة بعد أن أصبح في مقدوري أن أبدأ الرحلة من أي نقطة في اليمن؟

عدن .. جنة

تحت شمس حارة تتألق المياه في خليج عدن، تهب علينا ريح أسطورية مليئة بروائح البخور والمر، أمام عيني تتجسد الأسماء التي سمعتها في طفولتي دون أن أعرف موقعها على خريطة العرب المضطربة، يرتفع جبل شمسان ويمتد ساحل المعلا، وخور "مكسر" وندرك أن لحج على مرمى النظر وتلوح أمامنا جزيرة العمال ولا بد أن الموج من خلفها يحتضن "سقطرة"، أصوات النضال القديمة وهي ترتفع من "صوت العرب " لتحث سكان تلك المناطق على النضال ضد الوجود البريطاني، كنا أطفالاً صغاراً لا نعرف أين تقع هذه الأسماء، ولا هؤلاء الذين يقع عليهم عبء النضال، لقد نالت هذه المنطقة نصيبها كاملا من عبء الصراعات الدولية ودفعت ثمن انفتاحها وموقعها المؤثر في جنوب بحر العرب، فهي أشبه بفوهة البركان الذي تحتل موقعه الآن، تضطرم أعماقها بنيران من الأساطير القديمة وبرغبة حارة في إيجاد ثقب ما تنفذ منه إلى المستقبل، ولكن كيف يمكن أن تتخلص من آلامها الداخلية؟

تصعد بنا السيارة عاليا، فطرقات المدينة كلها منحدرات فوق مجموعة من التلال المتعاقبة، يبدو خليج "صيرة" الذي يحكم مدخل الميناء، يشير دليلنا إلى أحد مواقع هذا الألم، مجموعة من السفن الضخمة، شكلها رث وقديم، توشك العوامل الجوية وقلة الصيانة أن يقضيا عليها، يقول لنا الدليل: "لم تنته حرب الخليج بالنسبة لنا نحن أهالي عدن، هذه السفن جزء من مجموعة سفن عراقية موجودة منذ حوالي تسعة أعوام، لا تستطيع الحركة بسبب قوانين الحصار. المفروضة على العراق، ويبدو أن النظام في بغداد قد نسيها، لذلك لم يبال بها ولا ببحارتها ولم يرسل لهم أي نوع من المساعدة ولا حتى المرتبات، أتساءل مدهوشا : وكيف يعيش هؤلاء البحارة البؤساء إذن. يقول: " إنهم يفكون القطع الداخلية للسفن ويبيعونها، ماذا تظنهم يفعلون؟ إن السفن تتآكل من الداخل ومن الخارج وهناك مخاوف من أن تغرق وتسبب لنا كارثة بيئية كبيرة".

أظل أتطلع إلى السفن في أسى، إلى ذكرى تلك الحرب التي لا تريد أن تنتهي، أناس أسرى في السجون وسفن أسيرة في البحر، وعالم عربي عاجز عن لم أشتاته وتضميد جراحه، قبل أن أفيق تزحف بنا السيارة إلى موقع آخر أشد إثارة للألم، يقودنا الطريق المؤدي إلى لحج إلى منطقة البساتين، وهي لا تحمل من الصفة إلا اسمها فقط، في وسط أزقة ضيقة وأكواخ من الطين والصفيح ومستنقعات من الماء الآسن وبقايا الفضلات، توجد مأساة إنسانية اسمها اللاجئون الصوماليون، أكثر من خمسين ألف لاجئ منهم يقيمون في هذه المنطقة وحدها، ويقال إن عددهم الإجمالي في بقية المناطق أكثر من مائة وخمسين ألفاً، ولا يبدو أن أعدادهم سوف تكف عن التزايد، فالحرب والمجاعة في القرن الأفريقي مازالتا مستمرتين، مصادفة تعسة أخرى، فاليمن تجد نفسها وهي تعاني من ظروف اقتصادية صعبة عليها أن تدفع فاتورة ذلك الصراع الدامي في القرن الأفريقي، خاصة بعد أن دخلت إريتريا وأثيوبيا في حرب عبثية أخرى.

إنه قدر المدينة التي كانت دوما مفتوحة على البحر، أراد مؤسسوها من البحارة القدماء أن تكون محمية من البر بحيث تعجز القبائل عن الوصول إليها، لذلك اختاروا موقعها بين جبال لا تطولها إلا النسور، وكانت القوارب هي صلتها الوحيدة بالمدن الساحلية الأخرى، وقد عرفت عدن منذ أن بدأت السفن الفرعونية رحلاتها إلى بلاد "بونت" بحثا عن البضائع المقدسة، كالبخور واللبان والمر التي كانت تستخدم في المعابد، ويتحدث المؤرخون عن نوع من المقايضة الصامتة وغير المباشرة، فقد كان كل واحد من تجار عدن يضع بضاعته في أكوام محددة ويتركها في حراسة بعض العبيد، ثم يأتي التجار من مصر ومن اليونان فيما بعد فيأخذون كومة البضاعة ويضعون ثمنها ذهبا في نفس المكان، ثم يأتي الكاهن فيأخذ ثلث الثمن كنصيب للآلة التي لا تشبع، ويترك ما يتبقى لصاحب البضاعة.

السفن الفرعونية والإغريقية لم تعد تجيء الآن والصفقات لم تعد تتم بتلك البساطة، وعدن دفعت ثمن موقعها على يد كل الذين سادوا بحار العالم على فترات التاريخ المختلفة، ولكن أشهر وآخر محتليها كانوا هم الإنجليز الذين انتزعوها في عام 1839 م من أيدي البرتغاليين لتكون واحدة من أهم الموانئ في طريق مستعمرتهم في الهند، كانت ضحية التخلف والتنازع المستمر بين مجموعة مشايخ المحميات، أشبه بنسخة مزيفة من ملوك الطوائف الذين أضاعوا الأندلس، وأضاعونا فيما بعد، كان الاستيلاء على عدن حدثا مهما في تاريخ الاستعمار البريطاني لأنها كانت أول قطعة من الأرض يستعمرها في عصر الملكة "فيكتوريا"، ومثلت منذ ذلك الحين واحدة من أربع نقاط كانت تتولى حماية الطريق البحري الرئيسي للأسطول البري الذي كان سيد البحار، هي جبل طارق ومالطة وقبرص وعدن، لذا فقد قاومت بريطانيا طويلا حتى قبلت التخلي عن عدن ومنحها استقلالها في عام 1968، وهي تعتبر بذلك آخر الدول العربية التي نالت هذا الاستقلال.

"ولكن الطريق إلى هذا الاستقلال لم يكن سهلا، وكذلك الطريق إلى الوحدة مع الشطر الشمالي، الطرق اليمنية دائما ما تكون وعرة وصعبة"، هكذا قال لي " يسلم مطر" مدير تلفزيون عدن في لقاء الغداء الذي دعانا إليه، كان يتحدث بصوته المرح الصاخب المليء بالحيوية، بدت هيئته نادرة بالنسبة للعديد من اليمنيين. فارع الطول، ضخم الحجم، وعندما أخبرني أنه لم يقرب من القات في أي فترة من حياته أدركت سبب كبر حجمه، فالقات على المدى البعيد هي مادة حارقة، تبدد طاقة الجسم وتضعف من بنيانه، يواصل القول: " لم يدخل الإنجليز إلى عدن إلا على جثث الذين قاوموهم من أهل اليمن، ومازالت قبورهم تطل على ساحل "صبرة" حتى الآن، لقد استخدم الإنجليز مدافع الأسطول من أجل الاحتلال، ثم استخدموا الطائرات بعد ذلك لدك قرى اليمن، وكانت هذه هي المرة الأولى التي يرى فيها أهل اليمن هذه الطيور القاتلة، لقد وضعوا أول خطوط التقسيم بين الشمال والجنوب، وجعلوا الشمال يغرق في ظلمة الأئمة، بينما ظللنا نحن في الجنوب نصارع دون جدوى أقوى إمبراطورية في العالم في ذلك الوقت ".

كانت زيارتنا لمبنى التلفزيون والإذاعة فرصة نرى فيها واحداً من أقدم مباني التلفزيون في العالم العربي، فعدن هي البلد الثاني الذي دخله التلفزيون في أوائل الستينيات بعد العراق الذي عرفه منذ الخمسينيات، كان المبنى المتواضع يشهد تجديدات شاملة، أحيلت أخيراً أجهزة البث السوفييتية إلى التقاعد وحل بدلاً منها أجهزة يابانية حديثة، والجميع متفائلون بهذه الخطوة التي سوف تنقلهم من قناة محلية صغيرة، إلى فضائية تلتقطها الأقمار الحائمة في الفضاء.

روح المدينة

عدن حافلة، فيها بصمة العالمية التي تجدها في كل الموانئ، خليط من العرب والهنود والأحباش وأهالي جزر الملايو البعيدة، يتعايشون في نفس البقعة من الأرض الراقدة على فوهة البركان، الفندق القديم الذي هبطنا فيه نزلت ملكة بريطانيا في إحدى غرفه عندما كانت في طريقها للهند، ولكن في المقابل كان هناك فندق آخر في العراء وسط "كرتير" الحي التجاري في المدينة، مجموعة من الأسرة الحديدية تحتل أحد شوارع المدينة وتنتظر روادها عندما يحل المساء، وفي جو المدينة الجاف لا يحتاج المرء إلى غطاء أو سقف يكفيهم أن سعرها زهيد لا يتجاوز النصف دولار لليلة الواحدة، وفي مكان آخر وعلى الرغم من السحر الذي تتمتع به شواطئ جولد مور، فإنه يوجد فوق تلالها واحد من أسوأ السجون في العالم هو "رأس مرباط " وهو السجن الذي قام الرئيس علي عبداللهصالح بنفسه بالمشاركة في هدمه بواسطة "البلدوزر"، وغير بعيد يمتد شاطئ "رامبو" الشاعر الفرنسي الذي كان عاشقا للشرق ورست سفينته في عدن وهو في طريقه إلى إفريقيا بحثا عن الثروة والموت. لم يكن هناك مجال للرومانسية، فأمام الشاطئ توجد بقايا سفينة غارقة، حطام قاس من أيام الصراع على السلطة بين أعضاء النظام الماركسي الذي كان يحكم الجنوب عام 1986، الأمر الذي أطلقت عليه وسائل الإعلام في وقتها "صراع القطط التي تأكل أبناءها" وفي وسط الجبال التي تحيط بالمدينة توجد معجزة عدن الحقيقية، المعجزة التي جعلتها تتغلب على الجدب وشح الأمطار وسنوات الجفاف الطويلة، صهاريج طويلة محفورة في أعماق الصخر، لا أحد يعرف من بناها على وجه التحديد، هل هي بلقيس ملكة سبأ التي ينسب إليها كل ما في اليمن من أساطير حية، أم أنهم ملوك الفرس، أم البحارة الأشداء الذين يعرفون قيمة كل قطرة من الماء العذب؟ فالصهاريج تنظم جمع كل قطرة من المطر تسقط فوق الجبال، وتحولها عبر مجموعة من المسارات والسدود إلى أن تتجمع كلها في خزانات ضخمة تقع أسفل هذه الجبال وتحفظها لوقت الحاجة إليها، وهي تسع حوالي 20 جالونا إمبراطوريا من المياه، فقد عرف الصهاريج كل الرحالة العرب، ولكن الإنجليز أعادوا اكتشافها في عام 1853 على يد سير لامبرت الذي أزال ما فيها من أوساخ ومخلفات وقام بترميمها وإعادة فتحها.

ولاتقف ميناء عدن طويلا عند حافة الماضي، فهي تحلم بإعادة أمجادها عندما كانت في الستينيات تستقبل 60% من الحركة التجارية في المنطقة، ثم تضاءل دورها عندما أغلقت قناة السويس بعد حرب يونيو 67 وانصرفت السفن العملاقة بعيدا عنها، وهي تطمح الآن في إعادة اجتذاب هذه السفن عن طريق المنطقة الحرة التي تقوم بإنشائها عند سفوح جبل "شمسان " وقد قامت بالتجهيزات الأولية بالفعل عن طريق إعداد رصيف للحاويات طاقته التشغيلية نصف مليون حاوية وأراض مزودة بمرافق تسع 300 مصنع.

الوحدة الصعبة

على الطريق بين عدن وتعز توقفنا، حولنا جبال رمادية وقرى حجرية وأطفال ذوو عيون براقة، على جانب الطريق الإسفلتي مجموعة من الأكواخ المغلقة وبقايا علامات وشارات رسمية، قال مرافقنا "هذه هي "الشريقة"، منطقة الحدود التي كانت تفصل بين الشطرين الشمالي والجنوبي "، حاولنا أن نتخيل نقاط الحراسة والتفتيش، والجنود الذين يمتون لقبائل واحدة وربما لأسر واحدة وهم يقيمون الحواجز بين بعضهم البعض، وأحيانا تتحول هذه الحواجز إلى متاريس وتحصينات يتقاتل الجميع من خلفها، في عام 1973 زار الكاتب الإيطالي الشهير البرتو مورافيا اليمن بشطريه وقال : إنها الحدود الأشد إثارة للضحك في العالم، فكل شيء ينفذ من خلالها، وقد كان محقا في ذلك، فلم تكن الحدود قادرة على قطع أواصر الطبيعة أو وشائج البشر، ورغم ذلك فلم يكن الطريق إلى الوحدة سهلا كما قالوا لي جميعا.

لقد انتهز الإنجليز فرصة ضعف العثمانيين وتغلغلوا إلى الداخل ما بعد عدن، وعقدوا اتفاقيات للحماية مع شيوخ القبائل المرتعدين، وعلى إثر ذلك قاموا برسم الحدود التي فصلت بين الشمال والجنوب في عام 1873، ولم يوافق أحد على هذا التقسيم في ذلك الوقت على الأقل، وحاول الإمام يحيى أن يحرك قواته، فكشرت بريطانيا عن أنيابها وحركت طائراتها الحربية التي قامت بقصف القرى اليمنية، وكانت هذه هي المرة الأولى التي يشاهد فيها اليمنيون ذلك السلاح المرعب التي لا تطوله يد، واستسلم الإمام وأذعن في النهاية للأمر الواقع ووقع مع بريطانيا معاهدة للصداقة والتعاون مدتها أربعون عاما، ونلاحظ هنا أن الإمام المهزوم لم يستسلم كلية، لقد قام فقط بتأجيل المشكلة لعدد من السنوات، ولكن الأمور اختلفت في كلا الشطرين، فبينما غرق الشطر الشمالي في أسر سنوات طويلة من ظلام التخلف تحت حكم الأئمة، حفل الشطر الجنوبي بحركة سياسية صاخبة، فقد تكونت الجمعيات السياسية وصدرت الصحف الأهلية، ومن الغريب أن عدن كانت هي المتنفس الأول لكل حركات المعارضة ضد الحكم الجائر في الشمال.

وقد كانت ثورة 26 سبتمبر عام 1962 تحولاً جذرياً في طريق الوحدة والمصير اليمني كله، ففي اللحظة التي نسف فيها الضباط الأحرار في الجيش اليمني قصر الإمام البدر بدار البشائر أضاءت طلقات المدافع أضواء فجر جديد طال انتظاره، ولكن تضاريس اليمن لا تدع طرقا سهلة، فالثورة ولدت ومعها تحدياتها، وجاء الجيش المصري للمساعدة فتورط هو أيضا في حرب طويلة الأمد، وهي حرب دفع هذا الجيش ثمنها غاليا عندما تلقى هزيمته النكراء في 67 على أرض سيناء، ولكن تأثير وجود هذا الجيش وقيام الجمهورية في الشطر الشمالي أحدث انقلابا في المنطقة كلها وجعلت ل الاستعمار البريطاني في عدن يبدأ في العد التنازلي لزوال نفوذه، فقد بدأ الكفاح المسلح ضده ولم يصل إلى نهايته إلا بعد أربع سنوات حصل بعدها اليمن الجنوبي على استقلاله يوم 35 نوفمبر 1967 وفق حدود دولية فرضتها إنجلترا وأرغمت الآخرين على الموافقة عليها.

هل اقترب حلم الوحدة أم أن تناقضات الأنظمة قد حولت هذا الحلم إلى كابوس؟ ألم نقل من قبل أن اليمن هو المرآة التي تظهر فيها كل عيوبنا كعرب، وهو علة كل ما فينا من أمراض مزمنة؟ لقد مرت الوحدة التي هي أقرب ما تكون بين هذين الشطرين بكل الإرهاصات الغربية المدمرة، فقد دخل كل نظام منهما في نفق مظلم لم يستطع الخروج منه إلا بعد سنوات طويلة، من السلال قائد الثورة الذي رقى نفسه إلى رتبة المشير فحلت عليه لعنة الرتبة، إلى إبراهيم الحمدي الذي قام بانقلاب أبيض كان هدفه إقامة هذه الوحدة، ولكنه اغتيل قبل يوم واحد من توجهه إلى عدن لمناقشة هذا الأمر ولم يعرف من الذي قام بهذا الاغتيال، إلى أحمد الغاشمي الذي لم يستمر حكمه أكثر من ثمانية أشهر قتل بعدها بفعل انفجار طرد كان يحمله مبعوث الرئيس اليمني الجنوبي سالم ربيع حتى تولى السلطة الرئيس اليمني الحالي علي عبداللهصالح الذي تحققت الوحدة على يديه أخيرا.

تفاصيل وتفاصيل، جرى اختصارها هنا إلى إيقاع البرقيات، كانت في جوهرها متشابهة مع ما حدث في الشطر الجنوبي الذي كان يطبق نظاما مختلفا إلى حد مرير، تنازع وانشقاقات وتصفيات، وكلها باسم تحقيق حلم العدالة المطلقة. المهم أن الوحدة جاءت بعد سنوات من الانتظار، وأنها قد صمدت أمام عوامل الانفصال، اجتازت الامتحان الصعب الذي لم تفلح فيه الوحدة المصرية - السورية، وها هي قد احتفلت في 22 مايو الماضي بعيد وحدتها العاشر، وهي مناسبة تبعث الأمل في ظل فشل كل التجارب الوحدوية العربية.

تعز- وسحرها القديم

دخلنا تعز ليلاً، أتوقف في مواجهة ذلك المشهد الذي سحر قلبي منذ أن رأيتها في المرة الأولى، البيوت مضاءة ومتناثرة فوق جبلها العالي، نجوم هبطت من السماوات البعيدة لتنام على جبل "صبر"، تحتوينا طرقها الضيقة الصاعدة دوما إلى أعلى، يرق الهواء ويصفو وينبعث صوت غناء يمني شجي، تعز نجمة يمنية تتألق وتخبو وتستفيق على تكبيرات الصحابي معاذ بن جبل عندما أقبل إليها حاملاً الإسلام واتخذ منها داراً لجنده، منذ ذلك التاريخ، وقد مرت بالمدينة تقلبات الدهر، فشهدت صعود الدول وهبوطها، وكل دولة تركت في دروبها المختلفة نقوشا من الحجر، ولم يدم سوى الجبل وتلك القلعة الرابضة على قمته.

نبدأ جولتنا الصباحية بصحبة واحد من شعرائها الشبان هو عبداللهحسن، نجتاز باب موسى أحد الأبواب القديمة التي مازالت باقية، نسير فوق أرض مرصوفة بالأحجار الضخمة، الدروب نفسها التي سلكها ملوك الدولة الرسولية والأشر فيه والإسماعيلية، مساجد قديمة وتكايا ومدارس، ندخل السوق القديم لنتذوق من جبن تعز الصلد اللذيذ، ومن فوق قمة الجبل تطل علينا قلعة "القاهرة"، تترصد خطانا، كأن فيها قوة جاذبه تدفعنا للصعود إلى ارتفاعها الشاهق، تبدو أمامنا بعض من خصائص الإنسان اليمني وعشقه لسكنى المرتفعات حتى ولو كانت متفردة وخطرة، بالقرب من القلعة يوجد قبر "الشيزي " أحد الشعراء اليهود. كان يكتب أشعاره بالعبرية، إحدى علامات التسامح في المجتمع اليمني، نقترب أكثر من القلعة، يحل في قلبي رعب من مشهد أحجارها المتماسكة، أتذكر تلك الرواية الرائعة التي كتبها مطيع زيد دماج بعنوان "الرهينة"، إنه واحد من الحكائين اليمنيين العظام، كتب تاريخ بلاده بدم القلب، ولم يهزمه إلا صراعه القاسي مع المرض، ودع عالمنا وترك خلفه باقة من الحكايات والقصص اليمنية النادرة، في الرهينة يكشف عن صفحة مرعبة من التاريخ اليمني حين كان الإمام يأخذ أبناء مشايخ القبائل ويحبسهم في هذه القلعة حتى يضمن ولاء آبائهم، وفي المقابل عاش هؤلاء الرهائن الصغار حياة تعسة تعرضوا فيها للاغتصاب والخصي والموت، وتقدم الرهينة شهادة مرعبة عن هذه الفترة وهذا النظام الغريب، وقد عرفته اليمن من أيام الحكم العثماني، وفي هذه القلعة بالتحديد منذ حوالي 300 عام تقريبا قام الحاكم التركي أو السردار - على إثر القضاء على واحدة من الانتفاضات اليمنية ضد الحكم التركي - بجمع مشايخ القبائل داخل سور القلعة وفرض على كل واحد منهم أن يقدم رهائن يفدي بها حياته، وكما يقول مؤرخ تعز محمد المجاهد كانت الرهائن مثلثة، أي تحتوي على زوجة وبنت وولد، وقد نزل هذا القرار على شيوخ القبائل نزول الصاعقة ولم يملكوا له دفعا لأنهم كانوا في عداد المسجونين داخل القلعة.

شهد الحصن بعد ذلك موجات من هؤلاء الرهائن مكونة من فتيات ناضرات وغلمان لم يبلغوا الحلم ونسوة ناضجات، وعلينا أن نتخيل كيف انتهت تلك المصائر التعسة بين أيدي جند الترك الشرسين، وحتى بعد أن رحلوا فقد توارث أئمة اليمن تطبيق هذا النظام بعد أن قصروه على الغلمان فقط، ويمكن أن نطلق على تعز مدينة الرهائن فقد امتلأت شوارعنا وقلعتها بهم، ففي عام 1924 في عصر الإمام يحيى الذي كان من أشد العصور وطأة، بلغ عدد الرهائن حوالي 4 آلاف رهينة ما بين مقيد أو غير مقيد أو مطلق السراح، كل حسب أهمية قبيلته ودرجة خضوع قبيلته، لم يستطع العديد من هؤلاء الرهائن العودة أو مواجهة قبائلهم مرة أخرى، لذا فضلوا البقاء في المدينة والإقامة فيها، وعوضوا جروحهم الداخلية بالدرس والتحصيل، وكان من الطبيعي أن يكونوا من زعماء معارضة نظام الأئمة بعد ذلك.

دعوة على القات

في طريقنا للهبوط نرى جانبا من المأساة التي تعيشها تعز، فجبل صبر الذي كان دائما متوهجا بالخضرة والنضارة يبدو عطشا وجافا، فاليمن كلها ومدنها الكبرى بوجه خاص تعاني من استنزاف مخزون مياهها الجوفية، وقد وضعت الحكومة خطة طموحا للتوسع في الزراعة من أجل الاكتفاء الذاتي من الخضراوات والفواكه واللحوم، ولكن ذلك لم يتحقق لأن أشجار القات قد التهمت معظم هذه الزيادات وشربت غالبية الماء، وفي الجانب الغربي من اليمن يتم استهلاك حوالي 8.1 مليار متر مكعب من الماء سنويا بينما لا تبلغ التغذية السنوية له إلا 1, 1 مليار متر مكعب، والمتهم الأول في هذا الأمر هو شجرة القات.

لا أحد يعرف على وجه الدقة كيف سادت هذه الشجرة الشيطانية، ولكنها قديمة كالتاريخ، وقد كنا نتوهم ونحن صغار أن اليمن هي موطن أجود أشجار البن، ولكن القات استطاع أن يزيح من أمامه شجرة البن الرهيفة، وأن تأخذ الأرض منها، فهي تحتل أكثر من ربع الأراضي الخصبة المزروعة في اليمن، ويمثل جبل صبر الذي نهبط من عليه واحداً من أجود أنواع القات، وتستهلك هذه الشجرة أكثر من 485 مليون متر سنويا أي حوالي ربع الماء المتوفر للزراعة.

وللقات عمق غائر في الثقافة الاجتماعية اليمنية، وهو يشكل الحياة اليومية فيها، وقد قال لي مسئول كبير مؤكدا: "إنني أتناول القات منذ ثلاثين عاما ولم يصب جسدي بأي شيء وكذا قواي العقلية، إن القات قد حمى شبابنا من إدمان المواد الخطرة كالحشيش والهروين، كما أن دورة القات دورة داخلية فهو يزرع في اليمن ويوزع داخلها وبذلك لا يبدد ثروتها في الخارج، كما أن له آثاراً اجتماعية جيدة، فمجلسه يساوي بين الغني والفقير وهذا شيء لا تجده في أي مكان آخر" انتهى كلام المسئول الكبير، فهل الأمر كذلك حقا؟ كما قلت من قبل فاليمن تعيش الآن مرحلة من التفتح.

ولم يعد النقاش حول القات من المحرمات، وقد كان يعتبر إلى وقت قريب شيئا من مقدسات الحياة اليمنية ومفتاحا لفهمها، بل إن العديد من الدبلوماسيين لم يجدوا بدا من أن يحمل كل واحد منهم تحت إبطه تلك الحزمة الخضراء ويتوجه بها إلى مجالس الظهيرة، فالحياة منذورة لمجلس القات منذ الثانية ظهرا حتى الثامنة مساء أو نحو ذلك، ويتساوى في تناوله الجميع، يمضغه الأطفال، وتعقد النساء المجالس من أجله، وينتقده الجميع ولا يكفون عن التهامه، والنتيجة هي ضياع 14 مليون ساعة يوميا، وإنفاق ما يوازي 1، 5 مليار دولار أمريكي أي ما يوازي ربع هذا الناتج المحلي.

ولعل أول ثورة ضد تسلط هذه العادة هي المحاولة التي قام بها الإمام المتوكل في بداية القرن الماضي عندما أمر بإحراق كل أشجار القات الموجودة فوق جبل "صبر" حتى الجذور، وظل تناوله محرما حتى تراجعت سلطة الإمام وعادت براعم القات المختبئة للتفتح من جديد، وكان النظام الماركسي الحاكم في اليمن الجنوبية يحرم تناوله إلا مرة واحدة في الأسبوع، ولكن أبرز نتائج الوحدة كانت أن أصبح القات جزءا يوميا في الجزء الجنوبي أيضا، وزاد من تفاقم أضرار القات تلك المبيدات الحشرية والمخصبات التي أصبحت تضاف إليه حتى يبقى مزدهراً وجاهزا للقطاف أطول فترة ممكنة، وترتب على ذلك ظهور أمراض السرطان وخاصة سرطان الفم، وازدادت أعراض التسمم بنسب مرتفعة، كما أهمل الفلاح اليمني حيواناته التقليدية ولم يعد يهتم بتربيتها بعد أن لا حظ أنها تنافس الإنسان في نهمها لأوراق القات.

حرب القات

وأخيراً بدأت السلطات حربها ضد القات، وأصدر الرئيس أوامره بمنع تعاطي القات بين جميع أفراد القوات المسلحة بمختلف الرتب، وقد تلقفت الصحف والجمعيات الأهلية هذه المبادرة وبدأت حملة واسعة هي الأولى من نوعها من أجل " يمن بلا قات "، ولكن الكثيرين يشككون في نجاح مثل هذه الحملات، فعلى مدى هذه السنوات أكتسب القات اقتصاديات موازية للاقتصاد العام، ويقدر أن الذين يعملون فيه ويستفيدون من زراعته ونقله و توزيعه حوالي 650 ألف شخص، أي حوالي 17% من مجموع العمالة في اليمن، كما أن هناك العديد من كبار تجاره من شيوخ القبائل الحريصين على مكاسبهم حتى آخر مدى.

وقد جربت أوراق القات بطعمها اللاذع، ولكنني لم أستطع أن أحس بتأثيره لأن الأمر كان يحتاج إلى تناول كمية كبيرة من هذه الأوراق، كما أنني فشلت في تخزينه في جانب الفم كما ينبغي أن يكون، فالمخزن المحترف يبقي الأوراق في فمه لأطول فترة ممكنة، ويستحلب عصارتها ببطء على مدى ساعات المجلس، لذا فقد أخذت أتأمل تأثيره على المخزنين المحترفين، فأوراق القات تحتوي على مزيج من المواد المنبهة والمخدرة في آن واحد، لذا فإن المجلس يبدأ بنوع من البهجة الحقيقية عندما يضع كل واحد أمامه الحزم الخضراء بأعوادها الطويلة ويبدأون في تذوقا الأنواع المختلفة للمفاضلة بينها، وبعد فترة من التخزين يكون إيقاع البهجة والانتشاء قد ارتفع، فيقترح أحدهم موضوعا معينا للنقاش، في السياسة في الثقافة في الاجتماع، وهكذا ترتفع الأصوات في النقاش بحماس حقيقي، وتتناثر الآراء منطقية ومتطرفة ومليئة بالسخرية، ثم يتناثر النقاش وتتداخل الموضوعات إلى أن يحل صوت مطبق يغوص فيه الجميع وهم يلوكون الأوراق ويبصقون المخلفات.

قبائل وسلاح

ربما كان الشاعر عبدالعزيز المقالح- في اعتقادي - هو اليمني الوحيد الذي لا يملك قطعة سلاح إضافية في بيته، اللهم إلا سكاكين المطبخ، فهذا الشاعر والأكاديمي الرقيق يسير في تواضع وبساطة ليسير أمر جامعة صنعاء التي يرأسها بكل ما فيها من تناقضات وصراعات، يعيش عالماً مفتوحة لا يحتاج فيه إلى من يحمى ظهره من طعنة غادرة. وفي بلد يبلغ تعداد سكانه 17 مليونا من البشر يملكون 55 مليون قطعة من مختلف الأسلحة، يبدو غريبا أن تكون أعزل لا تعتمد إلا على قوة الكلمة، والذي دفع بهذه الخواطر إلى ذهني هو رؤيتي للعديد من مشاهد المواكب المسلحة في اليمن، وتلك المباهاة التي يبالغ فيها البعض فيحملون السلاح حتى في الزيارات العائلية، ولا يقتصر الأمر على شيوخ القبائل الذين يسيرون وحولهم حرّاس ضئال الحجم يحملون بنادق "الكلاشنكوف " أطول من قامتهم، ولكن يفعل ذلك أيضا العديد من الرسميين والأكاديمي

على العكس من ذلك كان المقالح، لم ينس أنه شاعر وأن روحه الطليقة فوق كل الرسميات وكل أصناف القيود، أقول له ونحن نجلس في جانب من مكتبة مركز الدراسات اليمنية: "كنت أريد أن أتحدث معك في الأدب والشعر، ولكن بعد هذه الجولة وما رأيته وسمعته عن سطوة القبائل أريد أن أعرف لماذا بقيت القبيلة في اليمن، لماذا عبرت كل هذه الأزمنة وبقيت ". يغلق جهاز التسجيل، وأدرك لماذا فعل ذلك بعد أن أسمع صوته هادئا وخافتا، لم يكن هناك أي جهاز تسجيل قادر على التقاط نبراته، يقول: بقيت لأنها نظام غائر الجذور وقد ساعدت طبيعة الجغرافيا الجبلية على وجوده، هذا الحضور التاريخي لم يكن يتناقض مع كيان الدولة القديمة، وقد بقيت في اليمن لدورها في التصدي لكل الغزوات، وفي اعتقادي أن القبيلة موجودة في كل البلاد العربية دون استثناء، وكما نرى فالقبيلة تطور نفسها عبر الزمن والدولة تطوع قوانينها لتتماشى مع الأعراف والتقاليد وهي تترك الفرصة للزمن ليغير من تلك التكوينات المتراكمة، إن للتعليم دوراً أساسيا في إزالة هذه الفوارق القبلية، فقد خرجت الجامعة أخيراً وأنشأت كليات متخصصة في أكثر من منطقة قبلية حتى تربطها مع العصر، وقد استقطبت هذه الكليات ليصر أبناء القبائل فقط ولكن بنات القبائل أيضا وهذا تطور لم نكن نحلم به في اليمن، إنني أدعوكم لمشاهدة كلية التربية على الطبيعة وسط قبيلة أرحب ".

وفي الصباح بدأنا رحلتنا إلى "أرحب" برفقة الدكتور فضل أبوغانم، مؤلف كتاب "الدولة والقبيلة" في اليمن ونائب رئيس الجامعة، كانت كلية التربية التي نقصدها مقامة على أرض قبيلته وكان هو نفسه ابنا لأحد شيوخ القبيلة، في هذا الموقع تطبيقا لإيمانه العميق بأهمية القبيلة ودورها بالنسبة للدولة، قلت له: "ولكن القبيلة نسق مغلق، قيم وأعراف وتقاليد منغلقة على مجموعة من الناس تجمعهم صلة الدم والنسب من الصعب أن تذوب في مفهوم الدولة العام، وبالتالي فهي تضع مصلحتها قبل مصلحة الدولة" رد علي في اقتناع بعبارة مأثورة مأخوذة من التراث الفرعوني : " الكل في واحد، هذا هو مفهوم التجمع القبلي في اليمن، إن مجموع القبائل يكوّن تركيبة الدولة ولا يتناقض معها، لقد خرج المجتمع القبلي من نظام العزلة التي كانت مفروضة عليه، وحدث نوع من التكامل بين العناصر والسمات القبلية والسمات الحديثة، إن رموز القبيلة الآن ووجهاءها يشغلون العديد من المناصب الحكومية ويتم استشارتهم في شئون البلاد وأصبح التواصل بين السلطة ورجال القبائل من ضرورات العمل الوطني ".

وعلي أن أعترف أن زيارتنا لكلية التربية في أرحب وحي واحدة من أكبر القبائل اليمنية كانت رائعة، فقد التف حولنا رجال القبائل والأساتذة والطلاب في مودة غامرة، كانوا مزهوين بالكلية وبخروج أبنائهم وبناتهم إلى سلم التعليم العالي ولكن... هل يتوافق السلوك القبلي في اليمن مع ما يقوله هذان الأستاذان المرموقان، أو مع محاولة هذه القبائل أن تمتلك أدوات الدولة فيكون لها سجونها وميلشياتها المسلحة وحتى مطاراتها الخاصة رغم أنه لا توجد لديها طائرات؟ هل يتفق هذا مع خطف الأجانب العزل ومحاولاتهم الدائمة لابتزاز الدولة؟ وهل يتفق هذا أيضا مع تحويلها تجربة التعددية السياسية إلى كيانات قبلية مغلقة بلغ عددها 46 حزبا صوريا، وأن زعماء القبائل الكبرى قد تركوا قبائلهم بما فيها من أنساق للأعراف والقيم حتى يخوضوا في العاصمة غمار معارك البيزنس والحصول على التوكيلات الأجنبية؟ أسئلة كثيرة وعديدة مازالت تواجهها اليمن وهي تجابه مشكلات التنمية التي تمثل معضلة لنا جميعا، ومازالت جولتنا مستمرة في ربوع اليمن، بيت العرب القديم.

 

محمد المنسي قنديل

 
  




اليمن أرض الجدود والوعود





الزي اليمني التقليدي لا بد أن يتوسطه الخنجر الذي يمثل نوعا من عزة النفس





صنعاء متحف حي ومفتوح لنوع فريد من عمارة الحجر فاليمن قد استأنس الجبال وحولها إلى تلك العمائر





فتاة خلف النافذة





ملكة سبأ





رجل يتطلع إلى قمر بعيد





تجليات من الفن اليمني المعاصر تبدو في أعمال الفنان فؤاد الفتيح من خلال معرضه الدائم وتظهر في الصورة لوحة سوق الملح





يمنية في زيها الاسود، زي الخروج التقليدي في اليمن





خليج عمان. خليج الاساطير والبخور واللبن والمر، شهدت مياهه الزرقاء طرفا من الاحداث الجسام التي مرت على عالمنا





مشروع المنطقة الحرة وميناء الحاويات عند جبل شمسان في خليج عدن





صهاريج المياه التي يقال ان الملكة بلقيس قد حفرتها.. انها فارغة الآن من مياهها بسبب اعمال الصيانة





اشجار القات.. الشجرة الشيطانية التي تتحكم في مصائر ابناء اليمن





وقت الظهيرة والوجنات كلها منتفخة بسبب تخزين اوراق القات





جبل صبر في تعز. كان جنة من الخضرة الوارفة ولكنه يعاني الآن من متاعب الجفاف





الحكمة يمانية.. شعار قاله الحكماء واتخذته الجامعة شعارا لها





د. عبدالعزيز المقالح.. الشاعر المعروف ومدير جامعة صنعاء





كلية التربية في منطقة ارحب.. التعليم يدخل مناطق القبائل ليغيرها





رغم الحجاب فالفتاة اليمنية تتعامل مع الكمبيوتر





شباب القبائل يسعون االى العلم ويتطلعون للمستقبل





المعامل متوفرة لتربط اليمن بالعصر الحديث





الطلبة داخل الجامعة حيث تتوفر ادوات البحث العلمي





حمل السلاح عادة اجتماعية وضرورة للنزول إلى الأسواق





كوكبان مدينة حميرية قديمة فوق قمة الجبال الحمراء





على أعلى قمة الجبل يقف هذا المبنى بأحجاره شامخا شموخ اليمن وعزة أهلها