اللغة حياة.. ما كلّ ما قيس على كلام العرب مقبول

اللغة حياة.. ما كلّ ما قيس على كلام العرب مقبول
        

          اتّصل بي أحد أصدقائنا اللغويّين وسألني : يقول سعيد عقل في قصيدة «سمراء يا حلم الطفولة»:

          ضَوْءاً - فَدَيْتُ الضَوْءَ - يُو
                                        لَدُ طَيَّ لَفْتَتِكِ العَليلهْ

          وقد حرّك الجميع كلمة «لفتة» بفتح اللام اعتماداً على ما في ديوان الشاعر، مع أنّ الكلمة تدلّ على الهيئة وتقتضي كسر اللام، فهل توافقني الرأي؟ فأجبته: ولكنّ العرب كثيراً ما تستعمل مصدر المرّة لوصف الهيئة، وهو في هذا البيت أخفّ وأجمل.

          والحقيقة أنّ كثيراً من المشتغلين باللغة يعتقدون أنّ القاعدة التي أطلقها ابن جنيّ في كتاب «الخصائص»، والقائلة بصحة القياس على كلام العرب، قاعدة مطلقة، فإذا أردنا أن نُلبس جذراً ما معنىً صرفيّاً خاصّاً فما علينا إلاّ أن نجعله على الزنة التي استعملها العرب لذلك المعنى؛ ولهذا نراهم يسوّغون لأنفسهم اشتقاقات ليست كلّها ممّا يستحسنه العرب. ولو قرأوا كلّ ما قاله الرجل في هذا الشأن لتريّثوا وتحفّظوا. صحيح أنّه أوحى عموم القاعدة في «باب ما قيس على كلام العرب فهو من كلام العرب» حيث مثّل لقاعدته بصحّة استعمال فاعلٍ أو مفعول به لم يُستعملا من قبل، وباشتقاق اسم جديد بأن يُلحق بآخره حرف مماثل له، وباشتقاق اسم جديد من الثنائيّ المكرّر، وبمعرفة الفعل المضارع لفعل ما من غير سماعه؛ لكنّه استثنى من ذلك كلّه ما يستقبحه العرب، كأن يتكرّر فيه حرف حَلْق أو ما يقارب حرف الحلق.

          لكنّ ابن جنيّ يستدرك على القاعدة في باب لاحق هو «باب في امتناع العرب من الكلام بما يجوز في القياس»، حيث ذكر استغناء العرب عن الاسم بالفعل في خبر كاد وما التعجبيّة، وعن مضارع وَذَرَ ووَدَعَ بالمضارع يتركُ، وعدم استعمالهم فعلي «دُرهِمَ» و«فُئد» مع وجود الصفتين «مُدرْهَم» و«مَفؤود»، وعدم استعمال الأفعال التي تجتمع فيها علّتان. وهو يستنتج «أنّ استعمال ما رفضته العرب لاستغنائها بغيره جارٍ في حكم العربيّة مجرى اجتماع الضدّين على المحلّ الواحد»، ويقرّر وجوب استعمال أحد الضدّين دون الآخر؛ وهو يعني بالضدّين الكلمتين أو العبارتين المترادفتين التي تستعمل إحداهما وتترك الأخرى. وكان قد قرّر أيضاً وجوب اتّباع العرب في ما تركتْه «لعلّة داعية إلى تركه».

          فهناك أشياء يرفضها العرب على الرغم من صحّة قياسها، فليس القياس مطلقاً؛ ولعلّ مقالتنا «طبيعة اللغة تتقدّم على قواعد الصرف» (العربيّ، أكتوبر 2010) ممّا يؤيّد ذلك، إذ بيّنا أنّ العرب قلّما تشتقّ اسمَي المكان والزمان من الثلاثيّ المزيد بالهمزة، وممّا فوق الثلاثيّ، وأنّها تردّ ذلك، غالباً، إلى الأصل الثلاثيّ ولو مفترضاً، أو تقيس على الثلاثيّ ما يُشتقّ من أسماء الأعيان. وموضوع مصدرَي الهيئة والمرّة، الذي سنعرض له اليوم، تأييد إضافيّ لذلك.

          لقد تتبّعنا في «لسان العرب» ما ذُكر أو أُوحي أنّه مصدر هيئة، فوجدنا نيفاً وعشرين لفظة فقط، بعضها مشهور، كالمِشية والجِلسة والبيئة والبِزة واللِّبسة، وبعضها مجهول أو شبه مجهول، كالإزرة والإمّة والرِّكبة والحِجزة؛ فإذا قارنّا هذا العدد بجميع الألفاظ التي على وزن فِعلة، وهي تعدّ بالآلاف، اتّضح لنا أنّ استعمال هذا الوزن لمصدر الهيئة قليل، ويكاد يكون سماعيّاً لا قياسيّاً. ولذلك لو خطر لنا اشتقاق مصدر الهيئة من كل الأفعال العربيّة لخرجت علينا غرائب لا تقرّها العربيّة، أو لا صلة لها بالمصدريّة، أو تخالف معنى الفعل الذي اشتُقّت منه. فلو اشتققنا مصدر الهيئة من فعل رَثَّ، مثلاً، لحصلنا على رِثّة؛ لكنّ الرثّة هي البالي من كلّ شيء، وتقال لرديء المتاع خاصّة، وليست مصدراً. ولو أردنا اشتقاق مصدر الهيئة من فعل جزى، لحصلنا على جِزْية، لكنّ الجِزْية هي المال الذي كان يدفعه الكتابيّ للدولة الإسلاميّة لقاء حمايته ورعايته. ولو أردنا اشتقاق مصدر الهيئة من غابَ لحصلنا على غِيبة؛ والغيبة ذكر الإنسان في غيبته بخير أو بشر. ولو أردنا اشتقاق مصدر الهيئة من رَعَدَ لحصلنا على رِعدة، والرِّعدة ارتعاش واضطراب يسببه الخوف أو البرد. ومثل ذلك مئات الأفعال أو ألوفها.

          ومن ناحية أخرى قد يُستعمل وزن فِعلة لمصدر المرّة وللمصدر العامّ، وعلى ذلك نصّ أهل اللغة حين أشاروا إلى كلمة الحِجة، وإن أكّدوا أنّها من الشواذّ. والحق أنّها ليست شاذّة، فمثلها عدد لا بأس به من المصادر، نحو: فِطنة وبِطنة ونِقمة وصِبغة وخِطأة وقِسمة ورِعدة. ومن تلك المصادر لفظة هيئة التي تقال بفتح الهاء وكسرها، وقد جعلوها مصدراً لفعل هاء أو هَيُؤَ. بل ثمّة قاعدة ذكرها «لسان العرب» وهي أنّ «الفِعلة يجيء في مصدر فاعَلَ؛ تقول: هاجر هِجْرة وعاشر عِشْرة» غير أنّنا لا نعرف غير هذين المصدرين شاهداً على تلك القاعدة المفترضة.

          وربما عُبِّر عن الهيئة بمصدر عامّ أو بمصدر ميميّ أو بمصدر مرّة، كقولنا: قاتله قتالَ الفارس، وعدا عدْواً سريعاً، وقرأ قراءةَ العالم، وارتكبَ فَعلةً بشعة؛ وقد قُرئت الآية التي تتحدّث عن قتل موسى للقبطيّ بفتح فاء «فعلة» وانفرد الشعبيّ بكسرها، وتقول: وَفَعَلْتَ فَعْلَتَكَ الَّتِي فَعَلْتَ وَأَنْتَ مِنَ الْكَافِرِينَ   والمراد بالفَعلة هنا القِتلة. ويقال: سار سيراً وئيداً، وليس سِيرة وئيدة. ومع توكيدهم أنّ لفظة السِّجدة مصدر هيئة لسجد، فإنّهم لم يذكروا شاهداً على ذلك، وليس في الحديث إلا سَجدة (بفتح السين)، ولا في القرآن إلا السجود. وقد وضحنا أنّنا لا نستطيع اشتقاق الرِّعدة من رَعَد، بل نستعمل للهيئة من هذا الفعل مصدره العامّ أو مصدر المرّة.

          وبعد ذلك فمن المعروف أنّ ثمّة أسماء تدلّ على هيئة العمل أو نوعه، ولم يُدخلها اللغويّون في المصادر، في ما نعلم، بل جعلوها تنوب عن المصادر في المفعوليّة المطلقة، وكثير منها أقرب إلى أن يكون مصدراً، ومن ذلك: القُرْفُصاء، والقَهْقَرى، والخَيْزَلى أو الخَوْزَلى أو الخَيْزَرى أو الخَوْزَرى (والأربعة الأخيرة تعني المِشية فيها تفكّك أو تبختر)، والهَيْدَبى (المشية فيها تبختر)، والهَيْذَبى (مشية سريعة للخيل)؛ ولولا القهقرى، وهي بوزن (فعللى)، لاستنتجنا أنّ هيئة السير يعبّر عنها بوزن فوعلى أو فيعلى، وإن كانت الأوزان الثلاثة أسرة واحدة. والنتيجة أنّ القياس لا يستقيم دائماً، بل قد يفضي إلى خلاف المراد، أو يُخرج الكلمة عن حيّزها اللغويّ، وقد يأتي بالمستقبَح، أو ما يعجز العربيّ عن فهمه، وأنّ ثمة موازين تحلّ محل أخرى وتغني عنها، وأنّ المعرفة الصحيحة للغة والملَكة اللغويّة السليمة هما المرجع في هذا الأمر.

 

 

مصطفى علي الجوزو