إلى أن نلتقي

إلى أن نلتقي
        

قلادة النيل

          أسعدني حقًا ذلك التكريم الذي ناله الجراح العالمي مجدي يعقوب في وطنه الأم، فهذا الرجل القديس  وهب حياته في صمت وتبتل من أجل إنقاذ أرواح  آلاف الأطفال، ومثل كل الرهبان اختار أن يبني مستشفاه في أقصى صعيد مصر، بعيدًا عن صخب الإعلام وأضواء الشهرة، وسط الفقراء الذين يحتاجون إلى هبته الإنسانية وهو يعالجهم بالمجان، وكم كانت جميلة قلادة النيل العظمى وهي تزين عنقه النبيل، وقد اكتسبت جزءا من جلال شخصيته، وهي من المرات القلائل التي تذهب فيها هذه القلادة لمن يستحقها، فكثيرًا ما تذهب لرؤساء دول قفزوا على السلطة، واستعذبوا طعم الاستبداد، لم أحضر هذا الاحتفال، ولكن قدر لي أن أحضر احتفالاً مماثلاً داخل القصر الرئاسي عندما تم تقليد أديبنا العظيم نجيب محفوظ نفس هذه القلادة، كان يومًا رائعًا، خاصة تلك اللحظة التي أحنى فيها نجيب محفوظ رأسه في تواضع  وخاطبنا قائلا: «زملائي الأدباء النجباء»، تصورت لحظتها أن «نجباء» تعني جمع «نجيب» وأننا ذات يوم سنكون مثله، لم يتحقق هذا على أي حال، كان الأديب العراقي  مجيد الربيعي يجلس بجانبي مستثارا للغاية، واكتشفت أن السبب ليس وجوده في هذا الحفل ، بل لأن  في الصف الذي خلفنا يجلس جمع من الفنانين أمثال فريد شوقي ومحمود ياسين وسميحة أيوب، ولم يصدق أنه يراهم  في الحقيقة وليس على الشاشة،  وبعد انتهاء الكلمات الرسمية  أخذنا نتناول أطعمة بسيطة ونشرب الشاي، وانتهز الشاعر محمود درويش - رحمه الله - الفرصة وسعى لمصافحة فريد شوقي بحرارة وقدم له نفسه، لكنه رد عليه في برود من لا يعرفه ، وعاد درويش محبطا فقال له سعيد الكفراوي: هل كنت تعتقد أن فريد شوقي يقرأ الشعر، إنه بالكاد يقرأ مجلة الكواكب والموعد والشبكة، وقال  درويش: إنه الملك.. ملك الترسو حقا.. ولكنه ملك.. واستطاع جار النبي الحلو التسلل حتى وقف مباشرة أمام الرئيس وقال: افرج عن رواية «أولاد حارتنا» ياريس، إنها ممنوعة منذ صدورها، وتساءل الرئيس: يعني أنت قريتها ياخي؟ ورد جار بثبات: طبعا.. وهي رواية عظيمة، قال الرئيس ضاحكًا، مادمت قرأتها وهي ممنوعة ، فلماذا نفرج عنها إذن؟  واقترب واحد من أحزاب المعارضة من الرئيس، من حزب الأحرار على ما أذكر، وهو يقول: اسمح للحزب بامتلاك مطبعة ياريس،  حتى ولو كانت في حجم صندوق صغير، ورد الرئيس: طبعًا.. عشان تطبعوا عليها منشورات ضدنا، وأخذ الرجل الكلام على محمل الجد فشحب وجهه  وكاد يغمى عليه، كان الجميع في حالة من الصخب والانتشاء إلا نجيب محفوظ، كان يجلس في أحد الأركان صامتًا ساهمًا كأبي الهول، لعله كان يفكر أن هذا ليس مكانه، وأن الأفضل له أن يجلس في أحد المقاهي الشعبية وسط الحرافيش من أصدقائه، بدا واضحًا أن القلادة الضخمة تثقل عنقه النحيل، وتمنى كل واحد منا أن يتقدم وان يرفعها عنه حتى يكون على راحته، ولكن من كان يجرؤ على ذلك؟.

 

 

محمد المنسي قنديل