ثروة النفط... الوجه الآخر: د. سليمان إبراهيم العسكري

  ثروة النفط... الوجه الآخر: د. سليمان إبراهيم العسكري
        

          مارس الغربُ، القادم إلى الشرق مستكشفًا، ومستعمرًا، ودارسًا، ومستوطنًا، سطوته في تشكيل صورة العالم كله عن المجتمعات التي اعتقد أنها أدنى منه حضارة، وأقل عنه تقدما. وقد أورث هذه السطوة ذاتها لأبناء الأمة الواحدة، فأصبحوا يشاهدون أنفسهم ويدركون صورة أبناء مجتمعهم في مرآة الغرب. هكذا تكونت آراء منقوصة، وشاعت، حتى أصبحت بمرتبة الحقائق. من هذه الصور ما شاع عن الثروة النفطية في دول الخليج العربي، وهي الصورة التي نشأت عقب اكتشاف البترول، حين استطاع أبناء هذه البلاد أن يستفيدوا من خيرات أرضهم منذ أكثر من نصف قرن. لكن النظرة النمطية قيدت المجتمعات الخليجية في إطار وحيد بوصفه مجتمعًا قبليًا استهلاكيًا مبذرًا متخلفًا. لكننا نتساءل، ونحن نتأمل مسيرة هذه المنطقة في ظل احتفالاتها بعقود الاستقلال: هل بدّد الخليج ثروته النفطية هدرًا؟، أم استطاع توظيفها، ولو جزئيًا، في مشروعه التنموي؟!. دعونا نبحث عن الوجه الآخر لثروة النفط.

  • اهتمت الكويت، في وقت مبكر، برعاية الفنون والآداب، وهو ما أسهم في نشأة حركة مسرحية وموسيقية مرموقة أسسها رموز الحركة المسرحية العربية الذين درَّسوا في معهدها العالي للفنون المسرحية
  • لكي نتخلص من قصر رؤية الخليج على كونه نفطاً، وشعبًا مبذرًا، وثروة مهدورة، يفترض علينا أن ننظر بإنصاف إلى ما ينشأ في هذه المجتمعات اليوم من بنى تحتية للعلوم والثقافة والتعليم
  • نجاح دولة قطر في الحصول على تنظيم كأس العالم للعام 2022 يعتبر جهدًا تنمويًا يصب في تطوير المجتمع القطري، بما يستتبعه ذلك من تأثير في المجتمعات الخليجية والعربية قاطبة

          كان الشرق، بالنسبة للأوربي، منطقة قد تبدأ في بلجراد الصربية، فكل ما هو شرق يأتي خارج النهضة الصناعية الغربية، واتسع مفهوم الشرق ليشمل جغرافيًا دولًا وثقافات تبدأ في الشمال الإفريقي حتى تصل إلى الشرق الأقصى في اليابان. وأصبح الشرق لا يعني الجغرافيا وحسب، بل يعني مجموع التصورات الأوربية للغرباء الذين لا ينتمون إلى أوربا، ولسنا في مجال إظهار الصور السلبية لهذه التصورات والخيالات التي أسبغها على كل أمة وكل قطر وكل مجتمع، ولكنها لم تكن أبدا الصورة الكاملة العادلة الشاملة.

          هكذا ولدت تلك الصورة النمطية السلبية عن سكان المنطقة في رحم الغرب، فقد استطاعت آلة إعلامه الهادرة، ولفترة طويلة، أن تلصق مظاهر استهلاك خيالية بالمجتمعات الخليجية، فهم ينفقون ببذخ، وهم محدثو نعمة لا يقدرون التعليم، ولا يديرون ثرواتهم بشكل صحيح، ولا ينشئون بنى تحتية، ولا يعتمدون أنساقًا سياسية حديثة. وهي صورة معتمة تمثل أطيافًا من الأوصاف التي ترادف الهدر المالي المنظم.

حرب غربية إعلامية مضادة

          وقد جن العالم الغربي، حين استخدم النفط سلاحًا للمرة الأولى لمصلحة حرب عربية، فكان شتاء 1973 / 1974 ميلادًا لحرب غربية إعلامية مضادة كرست هذه الصورة السلبية للخليج وأهله، مالكي النفط؛ الذين فرضوا الصقيع على أبناء الشمال، ومن المؤسف أن الصورة النمطية الساخرة التي أشاعها الغرب ـ وخاصة في الصحافة والسينما وأدبيات كثيرة ـ أصبحت متداولة حتى في الدول العربية!

          والمتأمل للواقع، في مقابل تلك الصورة النمطية، يرى أن الحكومات في دول الخليج العربية، والتي قد لا يتجاوز عمر بعضها ثلاثين أو أربعين عامًا، قد حققت طفرات تنموية واجتماعية استثنائية إذا قيست بمنظور عمر المجتمعات البشرية ونهضتها، سواء كان ذلك في حقل الاقتصاد، أو بمجال التعليم، أو في ميدان الثقافة.

          ما أكثر شواهد اليوم، وهي تعلن عن نفسها في البنى التعليمية من مدارس وجامعات، تتميز اليوم كمًا وكيفًا، مثلما تتضح تلك الشواهد في وجود المؤسسات الاقتصادية والمالية، وتبرز على نحو لا تخطئه العين في المراكز والمؤسسات الثقافية التي تلعب دورًا مهمًا في تطور المجتمعات الخليجية، وغير ذلك من شواهد.

          يمكننا حين نرصد - مثالاً - تجربة المجتمع الكويتي الذي اهتم بالتعليم - مثلا - في وقت مبكر، وقبل الوفرة النفطية بزمن كافٍ، فتحملت طبقة التجار نفقات إنشاء المدارس والمكتبات العامة في البلاد، بل وأنشأوا مدارس خارجها، كما في المدرسة الكويتية بالهند، كما أن بعض هؤلاء التجار قد أرسلوا أبناءهم للدراسة على نفقتهم في عدد من العواصم العربية مثل القاهرة وبغداد ودمشق وبيروت أو بعض جامعات الهند.

          وقد شرعت الدولة، فور تدفق الفوائض النفطية بإنشاء المدارس الحديثة والمستشفيات والمراكز الطبية، وتوسعت في إرسال البعثات الطلابية التعليمية إلى العديد من عواصم العالم في أوربا والولايات المتحدة، إضافة إلى الجامعات العربية العريقة، حتى بعد أن أنشأت جامعتها الأولى في منتصف الستينيات.

رعاية مبكرة للثقافة والفنون

          كما اهتمت الكويت، في وقت مبكر، برعاية الفنون والآداب، وهو ما أسهم في نشأة حركة مسرحية وموسيقية مرموقة أسسها رموز الحركة المسرحية العربية الذين درَّسوا في معهدها العالي للفنون المسرحية. وقد أدى ظهور المسرح مبكرا في الكويت إلى امتداد تأثيره في المنطقة فانتشرت بها العديد من الفرق المسرحية. وأنشأت الكويت معهدًا اكاديميًا مميزا للفنون المسرحية ثم معهدًا للفنون الموسيقية، واليوم أقرت إنشاء أكاديمية شاملة للفنون. وما نراه اليوم من نشاط وحيوية، وانتشار واسع، في مجال الإنتاج الدرامي الخليجي وقبوله لدى المشاهدين في كل الأقطار العربية ليس إلا صدى لنضج الحركة المسرحية في منطقة الخليج تأليفًا وإخراجًا وتمثيلاً، جعلت منطقة الخليج العربية مساهمًا مرموقًا في الإنتاج الدرامي.

          وساهمت تلك الرعاية المبكرة للثقافة  والفنون في انتشار المطابع  ودور النشر وإنشاء معرض دولي للكتاب في السبعينيات من القرن الماضي، إضافة لصدور صحافة سياسية وأدبية وفنية مميزة، وإنشاء مؤسسات رسمية ترعى الآداب والفنون، ووزارات للثقافة، ومؤسسات أهلية تقوم بدور مساند لها.

          ومثلما حدث في الكويت، أدى ظهور النفط إلى تسريع معدلات توجهات تلك المجتمعات للحاق بركب التمدن والحضارة الحديثة والأخذ بأسباب التنمية البشرية. وما انطبق وينطبق على الكويت نجده قد أصبح قاعدة في بقية دول الخليج والجزيرة العربية.

          ولكي نتخلص من قصر رؤية الخليج على كونه نفطًا، وشعبًا مبذرًا، وثروة مهدورة، يفترض علينا أن ننظر بإنصاف إلى ما يجري في هذه المجتمعات اليوم. ولايقتصر ذلك على أن نسلط الضوء على الأداء الاقتصادي المتنامي وحركة البورصات النشيطة والحركة التجارية، بل علينا أن نتعمق وأن نغوص لنتأمل ما يجري فيها من بنى تحتية للعلوم والثقافة والتعليم.

          هناك انتشار سريع هائل في إنشاء المدارس والمعاهد العلمية والجامعات المتخصصة يشكل ظاهرة لافتة في مجتمعات الخليج، ففي المملكة العربية السعودية بدأ التعليم العالي بإنشاء جامعة الملك سعود أواخر خمسينيات القرن الماضي، ثم توالت الجامعات في المملكة، حتى بلغ عدد الجامعات الحكومية، وفقًا لإحصاءات رسمية، نحو 24 جامعة إضافة إلى الجامعات الأهلية، ووصولا لجامعة الملك عبدالله للعلوم والتقنية المخصصة للدراسات العليا العلمية والأبحاث.

          وانتشرت مجموعة من فروع الجامعات الأمريكية والأوربية المرموقة في كل من الكويت ودولة الإمارات، والبحرين، وفي قطر التي تتمتع بتجربة رائدة في إنشاء مجمع لمجموعة من أهم جامعات العالم الأوربية والأمريكية، تضم جامعات كارنيجي ميلون، وجورج تاون، وتكساس إيه أند إم، وجامعة فرجينيا كومنولث، وكلية طب وايل كورنيل. ومثلها بعض الجامعات التي تبنت دولة الإمارات إنشاءها وبينها فرع جامعة نيويورك في أبو ظبي. أو جامعة ميدلسكس البريطانية وجامعة سوذرن كوينز لاند الأسترالية وغيرهما في قرية المعرفة بمدينة دبي.

الاهتمام بثقافة الكلمة المطبوعة

          وتتواصل المشروعات الثقافية، وخصوصا في دعم الترجمة، وهو ما نجد له مظاهر عديدة في دولة الإمارات أيضًا؛ التي أقامت مشروعات مهمة لدعم الترجمة عن اللغات الأخرى وبينها مشروع «كلمة»، وغيره، إضافة إلى مشروعات دعم المترجمين العرب مثل مشروع «ترجمان». والتوسع في إنشاء الجوائز الكبيرة في مجتمعات الخليج العربية، لكل فنون المعرفة والثقافة والعلم، في الرواية والشعر والإبداع في المسرح والسينما والصحافة، وفتح كل هذه الجوائز لكل العرب وبعض الأجانب، كجوائز مؤسسة الكويت للتقدم العلمي، وجائزة الملك فيصل، وجوائز الشيخ زايد، وجوائز العويس، والبابطين، وغيرها الكثير. ومن ظواهر الاهتمام بالتنمية الثقافية ذلك الانتشار لمعارض الكتب في السعودية والكويت والبحرين وقطر ودبي وأبو ظبي والشارقة ومسقط. وقد أصبحت هذه المعارض تستقطب أبرز دور النشر العربية والأجنبية، وتؤكد على الدور الذي تلعبه الثقافة في تلك المجتمعات. وهو ما انعكس على العدد الهائل من الإنتاج الأدبي لكتاب المنطقة، إضافة إلى إنتاجهم في مجال السياسة والاجتماع والبحث والإعلام. وهو ما أتى ليتكامل مع الحركة المسرحية التي انتعشت عبر المهرجانات والفرق التي عبرت عن تنوع في الرؤى والتقنيات المسرحية.

الرياضة والفنون.. للتنمية البشرية

          ومن جهة أخرى، فإننا لا يمكن أن ننظر إلى سعي دولة قطر لاستضافتها للألعاب الآسيوية قبل عدة سنوات، ثم نجاحها في الحصول على تنظيم كأس العالم للعام 2022، إلا باعتباره جهدًَا تنمويًا يصب في تطوير المجتمع القطري، وبما يستتبعه ذلك من تأثير في المجتمعات الخليجية والعربية قاطبة، فقد أصبحت الرياضة اليوم جزءًا أساسيًا في دعم حركة التنمية البشرية في أرجاء العالم، ولها ارتباط وثيق بالوعي بقدراتها على رعاية الشباب وتنمية طاقاتهم البدنية والذهنية على المستوى العالمي.

          وليس خافيًا الدور الكبير الذي تلعبه النهضة الرياضية بشكل عام في انعكاسها على إضفاء الحيوية على المؤسسات المهتمة بالشباب، وعلى الدفع تجاه الأعمال التطوعية في منظمات خدمة المجتمع والبيئات المحلية. ولهذا جاء سبق قطر للحصول على حق تنظيم بطولة كأس العالم، بملف قوي وطموح، ضمن إطار الاتجاه التنموي القطري البارز، منذ سنوات.

          وقد تجلى هذا الاتجاه من خلال إنشاء دولة قطر لمؤسسة قطر للعلوم والثقافة وتنمية المجتمع، التي ترعى المؤسسات التعليمية والجامعية الخاصة، وتقوم بإنشاء مكتبات وطنية لخدمة النهضة التعليمية والثقافية في المنطقة، بالإضافة إلى إقامة المؤسسة لدار نشر مشتركة مع دار نشر بلومز بري البريطانية لتوسيع دائرة توزيع ونشر الثقافة العربية في العالم، وتنشيط حركة الترجمة. فضلاً عما سوف يستلزمه هذا السبق من تطوير البنى التحتية لقطر بشكل غير مسبوق عبر زيادة عدد المنشآت الخدمية والعقارية، وتوسيع شبكة الطرق والجسور في قطر، وتوسيع حركة الانتقال مع دول الجوار، إضافة إلى مشروع المترو الطموح الذي سيربط كل أرجاء الدوحة بعضها بعضًا.

          وفي الموسيقى سنجد أن سلطنة عمان قد سعت مبكرًا لإنشاء فرقة الأوركسترا السيمفونية السلطانية التي عبرت عن اهتمام السلطنة بالموسيقى الغربية الكلاسيكة، وبالفنون الموسيقية بشكل عام، حيث سبقت لإنشاء مركز عُمان للموسيقى التقليدية قبل ذلك. وهو ما قامت به قطر في العام 2008 بتأسيس أوركسترا قطر الفِلْهارموني،  وهي جميعًا شواهد من بين ظواهر أخرى على الاهتمام بالفنون الموسيقية، إذ أصبحت الساحة الغنائية العربية تضم العديد من الأسماء البارزة لموسيقيين وملحنين ومطربين خليجيين مميزين.

          أما في مجال الفن التشكيلي، فقد عرفت منطقة الخليج اهتمامًا واسعًا بالفن التشكيلي وبإنشاء متاحف الفنون التقليدية والمعاصرة، واليوم على سبيل المثال نجد أن قطر قد افتتحت المتحف الإسلامي الكبير، الذي يعد من أبرز معالم الدوحة كنموذج رائع للعمارة، وقبل شهرين شهدت العاصمة القطرية افتتاح أهم متحف للفنون التشكيلية العربية الذي يُعَّد المتحف الوحيد من نوعه الذي يضم أعمالًا لجميع الفنانين العرب الراحلين والمعاصرين، من كل الدول العربية، إذ المعروف أنه لا يوجد في المتاحف العربية البارزة سوى أعمال أبناء البلد فقط، مما يدل على أهمية الوعي بالثقافة البصرية.

          وفي وقت متزامن كانت الإمارات قد سبقت لإنشاء أول فرع لمتحف «اللوفر» العالمي خارج العاصمة الفرنسية، وهناك حركة نشيطة لقاعات الفنون والمعارض الأهلية في الكويت وبقية المنطقة، تؤكد على ارتفاع الوعي بالثقافة البصرية والفنون التشكيلية. ولا تقتصر هذه المظاهر الناهضة للبناء التحتي الطموح على مجال الثقافة فقط، إذ امتدت إلى مشروعات تعمير الصحراء وتخضيرها في كل من المملكة العربية السعودية ودولة الإمارات وزراعة الكثير من المحصولات التي توفر الأمن الغذائي، عبر مشروعات بالغة الطموح في ضوء ما يواجه المناطق الصحراوية من مصاعب في توفير المياه للزراعة.

          ويمكن القول، إن هذه الطموحات الناهضة والنشيطة وما سبقها من جهد تنموي يعود لستينيات وسبعينيات القرن الماضي قد اسفرت بالفعل عن العديد من الظواهر تجلت وتتجلى اليوم على سبيل المثال في وضع المرأة في منطقة الخليج التي تقلدت أرفع المناصب في المؤسسات الأكاديمية، وفي مجالس الأمة والشورى، كما هو شأنها هنا في الكويت أو في سلطنة عمان، وفي تقلد المناصب الوزارية في الكويت والبحرين والإمارات وسلطنة عمان وقطر.

          ونرى أن كل هذه التطورات السريعة التي لا يتجاوز عمرها 40 عامًا إذا أخذنا في الاعتبار أن زيادة سعر النفط في السبعينيات هي بداية تدفق الثروة النفطية على المنطقة، لا يمكن فصلها عن النضج العام للعمل السياسي في المنطقة، وتوافر الخبرات التي استطاعت قيادة دول منطقة الخليج نحو التنمية والتقدم كل حسب ظروفها، فهناك تجربة الكويت الديمقراطية التي بدأت باكرا بتأسيس دستور البلاد وإقامة برلمان وهو ما انعكس إيجابًا على تطور الوعي السياسي في المنطقة، وفي تجربة سلطنة عمان التنموية التي تتطور بشكل محسوب، وفق خطط خمسية مستمرة بشكل متنام، نتائجها اليوم أكثر من أن تحصى على مستوى تطور المجتمع العماني في المجالات كافة.

تجربة في الوحدة العربية

          ولعل تجربة إنشاء مجلس التعاون الخليجي كانت من بين مظاهر الوعي والنضج السياسي والاجتماعي المبكر في المنطقة، والذي كان له دور كبير في متابعة التنمية في منطقة الخليج بشكل عام. وهو ما نجد له الكثير من المردود في حركات التنمية في المنطقة وتطورها معًا، مهما اختلفت الفروقات بين كل بلد وفقا لظروفه إذ إن الإحصاءات الاقتصادية الرسمية تشير إلى ارتفاع الإنفاق على مشاريع البنى التحتية في دول مجلس التعاون الخليجي ليتراوح بين 535 مليارًا إلى ترليوني دولار على مدى السنوات العشر المقبلة حتى عام 2020.  وهو ما يعني أن المنطقة سوف تقطع شوطًا آخر، تدخل به مرحلة جديدة من التنمية التي تعتمد على كوادرها بشكل أكبر، وتتوسع فيها طموحاتها بما يتناسب مع الخطوات التي تحققت في العقود القليلة السابقة.

          هذا كله - كما يدرك الجميع - سينعكس كذلك في مشروعات خدمية مشتركة تخدم شعوب المنطقة والمقيمين فيها مثل إنشاء خط سكك حديدية، لكي تصل بين كل دول المنطقة نقلًا للبضائع وتنشيطًا لحركة المواطنين بين دول مجلس التعاون، وتوسيع نطاق الاستثمارات المشتركة والخدمات المقدمة لأهل المنطقة جميعا.

          إن هذه الأمثلة من مشروعات منتقاة كمثال لا الحصر، لما يجري من حركة بناء تحتي؛ في التعليم والثقافة والتنمية البشرية، في منطقة الخليج، تدل على أن هناك بالفعل قاعدة تنموية تركز كثيرا على الأفراد في هذه المجتمعات في مجالات الثقافة والعلم والمعرفة الإنسانية، بهدف تحقيق نهضة كبيرة في البنى التحتية للتعليم والثقافة في المنطقة، لها بذور قديمة لدى أغلب النخب التي وجدت في كل تلك المجتمعات قبل ظهور النفط بعقود، وهي اليوم تتقدم في مسيرتها بشكل أكثر نضجًا بفضل ترشيد استخدام عائدات النفط. وهو ما سيكون له واضح الأثر، وكبير المردود في مجالات الحياة الاجتماعية والصحية والبحثية والعلمية والرياضية خلال السنوات الخمس عشرة المقبلة، على المجتمع الخليجي بشكل عام.

          لكننا نقول إنه لا يمكن لأي تقدم أن يتم في الحقيقة بعيدًا عن قدرة المجتمعات على النقد الذاتي، بين آن وآخر، وفحص ما تنجزه بعين النقد والتقييم، لبحث إمكان التطور وتجاوز العثرات والإخفاقات، واكتشاف دائم لما يتطلبه المستقبل وحركة نمو المجتمعات من أهداف جديدة، تسعى لها تلك المجتمعات وتحقق طموحاتها بالتقدم المستمر. ومن المؤكد أن المجتمعات الخليجية - مثل أي مجتمع آخر - يوجد بها كثير من السلبيات الاجتماعية أو الاستثمارية أو التعليمية، ومن المؤكد كذلك أن الطموحات التي تطرح نفسها اليوم، في أغلب مجتمعات الخليج، بمجالات النهضة والتطور على أسس علمية مدروسة، ستضع، دون شك، أو ينبغي لها أن تضع ملفات المشكلات الاجتماعية العالقة، أو غيرها من المشكلات أو السلبيات قيد البحث والدراسة بحيث يتم علاجها في إطار النهضة الشاملة التي تطمح لها المنطقة في المستقبل القريب.

          ولكن مع هذه السلبيات التي ننتقدها، يجب أن نتأمل الوجه الآخر، بعيدًا عن الصور النمطية التي أورثنا إياها صانعوها، لكي يحطوا من قدر ما تحقق، وهو كثير بمقياس عمر الأمة الإنسانية.

 

 

سليمان إبراهيم العسكري