ملف القمة الثقافية العربية

ملف القمة الثقافية العربية
        

البدايات الملتبسة للثقافة العربية الجديدة

          أرسل الشاعر والكاتب اللبناني الكبير محمد علي شمس الدين هذه الرؤية الثقافية الشاملة التي نجدها جديرة بالاهتمام وأن تكون بين الأفكار الرئيسية التي تناقشها القمة الثقافية العربية المعتزم إقامتها، كما تدعو مفكري الأمة إلى مواصلة الحوار حول تلك القمة الخاصة.

الآراء الواردة في هذا الملف تحمل رأي كتّابها, ولا تتحمل «العربي» مسئوليتها.

عرّفْ ما يلي:

          على إيقاع نشيد جنائزي مثير للكثير من الرعب، ينتهي القرن المنصرم (العشرون) ويبدأ القرن الراهن (الحادي والعشرون)، بإجراءات القوّة والسيطرة من قبل مجتمعات ما بعد الحداثة، من خلال حروب غالبًا ما ترفع شعارات ملتبسة (الحرب على الإرهاب)، في حين أن حقل الممارسة العسكرية والأمنية والسياسية حقل مكشوف وواضح المعالم والغايات، وهدفه هو المزيد من السيطرة على الشعوب المستضعفة، وعلى خيراتها، من خلال إرهاب منظّم هو إرهاب الدولة، وشعارات، كلما ابتعد بها الزمن عن أصلها في التاريخ والجغرافيا، ازدادت شحوبًا وخواءً، بل غدت أشدّ خطرًا من نقائضها في المعجم الثقافي، لأنها سراب قاتل.. فما هي اليوم، وعلى سبيل المثال، الديمقراطية والحرية والمساواة وحق تقرير المصير، وغيرها من مفردات كان وصل إليها الغرب بعد مخاض طويل ودماء موصولة، ثم ما لبثت أن فقدت معانيها مع ممارسة الدول القوية التي أنتجت شعوبها هذه المفاهيم، لسلطانها على الشعوب الضعيفة؟

          مَن يستطيع أن يعرّف لنا اليوم هذه المفردات؟

          إنها تحوّلت من مفردات حضارة التقدّم وانتصار حرية الإنسان وإحساسه بقيمته الحركيّة والإبداعية في الكون، إلى أرعن شعارات ماضٍ مضى وبقي راهنًا، هكذا كلما التبست الثقافة، التبست معها اللغة.

          ترتفع الأهازيج في مديح التطوّر التقني والعلمي الهائل، والإمساك بمصادر «ما بعد نفطية» للطاقة (المصدر النووي، المصدر الشمسي.. إلخ)، ولا أحد يستطيع أن يذمّ هذا التطوّر إلا من خلال نظر محدود وبدائي، ولكن ذلك لا ينفي ملاحظة انخفاض سقف العالم الجديد، الذي أصبح أشدّ انخفاضًا من سقف إمبراطوريات التاريخ القديم البربرية، ومن سقف إمبراطوريات القرون الوسطى الملكية والثيوقراطية، حيث يبرز الصراع على الطاقة، صراعًا كما كان في جميع العصور، في درجة الفوران، وهو لاأخلاقي «بالطبع» وبرغماتي يغلّب المصالح على القيم.

          صحيح أنّ التكنولوجيا «بريئة» أو «محايدة»، ولكن ما مِنْ تكنولوجيا بلا إنسان، والإنسان لا هو بالبريء ولا المحايد، فالإنسان البريء والمحايد والأخلاقي هو كاريكاتوري في جزء كبير من صورته، كما أن مفهوم العراقة المرفوع في مواجهة الحداثة، غدا أيضًا حاملاً لسذاجة ثقافية تستهوي عددًا من الباحثين والمفكرين، ومثلما لم يستطع أحد أن يلوي عنق التاريخ ويدخل به إلى المتحف يضعه في ناووس ويغلق عليه الباب، ثم يمضي إلى فضاء جديد ونظيف وهو ينفض التراب عن يديه، كذلك فإن تقنيات العصر ووسائله اقتحمت أكثر غرف المجتمعات إحكامًا وانغلاقاً.

          فحتّى في كوخ معزول في غابة إفريقية بعيدة، يمكن أن يلمع ضوء التلفاز مثلاً أو يتقدم مستكشف بأدواته، أو جندي أمريكي بسلاحه، فضلاً عن أنّ كل ما يحسب أنه مات وانقرض «في الماضي» يتمتع بقوّة المفاجأة «في المستقبل»، وإنْ بصور وأشكال جديدة، وأنّ كل ما يظنّ أنه نظيف ومحلي ومعزول في الثقافات، لابدّ أنه مخترق بثقافات أخرى متفاعلة معه بشتى أنواع التواصل، من التجارة إلى الهجرات إلى الغزو والحروب. إنّ ذلك يثير التحفّظ الإشكالي حول مفردات الزمن: ماض، حاضر، مستقبل، وحول مفردات أخرى كالأصالة والمعاصرة، والذات والآخر.. إلخ. صحيح أنّ ثمة جموحًا لدى قوى منتصرة وضاغطة في العالم يتمثل أحيانًا في الرغبة في مصادرة الأمل والمخيّلة لدى المجموعات الضعيفة، بحيث ترغب في أن يكون انتصارها عليها لا أقلّ من موت، لكنها تفاجأ بأنّ هذا الانتصار هو بالنسبة لهذه المجموعات قيامة أو بداية قيامة. دائمًا سيكون هذا الاحتمال واقعًا وراهنًا كما يقول المفكر الفرنسي (الشيوعي سابقًا) «بروكز» في نقده لمقولات فرنسيس فوكوياما. فالزمن دائري على كل حال وليس مسطحًا.

مفاصل التحوّلات الكبيرة

          قد يكون من اللافت للانتباه، أنّ أكبر انهيار سياسي وكياني حصلَ في نهايات القرن الفائت (وهو انهيار الاتحاد السوفييتي) لم يكن مشهدًا عسكريًا أو أمنيًا وسياسيًا فحسب، بل كان، وبالأخص، ثقافيًا تجلّى في رجعة مجموعات وشعوب كثيرة إلى ثقافاتها المحليّة، وإعادة النظر في أيديولوجيتها السابقة، كما أن تركة الاتحاد المنهار غدت معدّة للتوزيع والنهب، فقد عرضت الأدمغة السوفييتية والأسرار النووية، في حينه، بسبب الضائقة الاقتصادية، للبيع على الأرصفة مقابل الخبز والحليب. وقد استفادت من ذلك قوى جديدة ووارثة في العالم (مثل الهند والصين واليابان وإيران).. لكن يلاحظ أن العرب لم يستفيدوا من هذا التشظّي، وأنّ الأنظمة التي كانت تلوذ بالاتحاد السوفييتي لم تنتبه لذاتها، بل التجأت بكامل اندفاعها إلى المنتصر الجديد (الولايات المتحدة الأمريكية)، وذراعها الأخطبوطية في المنطقة (إسرائيل). وكما أنه غالبًا ما يأتي الانتصار راكبًا على حصان دموي، فإنه أيضًا يسقط عن هذا الحصان بفعل رياح جديدة وتوازنات جديدة مفتوحة على امتداد الرقعة التاريخية لإقامة الشعوب والدول على الكرة الأرضية. وغالبًا ما لا تكون الانهيارات كرتونية أو سينمائية، حتى ولو اتخذت أحيانًا هذا المظهر، إنها انهيارات مشفوعة بحروب أهلية واجتياحات وهيجانات كبيرة، وعند مفاصل هذه التحوّلات تنفلت الغرائز الفردية والجماعية بقوّة، حتى لتكاد الشعوب، مهما كانت متقدمة في سلّم التقدم، تعود القهقرى إلى نقطة الصفر والبدايات الفطرية والغرائزية، فالعالم قائم في مكان ما على الافتراس.

المشترك الكوني

          إنه من الصعب، ويكاد يكون من المستحيل اليوم، تحديد «الذات» مهما كان انتساب هذه الذات، عرقيًا أو دينيًا.. قوميًا أو فكريًا أو ديمغرافيًا.. إلخ، من دون أخذ المحيط القريب والبعيد من المجموعات البشرية بالاعتبار، فالعولمة المسيطرة دوّرت زوايا التجمعات البشرية وكسرت العزلات بحدّة. لم يعد العالم بيتًا واحدًا بغرف كثيرة، كبيت السيد المسيح، بل أصبح غرفة واحدة أو قرية كونية صغيرة وفيها تعيش وتتقاتل الشعوب كافة.

          لا تشذّ الشعوب العربية عن هذه القاعدة، فهي بالضرورة (وطوعًا أو كرهًا) متفاعلة مع شعوب العالم، والثقافة العربية - أو الثقافات العربية - ملزمة بالتفاعل مع ما يحمله من صراعات ومصالحات.. وما يمليه من آليات الفكر والعيش اليومي، وما ينتجه من إبداع فني وعلمي، فلا يُعقل - مثلاً - أن تعتبر اللغة العربية كافية للعربي اليوم للتنقّل بين بلد وآخر، ذلك أنه حتى في قلب الجزيرة العربية نفسها، وفي الطرف الإفريقي والمغرب العربي، أو في أي مكان آخر، أنت مضطر حين تنزل في فندق أو تتعامل بأمر تجاري أو مصرفي أو ما أشبه ذلك، أن تتكلم الإنجليزية وتفهمها. كما أنه أيضًا، لامجال لولادة قصيدة عربية معاصرة لا تلتفت إلى قصائد الشعوب، من خلال القراءة المباشرة أو الترجمة.. فضل عن العلوم والتكنولوجيا ووسائل الاتصال واللغة الإرشادية الرمزية التي لا يمكن تلافيها، من دون أعطال تنال الحياة العربية والعقل العربي.

          في جوف الصحراء يمسك المواطن العربي بالهاتف المحمول ويتصل بالعالم. ومن خلال شاشة صغيرة للإنترنت هي بمنزلة عقل آلي صغير، ومن خلال معرفة متاحة بسهولة لمن يرغب فيها، يستطيع العربي (مثل أي إنسان آخر في العالم) أن يجري أدقّ الحسابات وأصعبها، ويستحضر كمّا لا يُحدّ من المعلومات، ويكون على تواصل مع خلاصات الحضارة المحلية والبشرية، مجموعة في قرص صغير.

          هل بإمكان العربي أن يتلافى هذه التقنية مثلاً، وأن يُحصّن نفسه ضد هذه النبذة من العولمة، بأي حجة من الحجج؟.. (كادّعاء الحرص على الهوية والاستقلالية والذات.. إلخ). ومع ذلك، ومن خلال ما نسمّيه «المشترك الكوني»، وبالتحفّظ اللازم لسهولة الافتراض ودقته، نجد أنفسنا ملزمين بالسؤال:

          مَن نحن؟ وأين؟ وإلى أين؟

          .. وعلى ذلك، فمازال بالإمكان ملاحظة ثلاثة عناصر حيويّة لثقافة عربيّة راهنة ومستقبليّة، وهي:

          1- العنصر الفكري والروحي ومحوره الإسلام.

          2- عنصر الطاقة الماديّة المتمثلة في اقتران الشمس والنفط والمياه.

          3- عنصر إبداعي بشري بجانبيه «الجانب العلمي المتمثّل في تنمية الروح العلمية والتطور التقني» و«الجانب الفني، ولعلّ الشعر مازال قادرًا على أن يلعب فيه دور الضمير والمغامرة وسهم اللغة، مع سائر الفنون الحديثة والمعاصرة كالفنون الأدائية، من مسرح وسينما ورسم ونحت، والفنون الأدبية كالقصة والرواية والسيرة».. وهي الموارد البشرية للمجتمع العربي.

          .. ولكنها عناصر تظهر لنا اليوم ملتبسة، أو أدوات ثقافة ذات أزمنة متداخلة، فمسائل كثيرة ملحّة مازالت معلّقة على مشجب عالٍ للانتظار، فالحقب التاريخية غامضة، والمحلي والكوني متداخلان وإشكاليان، وعلاقة الإسلام بالتطور العصري (الحداثي ومابعد الحداثي منه بشكل خاص)، علاقة يسودها الكثير من التوتر، ما يندرج تحت عنوان «الصراع» أكثر من اندراجه تحت عنوان «الحوار»، فهناك صراعات تدور أمام باب المستقبل، وتظهر أحيانًا أنها صراعات تقع خارج إطار هذا العصر، في الثقافة كما في السياسة. إنّ هناك كلفة كبيرة تدفعها الشعوب العربية جرّاء هذه الصراعات، تصل بها أحيانًا إلى تلف نصف شعب وأرض وثروة (كما حصل في لبنان في حروبه الأهليّة المتتالية) وتدمير وطن تدميرًا لا يوصف بما فيه من إنسان وعمران، حاضرًا وتراثًا (كما في الغزو الأمريكي للعراق) وضياع بلاد بكاملها (كما حصل في الاحتلال الإسرائيلي لفلسطين).

          ونسأل: أين هي الأقاليم الثلاثة العربية من هذا المشهد؟ أين روح الإسلام وحركته؟ أين الطاقات الطبيعية من نفط وماء وكنوز؟ أين الإبداع البشري بشقيه العلمي والفني؟ بل أين هو الإنسان العربي من كل ذلك؟

          لسنا معزولين عن سوانا. وعلى الرغم من أن ثمة، في بعض الأحيان، سلوكيات شبيهة بسلوكيات التدمير الذاتي تمارسها المجتمعات العربية على ذاتها (وأعني بذلك السلطات السياسية والنخب الثقافية والمجموعات البشرية بمجملها)، فيتم تحت ستار العقيدة والحفاظ على الهوية، قتل الروح العلمية وقتل روح الاختلاف وروح النقد وروح التطوّر والحركة، كما يتم تبديد الثروات ورهنها أو بيعها أو تقديمها كهدايا عبوديّة للقوى العالمية المهيمنة، ويتم عمل تخريبي في حقول الإبداع العلمي والفني معًا، فتلتبس الرؤية وتضيع الرؤيا، ويبيت الكل في حزن وخسران.. نقول: على الرغم من هذا التخريب الذاتي الفريد، فإنه لا يسعنا الاعتقاد بأننا متروكون لخرابنا الذاتي وحده. إن دخول «الآخر» علينا هنا ليس دخولاً سليمًا وتعارُفيًا، بل هو دخول المراقب والمستغلّ والعدوّ والكيدي، الذي يزيد النار اشتعالاً، يقول فوكوياما في كتابه «نهاية التاريخ.. أو الرجل الأخير على الأرض» في باب أن الإسلام هو عدو المستقبل: «إن الخطر يبدأ بالفعل حين تبدأ الألمانيات بلبس الشادور». وفي فرنسا وألمانيا وهولندا وسائر أوربا، كما في الولايات المتحدة الأمريكية، لا يعني الإرهاب في غالب الأحيان شيئًا آخر غير الإسلام، ليس الإسلام الراهن بكل صيغه، بل إسلام الأرومة والأصل والنبع أيضًا. محمد صلى الله عليه وسلم، وإسلام محمد بالذات.

نقد الأصوليات

          بعض المفكرين العرب يعتقد أن المشكلة الراهنة يقع وزرها بالتساوي على أمريكا وأوربا، من جهة، وعلى الإسلام «من جهة ثانية». يرى المفكر اللبناني علي حرب في كتابه المسمّى «أمراض الدين وأعطال الحداثة» (عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر، طبعة 2005)، أن ثمة نقطة وسطية متفجّرة متوحشة يلتقي فيها دعاة الحداثة وما بعدها، ودعاة التطهير الديني، معًا، هي نقطة الإرهاب، ويدعو إلى ما يشبه حضارة فطرية أوليّة سابقة على الدين والتطور في وقت واحد، يسميها حضارة «الإنسان الأدنى». إنّ الترجمة السياسية لأفكار ما بعد الحداثة Postmodernism حول التشظّي والتفكيك والفوضى، تلتقي مع سياسات إرهابية إسلامية تمارَس باسم الأصولية الدينية. وهكذا يتم اجتياح وتدمير شعوب بكاملها، مثلما يتم تفجير محطات للركاب المدنيين وقطارات وخطف طائرات ووضع عبوات ناسفة في الأسواق والجوامع والمستشفيات، سواء بسواء.

اليقينيات الملتبسة

          كل معرفة صحيحة تقتضي أن تكون معرفة نقدية. ولكي يستقيم العمل النقدي على قاعدة صحيحة، ينبغي انتباه الكتّاب والمفكرين العرب إلى ضرورة معرفة الأفكار من ينابيعها، من أصولها ولغاتها في الإنجليزية بشكل أساس، ومن ثمّ بالفرنسية والألمانية والروسية واليابانية والصينية والفارسية، وينبغي إنشاء وتعزيز ورش متخصصة ومراكز ترجمة للعلوم والتقنيات والآداب والأفكار المكتوبة باللغات العالمية الأساسية. وهي «ألف باء» الثقافة العربية الجديدة، ولا يتم ذلك من دون جهد حثيث ومدروس في توليد المصطلحات في العربية. وقد تم تحقيق بعض من هذا الجهد في بعض الترجمات، مثل ترجمة الدكتور كمال أبوديب لكتاب إدوارد سعيد في الاستشراق، حيث أثبت المترجم قاموسًا اصطلاحياً وافياً بالمفردات الإنجليزية ومعادلاتها العربية، وكما فعلت الدكتورة نهاد صليحة في ترجمتها لكتاب الأمريكي نيك كاي (Nick Caye) المسمّى «Postmodernism and Performance» عن الهيئة المصرية العامة للكتاب. ذلك أنه إذا كانت مفردات الحداثة وما بعدها في منبعها الأصلي إشكالية، فإن ثمّة ضرورة ملحّة للإشارة إلى ذلك، وتضمينه في المصطلح العربي المقابل والمستحدث. فالمشروع الحداثي وما بعد الحداثي في الغرب نفسه مشروع غير ثابت ومراوغ في أصله، على ما أشار إلى ذلك جياني فاتيمو (GianniVattimo) في كتابه «نهاية الحداثة» الذي نشرته مكتبة جامعة أوكسفورد العام 1988، فهو إذا تداخل مع الثقافات العربية والإسلامية، فسيكون أكثر قلقًا وأشكالية نظرًا لعوامل كثيرة، إن فكرة تدمير استقلالية أي عمل واكتماله، في السياسة أو الفكر، وفي المسرح والتشكيل والرقص والنحت والشعر.. إلخ، تظهر فكرة صادمة لثقافات تميل إلى مقدار كبير من يقينيات وثوابت تاريخية وميتاتاريخية في وقت واحد.

          إن ما قام على التجريب والتخريب المعماري في أوربا والولايات المتحدة الأمريكية، ما كان ليمكن تقبّله في النظام المعماري لبعض دول الخليج، فاندفعت الأبراج عاليًا في سماء صحراوية واستقرت على كساد اقتصادي خطير. والمعرض الفني المقام في بينالي فينيسيا العام 1980 لمجموعة من الواجهات صممها ثلاثون مهندسًا معماريًا تحت عنوان «أحدث طريق» (Novissa MA) ونفّذه عارضون من أوربا وأمريكا، قام على خاصيّة التلاعب الساخر بأساليب الماضي وتقاليده المعمارية، واستخدامها لخلق مفارقات وتوريات بصريّة عنيفة وساخرة. هذا المشروع لا يمكن أن يكون مقبولاً في المعمار العربي والإسلامي القائم على البساطة والوظيفية والوحدة في المفهوم الحداثي.

          ثمة في الحداثة وما بعد الحداثة الأورو أمريكية ألعاب ذهنية وتعدّد يقصد إلى عدم الانسجام، فالعبث اللامنطقي هو المنطق المابعد حداثوي. وهو مطروح كبديل عن الجدل الهيفلي القديم والمتماسك من خلال مفاجآت وعشوائيات مجمّعة، من خلال ما يمكن أن يُسمّى بـ«هارمونية النشاز». وانعكس ذلك على أعمال فنية كثيرة مثل روايات ماركيز وغونترغراس وسلمان رشدي. ولو تقصّينا الجذور اللغوية لأفكار وتقنيات وفنون ما بعد الحداثة، لوجدنا ذلك في نقد جاك دريدا اللغوي لدي سوسور، والقول إن المعنى لا يتحقق أبدًا بصورة كاملة، بل هو «مستحيل». كما أن فكرة «دي سوسور» في استقلال اللغة عن التاريخ أو لاتاريخية اللغة، وأنها قائمة بذاتها وسابقة على التفكير، تعرض إشكالات كثيرة حول صلة الدال بالمدلول.

          هذه الحالة البلاأعماق، اللامتسامية، المتشظيّة، هي التي أمسك بها جان بودريار (Jean Baudrillard) من خلال لعبه بالشيفرات واعتباره نشاط ما بعد الحداثة هو الهدم، يلتقي معه جان فرنسوا ليوغار Jean Francois Lyotard في التشكيك بالمرجعية والتنبّه للقلق، للمراوغة المستمرة (على قول بيل ريدنجز Bill Readings في ليوتار). هذا، إلى آخر هذه العدة المعرفية النقدية لفكر الحداثة وما بعدها. وهي عدة ضرورية لطرح السؤال الأول على ذواتنا:

          «مَن نحن؟ أين؟ وإلى أين؟».

          يشير علي حرب في كتابه آنف الذكر (أمراض الدين وأعطال الحداثة - الإنسان الأدنى) إلى نموذجين جاهزين راهنًا للإرهاب: النموذج العلماني الحداثي ومابعد الحداثي، حيث الإنسان يحمل عن نفسه بنفسه وبلا مرجعية غيبية، المسئولية، ولعله حين يستعمل المرجعية الغيبية يستعملها بقصد تعزيز حداثته التدميرية المرعبة (ادعاء بوش الابن مثلاً بأن الله خاطبه وأمره بغزو العراق)، والنموذج الديني، حيث الله يتكلم في الإنسان (الأصولية الإسلامية والأصولية اليهودية)، وكلا الأمرين ينتج أصوليات ناحرة ومتناحرة.. فثمة نسب ما بين بوش الابن الذي يقتل الشعوب باسم الرب و«بن لادن» الذي يقتل آي آخر، وليس الغربي أو الأمريكي وحده، باسم الله.

          وبالنتيجة، فالعالم يعيش في ما يسمّيه أولريش بك «مجتمع المخاطرة» وعقله هو «عقل الكارثة».. إنه «عصر المصيبة والطاقة» كما يقول بول فيرليو (Catastrophe Desastre)، فكيف نفسّر على سبيل المثال، أعمال التطهير والاستئصال العرقية الكونية، بعد كل هذه المواثيق والبيانات المتعلقة بحقوق الإنسان؟ وبعد هذا التشدّق الأمريكي الساخر، بالديمقراطية؟

          الأزمة، إذن، تطاول العقل والدين معًا، فمستهلكات الحداثة وكوارثها شبيهة بآفات الأصولية ومصائبها. لذا لابد لنا من «إعادة مفهومنا للمفهوم» (علي حرب). وهي بداية نقدية ومعرفية صحيحة لمعرفة مَن نحن؟ أين؟ وإلى أين؟..

          إنّ موقعنا حائر في البحر المتلاطم العنيف للصراع، ونعيش على أرض قلقة كثيرة الصدوع. وإن هذه النقطة المقترحة لليقظة مطالبة بأن تكون الحرف الأول من أبجدية نقدية ومعرفية صعبة ومتطلّبة، ولعلها مطالبة بحيوية شبيهة بالحيوية اليابانية بعد الحرب الكونية الثانية. وهي معرفة تستند في جانب من جوانبها إلى الإحصاءات وما تجمعه مراكز المعلومات من تفاصيل حول الراهن العربي البشري والاقتصادي والثقافي، وهي معلومات وإحصاءات، وإن كانت موجودة بنسب متفاوتة في بعض البلدان والمراكز، إلا أنها ليست مكتملة أو مبرمجة ومخزّنة في عقول إلكترونية على غرار ما هو موجود في البلاد المتقدمة. فضلاً عن أن بعض المجتمعات العربية يفتقر حتى إلى أبسط إحصاءات السكان، وبلادًا أخرى تغرق في سُبات أمية طويلة وتحتاج إلى سنوات لإيقاظها. والسياق العام للثقافة السائدة هو أنها ثقافة استهلاك وخوف، وتقتات من علَف خطير: التسليم بدلاً من القلق. السوق الثقافية قابلة لاستهلاك أي شيء، من الأفكار إلى أدوات الزينة، ومن الفنون إلى منتجات الصناعة والتكنولوجيا. والخطر ليس في الاستهلاك بذاته، بل بكونه غير مقرون بالإبداع والتوليد، ما يجعلنا نستعيد، ولو بصورة تقريبية، ويلات جبران الشهيرة «ويل لأمة لا تأكل مما تزرع ولا تلبس مما تصنع..».

          والأكثر خطورة في ذلك تغليف ما تولّده هذه الثقافة من حالات مرَضية، بالتوكّل أو التسليم، لا بالمعنى العميق الديني والصوفي للكلمة، بل بالمعنى التبريري والاستهلاكي.

          لقد لفَتَ انتباهي، على سبيل المثال، وفي خضم ما يقال عن النسبة المتدنية للقراءة في العالم العربي (تُراجَع تقارير اليونيسكو الدورية بذلك)، خبر عن «الكتاب العربي الأول مبيعًا في العالم»، وهو الكتاب الذي بيع منه أكثر من مليوني نسخة. اسم الكتاب «لا تحزنْ» ومؤلفه الداعية الإسلامي السعودي الدكتور عائض القرني. وقد سعيت للاطلاع عليه، فوقع بين يديّ منه نسخة تعود للعام 2007م، وهي في ذاك العام، من الطبعة الحادية والعشرين للكتاب، صادرة عن مكتبة العبيكان، ولعله اليوم، ونحن في بدايات العام 2011م تجاوز الطبعة الثلاثين بمراحل، كما تجاوز عدد النسخ المليونين المبيعة، بمليون على الأقل.

          ولقائل أن يقول: أين هي الأميّة العربية تبعاً للنسخ المبيعة من هذا الكتاب؟ والجواب يقتضي أن يكون دقيقًا ومستفادًا من طبيعة الكتاب نفسه، والملاءمة بينه وبين القارئ العام العربي. إنه كتاب مواساة دينية إسلامية للمحزون، من أية جهة من جهات العيش أتته المصيبة، ولعلّ ثمة ما يشبهه في الثقافة الاستهلاكية الأمريكية بالذات، مثل كتاب «Secret» (السر).. ترجمته مكتبة جرير (مكّة) وهو بدوره من أكثر الكتب مبيعًا، تليه «ألف باء الطبخ»، ثم كتب الجنس والشعوذة، حتى لكأن العربي آكل ناكح كسول مستسلم للغيب الخرافي.

          وكون هذا الكتاب وما يشبهه ويجلس بجانبه، هو السائد والمطلوب والأكثر مبيعًا، في السوق العربية للكتاب، فإن ذلك يمثل مؤشرًا خطيرًا، فبدلاً من القلق والرفض وطلب المعرفة المضني، هناك استسلام لرضى مخدّر، يقول الفيتوري: «أشدّ أنواع السقوط مرضًا/هو السقوط في الرضى».. بالمقابل، ومن خلال كوى مفتوحة على الإبداع والتوليد العلمي، قد نقع على نماذج عربية مهمة في حقول كثيرة، ولكنها نماذج قليلة من جهة، وقد نمت وأزهرت في حاضنة غير محلية، من جهة أخرى.. (مثل الدكتور أحمد زويل في مصر، وقد احتضنته الجامعات ومراكز الأبحاث الأمريكية، والدكتور رمّال رمّال من لبنان، وقد نبغ في مختبرات غرينوبل الفرنسية).

          والسائد في كثير من دول النفط والغنى الفاحش، بالرغم من الاهتزاز الاقتصادي الأخير بفعل الأزمات العالمية، هو التباطؤ في البحث عن تأسيس قاعدة محلية للتطوير العلمي والتكنولوجي، وفي البحث عن مصادر جدية للطاقة، حيث إنّ النفط آيل إلى نقصان، والصراع العالمي اليوم هو صراع على امتلاك الطاقة البديلة (النووية).. وربما استلقت الأزمنة العربية نائمة في ثيابها المزركشة هناك، في حين أنه في دول الفقر والأزمنة البطيئة، يلاحَظ استرخاء ثقافي وإبداعي يذكّر بأزمنة الجراد. وتظهر لنا مفارقة عجيبة لخصها الفيتوري بقوله: «زمني ياأخت هواي عَجَبْ/موسم جوعٍ وجبال ذَهَبْ». إذا كان الطابع العام للثقافة العربية الراهنة هو الاستهلاك والاندراج والتسليم، أكثر مما هو الممانعة والتوليد، فالطاقات البشرية والطبيعية بكاملها تدور في ما يشبه غيبوبة المصير، حتى ليظهر لنا عبدالرحمن بن خلدون أحيانًا، المتوفى من حوالي خمسمائة عام، أكثر حيوية في أفكاره من كثير من مفكري اليوم، بل لعل أبانواس المتوفى من حوالي ألف عام، أكثر حداثة من بعض شعراء الحداثة العربية المزعومين.

          ولا يمرّ ذلك من دون إسقاطات تذكر في المفهوم Concept واللغة. فثمة إسقاط لإنشاء تراثي إسلامي على مجريات معاصرة (أم المعارك نموذجًا) وثمة في المقابل إسقاط لإنشاء غربي أمريكي معاصر على مجريات قديمة، ما يوقع في عمى المصطلح.

          إنّ الثقافة معنى شامل ينتظم مجتمعاً بكامله، وتتدخل في بناء القصيدة تدخّلها في صورة الحاكم، وتعنى بمناهج التربية والتعليم عنايتها بالمعتقدين السياسي والشعبي. ولنا أن نسأل عن بعض صور هذه الثقافة اليوم في القصيدة سؤالنا عنها في الزمن، فما معنى الزمان الداخلي مثلاً، للقصيدة العربية، وأي زمان هو؟ أهو زمان الآلة أم زمان الدين؟ وما هو لون دمها: أزراعي هو أم صناعي أم حائر؟ أين منها الدقة الهندسية؟ أين روح السّرْد والنثر؟ وأين روح الفيض والإنشاد؟

          وفي الإجابة عن هذه الأسئلة وسواها، يمكن رسم صورة لملامح العصر العربي الراهن والمقبل. ولنا أيضًا أن نسأل، لنحصل على هذه الصورة، أسئلة في حقول أخرى، نسأل حين نرى صغارنا في المدارس وفتياننا وفتياتنا في الجامعات، وهم يجرّون أوقاتهم وراء كتب مدرسية، وليدة أنظمة تعليمية لا تأخذ في الاعتبار حاجة المجتمع للاختصاص والتقنية، فما السبب في أن بعض الجامعات تخرّج مهندسًا إلكترونيًا واحدًا في مقابل مائة دارس للتاريخ، ومجازًا واحدًا في الفيزياء مقابل ألف دارس للأدب، وباحثًا واحدًا في الكيمياء في مواجهة عشرات الدارسين للعلوم الاجتماعية؟

          ما سبب هذا اللاتوازن الثقافي؟ ما سبب الخلل في الميزان العربي؟

          كل ذلك وسواه، يطرح علينا أيضًا أسئلة حول الأهوال، المنتدبين لخوضها في تسلقنا للمستقبل، أو لما ينتظرنا خلال تحرّكنا في حقل الشوك الذي ننصب فيه خيامنا اليوم.

          - على أية أحصنة للنفط والشمس والماء سنغامر؟

          - أية أجنحة للإسلام ستكون لنا؟

          - وأية أحلام للقصائد المغدورة؟.

 

 

محمد علي شمس الدين