إنجازات الكويت الاقتصادية في نصف قرن

إنجازات الكويت الاقتصادية في نصف قرن
        

          تحتفل الكويت في الرابع والعشرين من فبراير الجاري بمرور 50 عامًا على استقلالها عن بريطانيا، ففي 19 يونيو من عام 1961 وقّع سمو الأمير الراحل الشيخ عبدالله السالم الصباح الحاكم الحادي عشر للكويت وثيقة الاستقلال مع السير جورج ميدلتن المندوب السامي البريطاني في الخليج العربي نيابة عن حكومته التي ألغت الاتفاقية التي وقعها سمو الشيخ مبارك الصباح الحاكم السابع للكويت مع بريطانيا في 23 يناير عام 1899 لحمايتها من الأطماع الخارجية.

          كان عيد جلوس سمو الشيخ عبدالله السالم في الخامس والعشرين من شهر فبراير، فاتفق على أن يتم جمع العيدين في يوم واحد، ومنذ ذلك الحين ودولة الكويت تحتفل بعيدها الوطني في الخامس والعشرين من فبراير من كل عام.

          وقد عمل الشيخ عبدالله السالم - رحمه الله - الذي امتدت فترة حكمه من عام 1950 إلى عام 1965 على إلغاء معاهدة الحماية وإعلان الاستقلال، وجاهد فى سبيل تحقيق هذا الهدف حتى تحقق على يديه، وأعلن سموه عزمه على استكمال قيام المؤسسات الدستورية والحكومية فى أقرب فرصة وبالفعل لم يمض شهران على توقيع معاهدة الاستقلال حتى جاءت الخطوة الأولى في 26 أغسطس عام 1961 بصدور مرسوم أميري يدعو إلى إجراء انتخابات عامة لمجلس تأسيسي يتولى عند تأليفه إعداد دستور للبلاد. وبعد إجراء انتخابات أعضاء المجلس التأسيسي عقدت أولى جلساته في 20 يناير 1962 وخلال تسعة أشهر أنجز المجلس مشروع دستور دولة الكويت الذي يتكون من 183 مادة وقدمه لسمو الشيخ عبدالله السالم الذي صادق عليه وأصدره في 11 نوفمبر 1962. وعلى صعيد الحياة الديمقراطية افتتح سموه في 29 يناير سنة 1963 أول مجلس للأمة في تاريخ الكويت.

          أما على الصعيدين العربي والدولي، فقد انضمت الكويت إلى الجامعة العربية في 20 يوليو من عام 1961، وفي 15 مايو 1963 أصبحت عضوًا في هيئة الأمم المتحدة بإجماع الأصوات لتغدو العضو الحادي عشر بعد المائة في أسرة المجتمع.

          وبذلك دخلت الكويت مرحلة جديدة من تاريخها لتطل من خلاله على أفق العالم المستقل ولتساهم في صنع السلام وحضارة الإنسان.

          ومنذ استقلالها، وعلى مدى 50 عامًا مضى، والكويت تسير بخطى حثيثة نحو النهضة والتنمية الشاملة لبناء الإنسان الكويتي وتحقيق الرفاهية والعيش الكريم له تحت القيادة الرشيدة لآل الصباح الكرام.. حكام الكويت. فأنجزت الكثير في هذا المجال بتعاون أبنائها خلف قيادة سمو أمير البلاد الشيخ صباح الاحمد الجابر الصباح وسمو ولي عهده الشيخ نواف الأحمد الجابر الصباح.

          يرى الكويتيون أن الغاء الحماية البريطانية وتحوّل الكويت إلى دولة مستقلة عام 1961 كان حدثًا عظيمًا. ولكن الأهم هو ما تبع هذا الاستقلال من عملية تحول الكويت من إمارة إلى دولة دستورية، وذلك بالدعوة للمجلس التأسيسي، ثم صدور الدستور، فقيام مجلس الأمة. وما بين الماضي والمستقبل كيف هي آفاق التنمية الاقتصادية في الكويت؟ توجهنا بسؤال إلي الخبير الاقتصادي الكويتي جاسم خالد السعدون الذي يقول في هذا الشأن: إن التحول إلى دولة دستورية معناها المشاركة في كل شيء، وأن هناك سلطة رقابية وتشريعية وسلطة تنفيذية. وللسلطة الرقابية الحق في ان تطلع على مالية الدولة، وهذا ما حفظ للكويت أموالها.

          وخير مثال على ذلك أنه بعد الحرب العراقية - الإيرانية عانت جميع الدول ذات الصلة بتلك الحرب من تلاشي فوائضها المالية وصناديقها السيادية، باستثناء الكويت التي تمتلك سلطة تشريعية وديوان محاسبة كان يراقب كل ما يصرف من ميزانية الدولة.

          ويضيف السعدون أن ربع الدخل في دول أخرى يذهب إلى الأسرة الحاكمة. أما في الكويت فللأسرة الحاكمة مخصصات تدرج ضمن الميزانية العامة للدولة، وبالتالي فمن هذه الزاوية على الأقل استطاع هذا التحول الدستوري الحفاظ على نظافة نسبية لمالية الدولة وعلى بقائها حتى في أحلك الظروف عندما حدث ما حدث في الثمانينيات.

دور اقتصادي تاريخي

          وفي عملية رصد لحركة الاقتصاد العالمي خلال حقبات تاريخية وانعكاساتها على المنطقة عامة والكويت خاصة، يرى جاسم السعدون الذي يرأس مكتب الشال للاستشارات الاقتصادية، أن الوضع الاقتصادي خلال القرن التاسع عشر كان أفضل منه خلال النصف الأول من القرن العشرين.

          ففي النصف الأول من القرن التاسع عشر، كانت التجارة الدولية تنمو بشكل سريع جدًا وتقود النمو في الاقتصاد العالمي، وكانت حركة النقل تتركز من الشرق الثري إلى الغرب صاحب الثورة الصناعية الذي استطاع أن يوظف هذه الثورة الصناعية في خلق اقتصاد أكثر تعقيدًا، خاصة بعد استخدام الطاقة البخارية في القرن التاسع عشر.

          وكان طريق نقل التجارة حتى قناة السويس يمر عبر منطقة الخليج العربي أو رأس الرجاء الصالح، حيث كانت السفن حينها صغيرة وبطيئة، وعامل الوقت كان مهمًا جدًا. وبسبب انتعاش الاقتصاد العالمي وانتعاش خطوط النقل انتعشت اقتصاديات منطقة الخليج إلى جانب عامل تجارة اللؤلؤ وتقديم دول الخليج لخدمات النقل التي كانت تتميز فيها المنطقة ككل خاصة الكويت، نتيجة موقعها في أعلى الخليج وتمتعها بميزة المياه العميقة.

          وفي أواخر القرن التاسع عشر، بدأ ذلك الانتعاش الاقتصادي في المنطقة في التراجع، متأثرًا بالاضطرابات التي شهدتها المنطقة ومنها ثورة التنباك في إيران وبدايات التحضير للحرب العالمية الأولى، ثم اندلاع الحرب العالمية الأولى (1914 - 1918), أعقبتها حقبة انتعاش صغيرة ما لبثت أن اصطدمت اقتصاديات الخليج باكتشاف اللؤلؤ الصناعي الياباني، الذي زاحم اللؤلؤ الطبيعي في المنطقة، وتزامن - أو سبق هذا الحدث بفترة وجيزة - الكساد الاقتصادي العالمي. ونتائج الحرب العالمية الأولى وما خلفته من فقر، فأدت هذه العوامل مجتمعة إلى ضرب اقتصاديات دول الخليج.

اكتشاف النفط

          يستطرد السعدون قائلًا إنه في عام 1946 تم اكتشاف النفط في الكويت فأنقذها من حالة الضنك التي كانت تمر بها. ووفر لها تدفقًا ماليًا كبيرًا بالعملة الصعبة، ولكن الجانب السلبي في تدفق النفط ظهر في قتله للأنشطة الاقتصادية التقليدية، فأصبحت الحكومة هي مصدر الدخل للأفراد وهي الموظف الرئيسي للعمالة الوطنية.

          في البداية لم يكن هذا التغيير موضع تدقيق وانتباه، لأن أي تغيير للتخلص من الضنك الشديد الذي كان يعاني منه الكويتيون كان مفيدًا. فالبلد صغير وأموال النفط خدمت في الاتجاه الصحيح، حيث صرفت على الصناعة، والإنسان والتعليم والبنية التحتية، وتحسين الموانئ، كما تحسّنت العلاقات الكويتية الخارجية.

الانتقال إلى دولة دستورية

          وبعد الاستقلال مباشرة جاء القرار الأهم، وهو تحول الكويت من إمارة إلى دولة دستورية، فكان هذا أفضل تتويج للحركة بالاتجاه الإيجابي، إذ تحوّل البلد إلى دولة تحكمها المؤسسات، ويتمتع باقتسام السلطة إلى حد ما، بالرغم من طغيان السلطة التنفيذية.والأهم أنه وضع أساسًا لحكم السلطات الثلاث وهو النظام الإداري السياسي المتقدم الذي اتبعته أوربا وتفوّقت فيه.

          فكانت الكويت بهذا التحول الأولى في دول المنطقة والعالم الإسلامي.

الاقتصاد بعد وفاة أبي الدستور

          ويكمل السعدون بالقول إن الأمور في الكويت بدأت تتراجع باتجاهين.

          أولهما وفاة الأب الروحي لتحول الكويت إلى دولة دستورية عام 1965، وهو الشيخ عبدالله السالم رحمه الله. فحدث انقضاض على الحكم الدستوري خلال الأعوام 1967 و1976 و1986، مما خلق نوعًا من العداء والتمترس بين فريقين، أحدهما مدافع عن الدستور، والآخر لا يريده، فتوقف بناء الدولة المتقدمة المتحضرة دستوريًا.

المرض الهولندي

          وفي ظل هذا الصراع دخلنا في ما يسمى في علم الاقتصاد بـ«المرض الهولندي»، وهو اعتماد الدولة على مورد واحد يأتي بالدخل الأجنبي ويحقق جميع احتياجات الإنسان، بحيث يقتل كل قطاعات الإنتاج الرديفة ليصبح الاقتصاد مبنيًا على قاعدة يصعب عليها التنافس. فالناس يحصلون على موارد أكبرمقابل جهد أقل. وبالتالي لا تصقل قدرات الإنسان في صناعة إنتاج سلعي وخدمي جيدين.

          وقد دخلت الكويت في هذا المرض الهولندي منذ سبعينيات القرن الماضي. وعمّق من آثارها الزيادة الأولى في أسعار النفط سنة 1973 إلى 1975. وأعادت الكرة في الأعوام ما بعد عام 2000، عندما تحوّل سوق النفط إلى غلبة جانب الطلب على العرض مع التفوق الصيني والهندي الناتج عن نمو دول آسيا. وهكذا خلقنا مرة ثانية اقتصادًا غير منافس.

          وقد تنبهت النرويج للخطأ الذي ارتكبته هولندا في الستينيات من سلبيات تمثل في اعتمادها على مورد واحد، فقامت قبل أن تنتج أول قطرة نفط بتحديد الجزء الذي يصرف من موارد النفط على الموازنة العامة للدولة، بحيث لا يتعدى 4%. وقررت استثمار فائض الدخل من النفط في الخارج، وليس داخل البلد حتى لا يحدث ضخ تضخمي يؤدي إلى ارتفاع أسعار الأراضي والمنازل والسلع وبالتالي يصبح اقتصادًا غير منافس. وبذلك قام النرويجيون أولًا بتحييد إيرادات النفط. ولذلك فالنرويج هي خامس دولة في العالم من حيث الغنى ونوعية الحياة.

          في حين أننا في الكويت لم ننتبه لذلك، وارتكبنا خطأً ضخمًا ولا بأس في ما مضى، ولكن أمامنا الآن المستقبل. وجاءت خطة التنمية التي تعترف في ديباجتها بأمراض الماضي وتحاول أن تتعامل مع أهداف إستراتجية تنموية في المستقبل.

خطة التنمية

          وسط أجواء الاقتصاد غير المنافس قررت الكويت الانطلاق إلى المستقبل عبر خطة تنمية، إلا أن متطلبات خطة التنمية هذه تواجه أمرين، أولهما علاج أمراض الماضي، وثانيهما صناعة المستقبل.

          وهذه بداية جاءت متأخرة، فلو بدأت الكويت كما بدأت النرويج لما واجهت ذلك، فماذا تقول خطة التنمية؟

          يقول السعدون إنه لكي نتقدم علينا أن نعالج أربعة اختلالات هيكلية:

الأول:

          هيمنة الحكومة (القطاع العام) على الاقتصاد. فثلثا الإنتاج يأتي من القطاع العام وهذه ظاهرة لم تعد موجودة في العالم.

          لذلك يفترض أن تعمل الخطة على تشجيع القطاع الخاص كي ينمو بأسرع من القطاع العام لتخفيض هيمنة القطاع العام على صناعة الاقتصاد.

الثاني:

          على مدى السنوات العشر الأخيرة تشكل إيرادات تصدير النفط الخام الكويتي 94% من نفقات الموازنة، وذلك بعد مرور 64 سنة على تصدير النفط الخام الكويتي. والذي يفترض أن نكون قد تجاوزنا مرحلة تصديره خامًا. ويفترض بعد هذه السنوات أن يكون اقتصادنا متنوعًا تأتي إيراداته من دخل ضريبي يمول الموازنة العامة.

الثالث:

          أما الخلل الثالث في الهيكل الاقتصادي للكويت فيتمثل في أن الحكومة توظف 77% من الكويتيين الموجودين في سوق العمل الكويتي، وتدعم كذلك العاملين منهم في القطاع الخاص. مع العلم أن عدد المواطنين العاملين في القطاع الحكومي يزيد على 270 ألف موظف، وأن القادمين من الكويتيين إلى سوق العمل خلال السنوات العشرين المقبلة حوالي 25 ألف كويتي.

          فإذا كان القطاع العام مكتظًا بالموظفين الكويتيين ويعاني بطالة عامة تبلغ نصف عددهم، فإن القدرة على توظيفهم خلال السنوات العشرين المقبلة ستكون مستحيلة، ولابد أن نعالج الخلل في هيكل العمالة، خصوصًا أن الكويت تنفق 7,2 مليار دينار كويتي (حوالي 24.48 مليار دولار) تكلفة للعمالة الكويتية، بينما موازنة الكويت في 1990-2000 كانت 4,4 مليار دينار (حوالي 14.96 مليار دولار)

الرابع:

          الخلل الفادح في الاقتصاد الكويتي يتمثل في الخلل السكاني، إذ لا يُعقل أن تستمر نسبة الكويتيين 33% من إجمالي عدد السكان. مع العلم أن هذا العدد الكبير من العمالة الوافدة إما أميون أو بالكاد يقرأون ويكتبون. وتأثير هذا الخلل لا يضر الاقتصاد فقط، وإنما هو مشكلة أمن وطني مستقبلي، فالعالم في تطور مستمر، ولا يمكن أن تحكم الأقلية السكانية مجموع السكان.

مقومات الخطة

          ويتابع السعدون قائلًا: إن خطة التنمية تقول إن أي بناء لمستقبل اقتصاد الكويت يجب أن يأخذ في الاعتبار تخفيض الاختلالات الهيكلية الأربعة بصورة تدريجية وبرقم محسوب.

          وقد اختارت الخطة هدفين إستراتيجيين للتحوّل إلى مركز مالي وتجاري، فحددت قطاعات لا تحتاج إلى عمالة كثيفة، وركزت على القطاع الذي تتمتع به الكويت بميزة نسبية كالقطاع المصرفي المعروف عنه أنه متفوق على مثيله في منطقة الشرق الأوسط، ويضم نسبة عالية من الموظفين الكويتيين هي النسبة الثانية في الحجم بعد القطاع العام.

          كذلك يمتلك القطاعان العام والخاص مليارات الدولارات الموظفة في الخارج مما يؤهلها لبناء قطاع مالي رئيسي قادر على التحرّك بخبرة طويلة ومتسعة.

          أما التحوّل لمركز تجاري أيضًا فإن موقع الكويت يخدم بامتياز هذا الهدف الإستراتيجي للخطة. فالكويت تقع بين ثلاث قوى إقليمية كبيرة هي العراق وإيران والسعودية، تضم مجتمعة حوالي 130 مليون نسمة. وإذا أخذنا سكان العراق وإيران وحدهما فإن تعدادهما يتراوح بين 90 و100 مليون نسمة. وهذا العدد من البشر، وعلى مدى 25 سنة مقبلة، سيعيشون على البنية التحتية الكويتية لتزويدهم باحتياجاتهم. مع العلم أن الكويت قديمًا كانت تخدم العراق وإيران والهند وشرق إفريقيا، وستكون عودتها استغلالًا لموقعها الجغرافي وتحويله من موقع جغرافي يضغط عليها إلى منفذ تجاري لهذه الدول الثلاث تتواصل عبره تجاريًا مع العالم الخارجي. يخدمها بذلك قطاع مالي متفوق وبنى تحتية من موانئ ومطارات وغيرها. ويفترض أن تتحوّل الكويت إستراتيجيًا إلى مركز للخدمات المالية والتجارية وبالتالي تحقق الخطة هدف البناء وهدف إطفاء الحرائق والتي منها علاج الاختلالات الهيكلية، وحينها ستوظف سياسة التعليم والاستثمار في خلق عقول متفوقة لخدمة القطاعين المالي والتجاري.

المشكلة في الإدارة

          ولكن أين المشكلة؟ يؤكد السعدون أن «العقل موجود والموارد موجودة، والمشكلة الحقيقية تكمن في الإدارة، فإن أحسنّا اختيار الإدارة، وأدركنا أن هذا هو طريقنا الوحيد، فإن المخرج سيكون سهلًا. لأن الدول التي نجحت كانت مشكلتها الرئيسية تكمن في توفير التمويل. ونحن نمتلك الرؤية والقدرة على تمويل هذه الرؤية، وبالتالي يفترض أن يكون طريقنا أسهل من الآخرين».

إيرادات كافية

          ألقى السعدون الضوء على إيرادات الكويت من النفط منذ اكتشافه، فقال إن الإيرادات في كل الأحوال كانت كافية، بدليل تحقيق فائض. ففي الأربعينيات والخمسينيات طلعت الولايات المتحدة بما يسمى بمشروع مارشال لإعادة بناء أوربا، وكانت الشركات النفطية تسعى لبيع النفط حتى بأسعار متدنية، فظلت أسعار النفط ثابتة، ثم بدأت في الانحدار من عام 1957 إلى عام 1959. بمعنى أن حجم إنتاج النفط كان أكثر وأسعاره تسجل انخفاضًا. وهنا قامت خمس دول بتشكيل منظمة الدول المصدّرة للبترول (أوبك). وكان هدف «أوبك» إيقاف هذا الانحدار في أسعار النفط. ونجحت في ذلك. وفي تلك الفترة بدأت عمليات التفاوض مع شركات النفط الأجنبية للحصول على مزيد من العوائد على نفوطها، والكويت كانت رائدة في أن تأخذ حقوقًا من النفط أكثر من السابق. ثم بدأت اتفاقيات المشاركة في بداية السبعينيات إلى أن وصلنا إلى التأميم عامي 1974- 1975. ولكن في كل الأحوال كانت إيرادات النفط كافية في بلد ناشئ وصغير. ولم تكن تمثل قيدًا إلا عام النكسة 1967 عندما ترتبت على الحرب مطالبات مالية لإعادة بناء الدول التي خسرت تلك الحرب، وحدث نزوح للسكان إلى الكويت، ولكن وضع الدولة المالي ظل يتمتع ببعض الفوائض المالية.

          في عام 1973 ارتفعت أسعار النفط، تلتها ارتفاعات إبان الثورة الإيرانية عام 1979، ثم تدخلت وكالة الطاقة الدولية فهبطت الأسعار، وهكذا تشهد أسعار النفط دورات هبوط وصعود.

          ولكن هل نستفيد من تلك الدورات؟ يقول السعدون «أبدًا.. فعند تراجع الأسعار وضعف الإيراد يتقلص الإنفاق الإنشائي ويظل الانفاق الجاري كما هو، فتتدهور أحوال البنى التحتية وصناعة فرص عمل وغيرها من الانعكاسات. وإذا زادت إيرادات النفط، زدنا النفقات الجارية وخلقنا اقتصادًا غير منافس.

          «أعتقد أننا ظللنا نرتكب الأخطاء وراء الأخطاء إلى أن وصلنا إلى حد الاعتراف بأننا نحتاج إلى تخطيط. وعندنا مشكلات هيكلية تتطلب معالجتها، ولدينا بناء في عدة مجالات يجب أن يتم. فهل سننجح في المعالجة والبناء؟ أتمنى أن ننجح، ولكنني أعتقد أن الإدارة لا يبدو أنها واعية لذلك بما يكفي».

العمل الإنمائي

          عندما يقول بدر مشاري الحميضي: «إن الصندوق الكويتي للتنمية الاقتصادية العربية هو أحد أهم إنجازات دولة الكويت»، فإن تصنيفه هذا يستند إلى علم وخبرة واطلاع، فقد شغل الحميضي منصب المدير العام للصندوق الكويتي منذ عام 1986 إلى عام 2005، ثم تقلد منصب وزير المالية من 2005 إلى 2007.

          يؤكد الحميضي في لقائه مع مجلة «العربي» أن دور الكويت في العمل الإنمائي الموجه للدول العربية وللدول الناشئة لم يبدأ فقط منذ استقلالها عام 1961 ، بل بدأ منذ خمسينيات القرن الماضي بالرغم من قلة موارد الدولة النفطية في تلك الفترة من الزمن.

          ولتسليط الضوء على الصندوق الكويتي للتنمية الاقتصادية العربية، يذكر أنه تأسس في ديسمبر 1961 كأول مؤسسة تنموية في الوطن العربي بفكرة ودعم من صاحب السمو أمير الكويت الشيخ جابر الأحمد الجابر الصباح - طيب الله ثراه - حينما كان سموه وزيرًا للمالية آنذاك.

          وبدأ الصندوق نشاطه مع نهاية عام 1961 برأسمال قدره 50 مليون دينار كويتي، وبعد عامين تمت مضاعفة المبلغ إلى 100 مليون دينار كويتي، وهو ما يمثل في ذلك الوقت مقارنة بيومنا هذا ثلث الدخل القومي للكويت مما اكسب الكويت سمعة دولية طيبة، ذلك أن النسبة التي كانت مطلوبة من الجهات الدولية للمساهمة في دعم التنمية لاتزيد عن 1 % من الدخل القومي لكل دولة، ثم قامت حكومة دولة الكويت خلال الفترة من عام 61 / 1962 إلى عام 85 / 1986 بدفع مبلغ 970 مليون دينار من رأس المال المقدر والبالغ 2000 مليون دينار كويتي، بينما جرت تغطية باقي رأسمال الصندوق من موارد الصندوق الذاتية بعد ان أصبح رأس المال مدفوعًا بالكامل في السنة المالية 97 / 1998.

مساعدات قبل الاستقلال

          ويتابع بدر الحميضي مبينًا دور الكويت في العمل الإنمائي للدول العربية وللدول الناشئة الذي بدأ منذ خمسينيات القرن الماضي. أن الكويت قبل استقلالها قامت بتوجيه جزء من الموارد النفطية لدعم الدول العربية الخليجية، كالإمارات المتصالحة (الإمارات المتحدة حاليًا) والبحرين، وغيرها من دول الجوار. ومن أجل ذلك أنشأت الكويت «الهيئة العامة للجنوب والخليج العربي»، وحددت مهمة تلك الهيئة بتقديم المساعدات لتمويل مشاريع البنية الأساسية والاجتماعية لتلك الدول مثل المدارس والمستشفيات وغيرها.

          وبعد الاستقلال مباشرة أرادت الكويت أن تتوسع في مساعداتها للدول العربية بالرغم من ضعف أسعار النفط في ذلك الوقت «سعر البرميل حينها كان دولارًا واحدًا أو دولارين» فأنشأت الصندوق الكويتي للتنمية الاقتصادية العربية عام 1961 ليكون أول مؤسسة إنمائية في الشرق الأوسط، تقوم بالمساهمة في تحقيق الجهود الإنمائية للدول العربية والدول الأخرى النامية.

رفع رأسمال الصندوق

          وينتقل الحميضي إلى عام 1973 فيقول إنه في ذلك العام حصل تصحيح لأسعار النفط فارتفع سعر البرميل من دولارين إلى 13 دولارًا، وإثر هذا الأثر تم رفع رأسمال الصندوق الكويتي إلى ألف مليون دينار كويتي. وفي أواخر السبعينيات تم رفع رأسماله إلى ألفي مليون دينار كويتي (حوالي 6600 مليون دولار) بحيث أصبح قادرًا على تغطية ومساعدة الكثير من الدول العربية الآخرى النامية. وقد وصل اليوم عدد الدول التي يقدم الصندوق لها قروضًا ومساعدات إلى 102 دولة. وهذه الدول هي الدول العربية ودول في إفريقيا وآسيا وأمريكا اللاتينية وحتى شرق أوربا. ويضيف «هذه هي الكويت، تشعر دائمًا بجيرانها وبحاجات الدول الآخرى».

دور إنساني وتنموي

          ويرى الحميضي أن الصندوق الكويتي هو مشروع إنساني تنموي، ولكن له أهدافًا سياسية. ففي معظم زيارات سمو الأمير أو سمو رئيس الوزراء إلى الخارج، أو خلال زيارة رؤساء دول للكويت، دائمًا يكون الصندوق الكويتي حاضرًا في المباحثات معهم. فقد خلق الصندوق نوعًا من العلاقة الكويتية الحميمة مع هذه الدول. وهو دور حضاري إنساني دأبت الكويت على تقديمه قديمًا وحديثًا.

القروض والمساعدات والمنح

          عن الفرق بين القروض والمساعدات والمنح التي تقدمها الكويت، يقول الحميضي إن الصندوق الكويتي يقدم قروضًا ميسرة بفائدة بحدود 2%، ولكن الحكومة الكويتية تقدم منحًا يديرها الصندوق وليست قروضًا. منها على سبيل المثال لا الحصر، تقديمها منحة إلى لبنان لإعادة إعمار جنوبه حينما تعرض للاعتداء من قبل دولة الاحتلال الإسرائيلي، وتقديمها منحة لمصر حينما تعرضت لزلزال.

  • كيف تنظر لاعتراضات بعض الكويتيين على تقديم الكويت لقروض ميسرة ومساعدات ومنح لبعض الدول، ومطالبتهم بتوجيه هذه الأموال إلى داخل الكويت؟

          - الكويت خيرة، وتقدم الخير، وهي تمتلك أموالًا، وموازنتها العامة تسجل فوائض مالية. ولا تعاني من مشكلة عدم قدرتها على تمويل مشاريعها الداخلية. ولن ترضى لنفسها أن تعيش في بحبوحة في حين يعاني غيرها من الدول اقتصاديا.

  • ولكن البعض يرى أن هذه المنح والمساعدات تحمل تكاليف مالية على الدول?

          - على صعيد القروض والمساعدات التي يقدمها الصندوق الكويتي لايوجد تكاليف مالية تذكر. فقد تحدد رأسمال الصندوق على مراحل ليصل إلى ألفي مليون دينار، سدد منه فقط ألف مليون دينار. ومن خلال التدقيق في أرقام قروض الصندوق منذ تأسيسه نجد أنه قدم قروضًا بحوالي 4400 مليون، استرد منها ألفي مليون دينار. أما أصول الصندوق (قروض واستثمارات) فتتجاوز 4500 مليون دينار كويتي أي أربعة أضعاف ما دفعته الحكومة في رأسمال الصندوق. أي أن الصندوق الكويتي يكاد يكون مشروعًا استثماريًا مربحًا.

          أما على صعيد دوره داخل الكويت، فقد قدم الصندوق 500 مليون دينار على هيئة سندات بفوائد 1% لدعم موارد بنك التسليف والادخار الكويتي. كذلك يقوم الصندوق بتدريب الشباب من كويتيين وكويتيات داخل وخارج الكويت، فيساعد بذلك على تأهيل الكوادر الوطنية. وعلى هذا فإن فوائد الصندوق سياسية، واقتصادية، وإنسانية داخل وخارج الكويت وبلا تكلفة تذكر.

          ومن وجهة نظري إن أفضل مشروع أقامته الكويت على الإطلاق هو تأسيس الصندوق الكويتي.

  • ولاتنسى أن الكويت تساهم أيضًا في الصندوق العربي ؟

          - فكرة الصندوق العربي أطلقتها الكويت أثناء أحد اجتماعات الجامعة العربية. وتم بحث تلك الفكرة والموافقة على إنشاء الصندوق، وتم اختيار الكويت لتكون مقرًا له. والكويت تساهم فيه بنسبة 27% هي أكبر نسبة من رأسماله. كذلك أطلقت الكويت فكرة المؤسسة العربية لضمان الاستثمار ومقرها الكويت أيضًا، كما تستضيف مقر منظمة الدول العربية المصدرة للبترول (أوابك).

          الكويت هي الرائدة في احتضان العمل العربي المشترك، ودائمًا توجه جل همها إلى المساعدات العربية سواء بشكل منفرد أو عبر العمل العربي المشترك. هذا إلى جانب دورها الداعم لجميع قضايا التحرير العربي. كاحتضانها انطلاق الثورة الفلسطينية وإطلاقها فكرة مجلس التعاون الخليجي التي أطلقها - المغفور له بإذن الله - سمو الأمير الراحل الشيخ جابر الأحمد الجابر الصباح.

خطة التنمية

  • كيف ترى مستقبل الكويت الاقتصادي من منظور الخطة التنموية متوسطة الأجل؟

          - الكويت تعتمد على مورد واحد هو النفط منذ اكتشافه وبدء تصديره في الأربعينيات من القرن الماضي، ومنذ الستينيات ونحن نتحدث عن ضرورة تنويع مصادر الدخل. ولكن لم يتم أي تحرك في هذا الاتجاه، ومازال النفط يمد الميزانية بأكثر من 94% من ايراداتها.

          وإذا رجعنا إلى اقتصاد الكويت في الخمسينيات نلاحظ ازدهار ذلك الاقتصاد، والسبب في ذلك يعود إلى نشاط القطاع الخاص. فمثلًا كان القطاع الخاص يملك ويدير مؤسسات ناجحه مثل الخطوط الجوية الكويتية، وناقلات النفط، وشركة السينما، وبنك الكويت الوطني.. وغيرها، ولكن حدث تهميش للقطاع الخاص الكويتي وتصعيد لدور القطاع العام فتدهورت التنمية لدينا، وقلت الإنتاجية. والحل الوحيد يكمن في إعادة النشاط للقطاع الخاص، وابتعاد الحكومة عن النشاط الاقتصادي والاكتفاء بالإشراف والتنظيم والمشاريع الخاصة بها.

          وتاريخيًا أي قبل ظهور النفط، كان القطاع الخاص هو الممول الوحيد لميزانية البلد.

  • كيف يمكن النهوض باقتصاد الكويت على إيقاع خطة التنمية التي بدأ العمل بها؟

          - خطة التنمية جيدة جدا ولكن هناك فهما خاطئا لأهدافها، فهي ليست مجموعة مشاريع تنموية، بل لها أهداف محددة تبدأ بتخفيض حجم العمالة الوافدة، ورفع نسبة العمالة الوطنية، وبعد ذلك توضع المشاريع لتحقيق تلك الأهداف.

          ولكن ما يعلن عنه حاليًا من بدء بعض المشاريع لا يعتبر نجاحًا للخطة، فمقياس مدى نجاحها سيكون بمدى تحقيقها لأهدافها بعد استكمال مدتها خمس أو أربع سنوات.

قطاعات التمويل والمساعدات

          يذكر أن الصندوق الكويتي يركز في تمويله التنموي للدول على عدة قطاعات مهمة منها قطاع النقل، والمواصلات، والزراعة، والطاقة، والمياه، والصرف الصحي، والاتصالات وغيرها من القطاعات التنموية. فمثلًا من المشاريع الزراعية التي مولها الصندوق مشروع ري جنوب لبنان، ومشروع إعادة تأهيل وتطوير صناعة الدواجن في مصر، ومشروع إصلاح منشآت الري والصرف في ألبانيا، ومشروع إصلاح سد الكويلار وتحسين شبكات الري في هندوراس، ومشروع داك داك للري في فيتنام. ومشروع توفير المياه للقرى والأرياف في جمهورية مالي، ومشروع توفير المياه لمدينة نواكشوط في جمهورية موريتانيا، ومشروع الصرف الصحي لمدينة الشروق في جمهورية مصر العربية.

          وفي كارثة الانفجار في أحد مفاعلات تشرنوبل ساهمت دولة الكويت بنحو أربعة ملايين دولار لمعالجة الوضع الخطير المترتب على الكارثة.

          أما المعونات الفنية التي يقدمها فتتركز على تمويل إعداد دراسات الجدوى الفنية والاقتصادية لعدد من المشاريع في مختلف القطاعات إلى جانب الدعم المؤسسي لبعض الجهات الحكومية.

          وقد استمر الصندوق الكويتي في أداء عمله والتزاماته حتى خلال فترة الاحتلال العراقي الغاشم للكويت، مما زاد من تقدير العالم لدولة الكويت، فعقد الصندوق 11 اتفاقية جديدة خلال فترة الاحتلال مول منها مشروعات تنموية في عدد من الدول بلغت قيمتها الإجمالية نحو 116.8 مليون دينار كويتي فعززت هذه الجهود علاقات تلك الدول بالكويت وبذلك حقق نشاط الصندوق المردود السياسي المرجو منه بالإضافة إلى المردود الاقتصادي.

دعم القطاع الخاص

          على الرغم من أن الصندوق الكويتي أنشئ بهدف تقديم المساعدات للدول النامية فإنه قام بأكثر من التفاتة نحو الداخل، وقام بالتحرك المحلي داخل الكويت على أكثر من صعيد، وكانت البداية تشجيعه ودعمه للقطاع الخاص الكويتي تجلى من خلال إعطاء هامش أفضلية للشركات الكويتية، وكذلك للشركات الأجنبية المتآلفة معها، لتنفيذ المشروعات التي يمولها إلى جانب تشجيع الشركات الكويتية والأجنبية على استخدام المواد والمنتجات الوطنية وإلزام الشركات الكويتية الاستعانة بالخدمات المالية والمصرفية الوطنية والاتفاق مع الدول المقترضة حول الاستعانة بالخدمات الاستشارية المتعلقة بالمنح والمعونات على الشركات الكويتية المتآلفة مع شركات أجنبية. وتجدر الإشارة إلى أن عدد المشاريع حتى 31 ديسمبر 2009 بلغ حوالي 205 مشروعات من إجمالي مشروعات الصندوق التي نفذت من قبل شركات كويتية وشركات متآلفة منذ تأسيس الصندوق تجاوزت قيمتها 280 مليون دينار كويتي توزعت على 314 مقاولا وموردا واستشاريا محليا.

          وعندما تفاقمت المشكلة الإسكانية في دولة الكويت قام الصندوق الكويتي بالمساهمة في حل المشكلة الإسكانية حيث أصدر سندات بقيمة 500 مليون دينار كويتي لمصلحة بنك التسليف والادخار على مدى خمس سنوات منذ 2002 وبواقع 100 مليون دينار سنويًا إضافة إلى استقطاع 25 % من صافي أرباح الصندوق الكويتي وتخصيصها لمشاريع البنية الأساسية داخل الكويت.

          ودخل الصندوق الكويتي الساحة المحلية مرة أخرى بصورة مباشرة من خلال البرنامج الذي أطلقه عام 2004 لتدريب المهندسين الكويتيين حديثي التخرج لتأهيلهم للعمل في القطاع الخاص وذلك إيمانًا من الصندوق بدوره في تنمية الموارد البشرية التي تعد أساس التنمية.
--------------------------------
* صحفية من سورية مقيمة في الكويت

 

 

فادية الزعبي*   

 




جاسم السعدون: خطة التنمية مرهونة بعلاج السلبيات ورؤية للمستقبل





مخطط مستشفى جابر





مستشفى جابر





جزء من مجسم خطة التنمية





بدر الحميضي: نمو الاقتصاد الكويتي كان مرهونا بالقطاع الخاص قبل النفط وبعده





الشيخ عبدالله السالم - رحمه الله - يشهد توقيع وثيقة الاستقلال في 19 يونيو 1961