بين الدار والمبرة: الرباط على الثغور الثقافية للإسلام

بين الدار والمبرة: الرباط على الثغور الثقافية للإسلام
        

          قد تكون مصادفة - أو  لا تكون - أن تتزامن احتفالية الكويت بالذكرى الخمسين لاستقلالها مع نضج تحركات أهلية، تطورت من المبادرات الفردية لتأخذ أبعادًا مؤسسية، مولّدة حالة فكرية في البلاد تتعاطى مع معاني التسامح والانفتاح وما يصاحبهما من رعاية للتذوق الثقافي، بوجهيه التاريخي والفني.

          والمؤسسات كيانات حية، بكل ما يحمل الوصف من أبعاد، ولكينونة المؤسسة بُعد عضوي، إنها تتنفس وتتطور وتكبر، وتضمحل وتموت (بل قد تولد مرة أخرى في دورة تناسخية). ولكن الأمر يتجاوز ذلك إلى الهم الوجودي كذلك، فللمؤسسة شخصية، هوية، توجه، ومراجعات: إنها تفكر وتقرر وتؤيد وتدين وتتخصص، وقبل هذا وذاك، هي تشير إلى طريق.

          وفي مجال العمل الثقافي، الذي يصطبغ بصبغة تتحيز للحضارة الإسلامية تحديدًا، هناك من المؤسسات ما قام «ليوجد»، ومنها ما ظهر «ليبقى»، والفرق الدقيق بين الاثنين يكمن في مدى السيطرة على عنان التجدد. لقد كانت الكويت دائمًا، بثرائها السياسي وخصوبتها الاجتماعية، مسرحًا مثاليًا لولادة العديد من تلك المؤسسات الحية ذات الاهتمام بالشأن الديني، لا في عالم الإسلام السياسي فحسب، وإنما في ميادين أخرى صبغت الحراك الفني والاقتصادي والعلمي بأفكار إسلامية واضحة.

          ضمن هذا الإطار، تمارَس في الكويت جهود مهمة للتقريب الثقافي بين المذاهب الدينية من جهة، وبين الأديان الأخرى من جهة أخرى، وهي جهود تلتفت إلى جبهة الثقافة، التي طالما أغفلها العمل الإسلامي المنظم، على الرغم من أن هذه الجبهة المليئة بالتحديات ترقى إلى أن تكون «ثغرًا» حقيقيًا من حيث كل من المنظور الحضاري والاصطلاح العسكري (للتذكير، فإن الثغور في الأدبيات الإسلامية هي مراكز دفاعية على المناطق الحدودية لدار الإسلام، ويغلب أن تكون موانئ أو مدنًا ساحلية).

مبرة الآل والأصحاب

          ولدينا، في هذا الصدد، تجربة مهمة تمثل تجديدًا هادئًا في مناخ مؤسسات العمل الإسلامي الكويتي، وهي «مبرة الآل والأصحاب» التي أسسها الدكتور عبدالمحسن الخرافي للتقريب بين المذاهب الإسلامية، والحد من الغلو والطائفية، من خلال فهم تاريخ وطبيعة العلاقات العائلية الحميمة بين آل البيت وأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وذريتهم (والتي يراد إفهامنا دائمًا أنها علاقة حرجة ومتوترة).

          هل تعلمون، مثلاً، أن إحدى حفيدات الحسن بن علي بن أبي طالب، وهي الهاشمية، قد تزوجت من الوليد بن عبدالملك بن مروان، وهو الأموي؟ وأن زيدًا بن عمر بن الخطاب كان يفخر بأنه «ابن الخليفتين»، فأبوه هو الخليفة عمر بن الخطاب رضي الله عنه وأمه هي أم كلثوم بنت الخليفة علي بن أبي طالب كرّم الله وجهه؟

          وإن كانت المبرة مثالاً طيبًا للتسامح بين المذاهب الإسلامية، فإننا في الكويت نذهب إلى أبعد من ذلك بكثير، فنفخر بتاريخ طويل من التسامح مع الأديان الأخرى، والاتصال بها اتصالاً صحيًا. بل إننا قد تجاوزنا ذلك إلى مرحلة التعاطي مع الديانات الأخرى على الصعيد الثقافي، مع ما يحمل هذا الأمر من تحديات.

دار الآثار الإسلامية

          وعلى هذه الجبهة، فنحن نفخر بـ «دار الآثار الإسلامية»، التي بدأت نواتها بمجموعة تاريخية نادرة يمتلكها اثنان من المقتنين الجادين، ويعتبران من أبرز مثقفي الأسر الحاكمة في منطقة الخليج العربي، هما الشيخ ناصر صباح الأحمد الصباح، نجل أمير الكويت الحالي، وزوجته الشيخة حصة الصباح.

          هي دار للآثار الإسلامية إذن، كما تشي التسمية، ولكنها لا تكتفي بمجرد التسجيل لهذه الآثار أو التوثيق الأرشيفي الجامد لها. إنها تتجاوز ذلك إلى تقديم منظور إنساني سوي للتراث الإسلامي، لا يرى هذا التراث إلا من حيث هو جزء من سياق متكامل مرتبط بحتمية تاريخية مع جميع الحضارات والديانات والإثنيات التي أحاطت بديار الإسلام عبر الزمن. وتحقيقًا لهذا الغرض النبيل، تتعاطى الدار، بإحساس عالٍ، مع أدوات عديدة، كالمحاضرات الأسبوعية والمعارض الفنية والرحلات الثقافية والأمسيات الموسيقية ونوادي الكتاب (مؤسسة ثقافية).

          إن هذه النظرة الصحية للذات وللآخر هي ما جعل أنشطة هذه المؤسسة الثقافية الرائدة تتميز بحضور أجنبي طاغ، قلما نراه لدى نظيراتها من المؤسسات ذات الأغراض المشابهة. ابحث ما شئت ضمن عناوين المحاضرات التي ألقيت ضمن المواسم الثقافية للدار على مدى السنوات الثلاثين الماضية، فلن تصطدم بأي كلمة تحمل معاني الإقصاء أو الفوقية أو القلق أو التجريح أو الغرور بالمعنى الحضاري، لن تجد سوى إشارات واثقة متكررة، تحتفي - برقة ووداعة - بمفاهيم الفن والجمال والتغيير والارتحال والتقارب والاختلاف والتأثير والتأثر والمثاقفة. أجزم أن هذه المحاضرات قد قدمت الإسلام من جانبيه الأهم، جانب الجمال وجانب السلام.

          من يدرس تجربة هاتين المؤسستين، دار الآثار الإسلامية ومبرة الآل والأصحاب، يرى أنهما قد قامتا بجهود أهلية ابتداءً. إنها الديناميكيات النشطة للعمل الأهلي الكويتي، المرابط الهادئ، المتحضر والعنيد على الثغور المنسية للثقافة الإسلامية.
-------------------------------
* كاتبة من الكويت

 

 مشاعل عبدالعزيز إسحاق الهاجري*