رواية الستينيات وما بعدها

 رواية الستينيات وما بعدها
        

          لقد كانت معاصرة جيل الستينيات للأجيال السابقة عليهم حافزًا مزدوجًا لتعميق وتوسيع أفق الإبداع عند الطرفين، خصوصًا في متصل الرواية - القصة القصيرة، فقد تأثر كلا الطرفين بالآخر، وبقدر ما كانت الأجيال الأحدث حريصة على إثبات حضورها الإبداعي، في مواجهة الكبار، أمثال نجيب محفوظ ويحيى حقي وفتحي غانم ويوسف إدريس وغيرهم، كان الكبار يحرصون بدورهم على التجدد الإبداعي الذي أصبح سمة للستينيات وتوابع زلازلها، وهو الأمر الذي أشعل حماسة الأجيال الشابة في حومة المنافسة الستينية، وذلك بهدف تقديم كتابة مختلفة لا أثر فيها للتقليد، بل الابتكار والإبداع الذي لايزال مستمرًا، عابرًا بالدوافع الإبداعية نفسها إلى السبعينيات والثمانينيات التي أضافت إلى البداية الستينية، ولاتزال، حيوية التجدد، والتولد الدائم للمخالفة الخلاقة، في الأفق الذي لم ينغلق، بل اكتسب حيوية مضافة من العقود المتلاحقة.

          وما يلفت الانتباه، حقًا، في صناع الرؤية الستينية التي انبنت على رؤية متمردة على البطريركية التي جسّدها النظام الناصري الذي تعرى وانكسر، لكن دون أن يموت أو ينتهي، هو أنهم كتّاب قصة في الأغلب الأعمّ، سواء من الأسماء التي ذكرتها، أو التي فاتت على ذاكرتي، فلم أهدف إلى الإحصاء الدقيق وإنما إلى التمثيل الذي تحتمله خبرة الممارسة وذاكرة المجايلة في آن بالطبع، كان هناك شعراء أمثال محمد عفيفي مطر، وأمل دنقل، وعبدالرحمن الأبنودي وسيد حجاب في العامية، فضلاً عن فاروق شوشة ومحمد إبراهيم أبو سنة، وملك عبدالعزيز التي لم تصقلها سوى الستينيات التي صنعت وفاء وجدي ومثيلاتها، وهناك كتّاب مسرح أبرزهم علي سالم والدكاترة فوزي فهمي وسمير سرحان ومحمد عناني، فضلا عن سعد الدين وهبة الذي وضعته الستينيات في الذروة، وجعلته أكثر ضجيجًا من ميخائيل رومان ومحمود دياب وأمثالهما من كتّاب الرفض الدرامي لا القبول الدعائي للحقبة الناصرية، ولكن يظل المؤشر الكمّي واضحًا ودالاً على أن التجمّع الغاضب والرافض الذي أطلقنا عليه جيل الستينيات - وهي سنوات الجمر والرماد، إذا شئنا هذا التشبيه الذي يصل الغضب بوعي نهاية مرحلة واحتراقها الذي أحالها إلى رماد - لم يعد بميلاد عنقاء فتية بعد.

          ويبدو واضحًا لي، الآن، وأنا أسترجع كتابات هذه السنوات التي كنت أقرب إلى نبضها الشاب، أن الرواية والقصة القصيرة التي بدأت تفرض حضورها بعد تمثل كارثة العام السابع والستين وبداية البحث الإبداعي عن أسبابها، ووضعها موضع المساءلة الإبداعية، أقول بدا واضحًا لي أن هذا الزخم الإبداعي الغاضب الذي فرض حضوره في تلازم القصة القصيرة والرواية، كان بمنزلة تحقيق لرؤية نجيب محفوظ، عندما ربط صعود زمن الرواية بعصر العلم والصناعة والحقائق، فإذا تأخر الشعر عنها في مجال الانتشار، فليس لأنه أرقى من حيث الزمن، ولكن لأنه تنقصه بعض العناصر التي تتوافر في الرواية التي أصبحت «شعر الدنيا الحديثة».

الرواية .. شعر العصر الحديث!

          ولم ينتبه أحد - فيما أعرف - إلى أن ما قاله نجيب محفوظ، سنة 1945، قد استبدل رؤية برؤية مضادة وأحدث نوعًا من القطيعة المعرفية بين نظرة أقرتها ديمومة التقاليد المتواصلة على التمسك بيقين أن الشعر ديوان العرب وجامع مفاخرها وقطعها برؤية مضادة صاغها المرحوم علي الراعي، بقوله: «الرواية ديوان العرب المحدثين»، لكن ما قاله نجيب محفوظ يظل أكثر دقة، أولا لأنه لم يشر إلى ما يؤدي إلى فرض تراتب قسري نقيض بين الأنواع الأدبية، ولذلك فإن عباراته تسجل انحيازًا لنوع أدبي، رأى، أكثر من غيره، إمكاناته المستقبلية، فأرهص بهذا المستقبل الذي كان مناط المقصد في عباراته، وثانيًا لأنه قرن الرواية بالشعر، ملمحًا إلى قدرة الرواية على أن تفيد منه، وتتسم ببعض صفاته، وذلك في مدى التجاوب الحتمي القائم على التكافؤ والتراسل بين الفنون، مع عدم نسيان قدرة كل واحد منها على النفاذ إلى ما لا يستطيع أن ينفذ إليه غيره، ويعبّر عن ما لا يعبر عنه سواه، فقد كان محفوظ مؤمنًا بأن الفن أيًا كان لونه، وأيًا كانت أداته تعبير عن الحياة الإنسانية، فهدفه واحد وإن اختلفت كيفية التعبير تبعًا لاختلاف الأداة، وكل فن في ميدانه السيد الذي لا يبارى، وتعني هذه الكلمات نفي أي قمع أو تراتب قسري على أنواع الفن، فكلّ ميسّر لما خُلق له، والشعر عند نجيب محفوظ عزيز قريب من نفسه، لم يكف عن الترنم أو الاستشهاد به في رواياته ولكنه فن يظل، بحكم ما هو عليه من خصائص نوعية، أقل قدرة من الرواية في التوفيق بين شغف الإنسان الحديث بالحقائق والتعمق في أسبابها، واستقصاء تفاصيلها مهما صغرت، وتجلياتها مهما تعددت، سواء في علاقاتها بأسبابها أو علاقاتها بآثارها، خصوصًا من حيث تعينها في نماذج بشرية وأحداث، هي تمثيلات رمزية للواقع، في مدى لا يحدّ من المرونة الشكلية التي تتضافر مع تحولات رؤية القاص إلى عالمه ومواجهته له، فهمًا وتفسيرًا، أو نقدًا وتمردًا ودعوة جذرية للتغيير الذي يفكك اللحمة والسداة، كى ينطلق الواقع من جديد في سفر التكوين.

          والمؤكد أن تقدير نجيب محفوظ للشعر هو الذي جعله يطلب مني في حياته، حين كنت أمينًا عامًا للمجلس الأعلى للثقافة، أن يكون للشعر ملتقى إبداعي مثل الرواية سواء بسواء، تأكيدًا لقدرة كل فن قولي على كشف جانب لا يستطيعه غيره في سبر أغوار الواقع الخارجي والداخلي، الفردي والجماعي الذي تظل حقائقه في حاجة دائمة إلى الكشف.

الرؤية الستينية

          الطريف أنني لم أنتبه إلى ما سبق أن كتب نجيب محفوظ سنة 1945على وجه التحديد، إلا بعد أن فرضت «الرؤية الستينية» حضورها الروائي الصاعد، في التجمعات التي أخذت تؤتي ثمارها على نحو دال في مدى التمرد الجذري على كل شيء وعندما ادعى بعضهم أنهم جيل بلا آباء أو أساتذة، فلم يكن المقصود من إعلان هذه العبارة الأوديبية التي تشي برغبة في قتل الأب، سوى الإعلان عن وجود عالم الابن، الأبناء الذين يريدون تأسيس كتابة مخالفة، عن زمن مختلف، بأعين وأدوات مختلفة، حتى لو تفاوتت قيمة المحصول في هذه الحالة، أو تلك، وهكذا فرضت الرؤية الستينية حضورها بقوة لم أدرك مدى جذريتها، وقدرتها على تحويل المجرى، إلا بعد أن مضت سنوات الستينيات وكرت بعدها سنوات السبعينيات، وبعدتُ عن المشهد لكي أراه، وأتأمل في تفاصيله وممثليه، فأجد هذا العدد من الروايات الذي لم يجتمع من قبل في حقبة زمنية سابقة، كميًا ونوعيًا، وحسبي الأعمال التي استوعبتها ذاكرتي، وقرأت لأصحابها قراءة إعجاب أو فتور أو حياد أو استهجان أحيانًا.

          ويتصاعد مؤشر عدد الروايات، سنويًا، بما يؤكد حسب فهارس حمدي السكوت عن الرواية العربية أن «الرؤية الستينية» هي التي جسّدت نبوءة نجيب محفوظ من أن القصة هي شعر الدنيا الحديثة، ولم يكن نجيب محفوظ يفكر، عندما ذهب إلى ذلك، في القصة القصيرة بقدر ما كان يفكر في الرواية التي أخلص لها أكثر من غيرها، ووهبها سنواته الإبداعية التي وضعت الرواية العربية في المكانة التي تستحقها عالميًا.

          ومن المؤكد أن «الرؤية الستينية» قد فرضت حضورها الطليعي على نجيب محفوظ نفسه، فهجر عالمه الروائي الإستاتيكي إلى عالم روائي مغاير ديناميكي كما وصفه يحيى حقي، ولا غرابة في ذلك فقد كان نجيب محفوظ مثل أقرانه ومجايليه متأثرًا بعواصف الستينيات وانقلاباتها، لكن في اتجاه مواز، قد يتقاطع، أحيانًا، مع اتجاه الرؤية الستينية التي تبلورت عبر أكثر من عقد.

          وأجرؤ على الاجتهاد، في هذا الإطار، فأقول إن الرؤية الستينية لم تأخذ في التغير الفعلي إلا مع النصف الثاني من تسعينيات القرن الماضي تقريبًا، وذلك بعد محاولات استهلالية متفرقة لكن المحصول الناتج في السنوات الأخيرة من القرن الماضي أظهر جيلاً مختلف المطامح والأهداف، ينطوي على رؤية عالم مغاير، عن العالم الذي واجهه الستينيون ومن تابعهم وأضاف إليها إضافات دالة وتفاصيل ذلك ليس هنا محلها، فالأهم هو أنني كلما تأملت المشهد الأدبي تأكد لي صدق حدسي في أواخر السبعينيات، الذي دعمته الثمانينيات، بما جعلني متأكدًا مما شعرت به شعور اليقين في التسعينيات، ولذلك أصدرت عددين من مجلة «فصول»، حين كنت رئيس تحريرها، بعنوان «زمن الرواية» في عام 1994 وقد زادني يقينًا إسهامات كبار النقاد في هذين العددين وكان من الطبيعي أن أستهل ملتقى القاهرة للإبداع الروائي سنة 1998 للمرة الأولى في تاريخ الثقافة المصرية، ويكون موضوع المؤتمر عن «خصوصية الرواية العربية» من حيث منزلتها في أدب العالم، وما لها من علامات مائزة انفردت بها بالقياس إلى غيرها وقد أتبعت ذلك بإصدار كتاب «زمن الرواية» (سنة 1999) الذي أثار عاصفة نقدية إيجابية بين الذين فهموا مراميه وما يعلن عنه، وانطباعات سلبية عند الذين تصوروا أنه يرفع من شأن الرواية لينزل الشعر المنزلة الأدنى وكان لابد أن أتابع الكتابة لدفع الشبه عن كون «زمن الرواية» حقيقة وليست اجتهادًا، سواء في الأدلة التي تتراكم يومًا بعد يوم، مؤكدة صعود زمن الرواية ولوازمها، موازاة ما يقع معها على متصلي السرد المتقاطعين.

معالم رواية الستينات

          يبقى السؤال الأخير عن ملامح «الرؤية الستينية» التي أراها وصلت بزمن الرواية إلى ازدهاره غير المسبوق الذي تنبأ به نجيب محفوظ سنة 1945؟ وتبدأ إجابتي برفض التبسيط البالغ الذي يجعل البعض يحدد «الجيل» بعقد واحد من السنوات، إن معنى الجيل يرتبط برؤية جذرية مغايرة للعالم، وحساسية مختلفة، لا تحسب بالسنوات المحددة كأنواع المسطرة، وإنما بما هو أشمل وأعمق، ولذلك فما نسميه جيل الستينيات، أو من يسمون أنفسهم بهذا الاسم هو تجمّع كتّاب شملهم رفض عالم نقلهم من آفاق الحلم القومي إلى كابوس سقوطه في العام السابع والستين، هذا التجمّع يصل على مستوى الرؤية أو الحساسية ما بين كتّاب ولدوا في الأربعينيات وآخرين ولدوا في الثلاثينيات إلى أن نصل إلى منتصف العشرينيات.

          ولذلك تصل هذه «الرؤية الستينية» ما بين إبراهيم عبدالمجيد (1946) وسعيد الكفراوي (1939) المولود بعد خيري شلبي بعام واحد، في إطار وحدة التنوع والتعدد التي تقوم على عناصر مشتركة يمكن حصر أهم ملامحها في ما يلي:

          أولاً: شكليًا ظاهرة التخصص التي هي استمرار لما ابتدأه رائد الزمن الروائي نجيب محفوظ، فهو جيل يراوح بين الرواية والقصة القصيرة، ميال في أغلبه إلى الرواية وإن كانت غلبة الصفة الروائية لا تضع الاستثناءات، فقد بدأ أسامة أنور عكاشة بالقصة القصيرة، وأصدر مجموعة قصصية نشرها المجلس الأعلى لرعاية الآداب والفنون سنة 1967، ولكن سرعان ما قاده سليمان فياض الذي سبقه في كتابة الدراما التلفزيونية إلى الكتابة نفسها، فواصل أسامة ما توقف عنه سليمان فياض، وأصبح قامة تأسيسية في الدراما التلفزيونية، وهو الأمر نفسه الذي حدث مع وحيد حامد الذي جاور اسمه إبراهيم أصلان وجميل عطية إبراهيم ومحمد حافظ رجب في العدد الذي أصدرته مجلة «المجلة» في أغسطس 1966 عن «طلائع القصة القصيرة» ولكنه مضى في الطريق الذي سبقه إليه أسامة أنور عكاشة وأصبح موازيا له في الدراما التلفزيونية والأفلام الروائية على السواء ولكن أسامة لم يهجر الكتابة الروائية، فكتب عددًا لا بأس به من الروايات التي بدا أنه يعبر فيها عن حنينه إلى زمن الرواية الرحم، أذكر منها «أحلام في برج بابل» (1984) و«تلك الأيام» و«منخفض الهند الموسمي» (2000) و«وهج الصيف» (2001) وأضيف إلى ذلك عددًا قليلاً من سيناريوهات الأفلام التي كتبها في موازاة جهد وحيد حامد الذي بدأ كاتبًا للقصة القصيرة، وانتقل منها إلى عالمي التلفزيون والسينما، فأصبح من أكبر أسماء كتّابها، والحق أن تكرار نماذج أسامة أنور عكاشة ووحيد حامد يذكرنا بغيرهما ممن عرفت رواياتهم الطريق إلى السينما أو التلفزيون أمثال: مجيد طوبيا (أبناء الصمت)، ويوسف القعيد (يحدث في مصر الآن)، وجمال الغيطاني (الزيني بركات)، إبراهيم عبدالمجيد (صائد اليمام)، و(لا أحد ينام في الإسكندرية)، وأحمد الشيخ (الناس في كفر عسكر)، و(حكايات المدندش). والدلالة المهمة لهذه الملاحظة الاستهلالية أن إبداع الرؤية الستينية لم يتوزع على المتصلين السرديين المتعامدين فحسب، وإنما جاوزهما إلى التأثير في الدراما التلفزيونية والفيلم الروائي، بل المسرح، وجاوز تأثير هذه الرؤية مصر إلى غيرها من الأقطار العربية بما يمكن أن يجعلنا نتحدث في المستقبل عن أبعاد «الرؤية الستينية» قوميًا وليس قُطريًا فحسب.

          ثانيًا: يمكن وصف هذه «الرؤية الستينية» بأنها، جذريًا، رؤية التحليق مع الحلم القومي في الخمسينيات الواعدة والانكسار المدوي للحلم الذي انقلب إلى كابوس سنة 1967، وكان هذا الانكسار متوقعًا مرهصًا به عند بعض أبناء الستينيات الذين تولوا تعرية مثالبها وانطواء أوائلها على جرثومة نهايتها.

          ثالثًا: أن صانعي الرؤية الستينية اعتصموا بغضبهم في مواجهة الهزيمة، وتعددت محاولاتهم لفهم أسبابها وتتبع جذورها التي وصلت بين الحاضر والماضي في إشارتها إلى المستقبل، وكان ذلك في فضاء مديني، أعاد الوعي الجديد فيه التمرد على واقعه، والامتداد بهذا التمرد من واقع المدينة إلى واقع القرية بناسها وعلاقاتها وأساطيرها وخرافاتها الشمالية والجنوبية، بحثًا عن جذور التخلف الذي قاد إلى الهزيمة، وكان في ذلك الفارق الجذري ما بين قرية هيكل الليبرالي القديم وقرى عبدالحكيم قاسم ومحمد البساطي ومحمد روميش ويحيى الطاهر عبدالله من منظورهم اليساري الجديد.

          رابعًا: رغبة صانعي هذه الرؤية في التجريب على نحو غير مسبوق أفاد فيه من ثورات الغاضبين الإبداعية في العالم، ابتداء من الوجودية، مرورًا بالعبث وغيره من تيارات الحداثة، وكان ذلك في سياق لم يتباعد عن اليسار الجديد ولم يفارق نزعة التحطيم المتعمد للعالم الواقعي الحرفي، ومن ثم إطلاق سراح مبدأ الرغبة المقموع، مستبدلاً حضوره بحضور مبدأ الواقع المرفوض.

          خامسًا: أن عددًا غير قليل من صناع هذه الرؤية تمرد على الكتابة البلاغية، وآثر عليها الكتابة العارية التي تخلو من أساليب البيان ووسائله التقليدية، فعرف الكتابة على طريقة جبل الثلج العائم الذي يوجز ولا يبسّط، ولا يلجأ إلى تشبيه أو استعارة، كما يفعل إبراهيم أصلان في كتابته الماكرة، من المؤكد أن ما ينطبق على إبراهيم أصلان لا ينطبق على كل أقرانه، فلكل منهم خصوصيته اللغوية المائزة، ولكن بشكل عام لا نجد بين جيل الستينيات من يكتب استعارات على طريقة نجيب محفوظ «وكان المغيب يقطر سمرة هادئة» وإنما على نحو يتجنب الاستعارات والتشبيهات إلا فيما ندر، وذلك في تضاد يصل بين أمثال صنع الله إبراهيم وإبراهيم أصلان اللذين يؤثران لغة التجريد من ناحية، وأمثال بهاء طاهر الذي يؤثر شاعرية اللغة وصفاءها، لكن في درجة أقل بساطة، في مستويات تناصها، من أمثال أبوالمعاطي أبوالنجا وسليمان فياض اللذين تتدفق لغتهما الصافية كالنبع بلا حواجز، كاشفة عن عمق ثقافتهما اللغوية، أما جمال الغيطاني فهو حالة خاصة في تحويل اللغة المعاصرة إلى لغة تراثية صوفية أو مملوكية، وذلك لفرض الدلالات على وعي القارئ حتى لا تنزلق سريعًا من ذاكرته، ويمكن أن أضيف إلى ذلك المزج بين التخييل الأدبي والتسجيل التوثيقي الذي اعتمد عليه صنع الله إبراهيم في «شرف» وإبراهيم عبدالمجيد في «لا أحد ينام في الإسكندرية» ولا يمكن بالطبع نسيان لغة إدوار الخراط الحداثية التي تسعى بوسائلها الخاصة إلى جذب الانتباه إلى عالمها الجمالي، فضلاً عن العوالم الخارجية التي تشير إليها هذه اللغة التي لا أجد لها نقيضًا إلا في كتابة خيري شلبي التي هي نوع من العامية المفصحة التي لا تخلو، أحيانًا، من استغلال العامية في أساليب الحكي الشعبي بتلقائيته.

          سادسًا: ما أشاعته الرؤية الستينية في مدى التجرد من النزعة الإنسانية بكتابة محايدة إزاء العالم المعادي، مع استبعاد متعمد لأي منحى عاطفي كما في كتابة صنع الله إبراهيم، ومن يماثله من الذين لا يرون من الكتابة توصيل منحى انفعالي، أو شعورًا بعينه، وإنما توصيل مشاهد بصرية منزوعة الانفعالات، إشارية الدلالة في أغلب الحالات، وذلك فيما يقارب بين هذا النوع من الكتابة واطراح النزعة الإنسانية التي تحدّث عنها فيلسوف الفن الإسباني أورتيجا إي جاسيت.

          سابعًا: المزج بين الواقعي والفانتازي والخرافة الشعبية في سياق يجمع ما بين سليمان فياض ومجيد طوبيا، ويحيى الطاهر عبدالله.

          ثامنًا: ما مضى فيه أصحاب الرؤية الستينية من استخدام التاريخ أقنعة ومرايا لفهم الحاضر والماضي الذي أدى إليه على السواء.

رواية السجن

          تاسعًا: ما ابتدعته هذه الرؤية في مواجهة القمع، سواء القمع السياسي بما أسميه «رواية السجن» التي تبدأ من «تلك الرائحة» التي يخرج بطلها من زنزانة ضيقة ليعيش في زنزانة موازية بامتداد القاهرة التي لا تفارقها رائحة مجار منتنة تشي بنهاية سرعان ما حدثت بعد كتابة الرواية بعام وأضيف إلى «رواية السجن» ما يتصل بها من كتابة السجن ولا تنفصل عن ذلك رواية هجرة المقموعين إلى بلاد النفط، كأنهم يستجيرون من الرمضاء بالنار، فيواجهون اغترابًا قمعيًا في «بلدة أخرى» هي نوع مواز من السجن، يتكرر فيه مشهد «بيع نفس بشرية»، لكي يرى المقموع المهاجر ما رآه صاحب «رسالة البصائر في المصائر».

          عاشرا: ولا تختلف مقاومة القمع السياسي عن الإرهاب الديني، ومشكلاته التي أشاعها متطرفو الإسلام السياسي وواجهها عبدالحكيم قاسم في «المهدي» وتبعه، في السياق نفسه، إبراهيم عبدالمجيد في «لا أحد ينام في الإسكندرية» وواصلها يوسف زيدان في «عزازيل» وكان ذلك في المجال الذي اقتحمه يوسف إدريس بجسارته حين كتب «مسحوق الهمس» و«اقتلها» وغيرها من قصص السجن الدالة على عنف القمع الواصل بين القامع والمقموع منذ «العسكري الأسود»

          وأخيرًا: ما يجب ألا أن ننساه في محاولات إعادة إنتاج الشكل الأوربي للرواية ليتناسب مع القضايا الوطنية والقومية في موازاة محاولة استلهام أشكال جديدة مأخوذة من التراث الرسمي أو الشعبي، وذلك في سياق يصل بين جمال الغيطاني ويحيى الطاهر عبدالله ومجيد طوبيا.

          وليس من الضروري أن أحصي الخصائص الإبداعية المائزة لكتابة الرؤية الستينية، فما ذكرته يكفي لإدراك أن لا شيء جذريًا، يفصل فنيًا، بين «أحزان حزيران» (1969) لسليمان فياض و«فى الصيف السابع والستين» (1973) لإبراهيم عبدالمجيد، أو «أبناء الصمت» (1974) لمجيد طوبيا وهو الأمر نفسه الذي يصل بين رواية «الحقائق القديمة صالحة لإثارة الدهشة» ليحيى الطاهر عبدالله المولود سنة 1942(وفي رواية أخرى 1938) ورواية محمود الورداني (المولود سنة 1950) «أوان القطاف» وفي مقابل ذلك هناك ما يباعد كل البعد بين روايات كاتب مثل محمد جلال والرؤية الستينية التي تجمع على مستوى القرب الزمني والفني بين «أيام الإنسان السبعة»

          و«موسم الهجرة إلى الشمال» في السودان و«رجال في الشمس» في الرواية الفلسطينية والحق أنني لا يمكن أن أضع روايات إسماعيل ولي الدين أو محمد الجمل أو حسن محسب أو من يماثلهم جنبًا إلى جنب روايات صنع الله إبراهيم أو إبراهيم أصلان أو قصص سعيد الكفراوي، أو محمد البساطي أو جمال الغيطاني، ولا أتردد في المقارنة التي تظهر التقارب بين كتابة صلاح حافظ وعبدالفتاح الجمل وصبري موسى، وكلهم لم يفِهِم النقد حقهم في التعريف والتقدير ويمكن بالقدر نفسه أن أصل بين كتابة سناء البيسي وزينب صدقي وسعاد زهير وأليفة رفعت، وأرى فيها ما أدى إلى كتابة سلوى بكر ورضوى عاشور رغم ما بينهن من اختلاف على مستوى السطح.

          ولا أستطيع أخيرًا، أن أضع كتابة رضوى عاشور في موازاة كتابة نوال السعداوي، حتى لو هاجمت النقاد، فضلاً عن أن كتابتها أدنى في القيمة من كتابة لطيفة الزيات التي سبقتها في المولد بثماني سنوات، ولاتزال كتابتها تتوهج بمعاصرتها المتجددة، سواء في اتساق الرؤية أو عمق المعالجة أو حتى التقنية.

          وأعتقد، جازمًا، أنه آن الأوان لأن نتخلى عن مصطلح جيل الستينيات من حيث نسبته إلى عقد زمني فحسب، وأن نستبدل به مصطلح الرؤية الستينية، لأن سنوات الستينيات كانت الرحم الذي تولدت منه هذه الرؤية التي لم تجد ما يغايرها ويختلف عنها في المنظور والمعالجة إلا مع منتصف التسعينيات، وذلك على نحو يمتد بالرؤية الستينية إلى ما يزيد على ثلاثة عقود، استمرت إلى أن قطعتها كتابة أخرى لاتزال ملامحها تتشكل أمام أعيننا، وتستحق أن نوليها اهتمامنا النقدي، فهي رؤية مغايرة بحق، تضيف إلى صعود زمن الرواية ما يزيده تنوعا وثراء، ويضيف إلى دلالاته دلالات جديدة واعدة.

جيل التسعينيات

          وفي تقديري أنه آن الأوان للمراجعة النقدية الصارمة لإبداع الرؤية الستينية في الرواية العربية، خصوصًا بعد أن اختلت معايير القيمة بوجه عام، ويفرض العالم المرتبك الذي نعيش فيه إعادة المراجعة والتقييم، أولا لفصل الزائف عن الأصيل، وثانيا لفصل من لا ينتسب إلى الرؤية الستينية عن من لا ينتسب إليها، ولعله ينتسب إلى ما قبلها أو ما بعدها، أو لا ينتسب إلى دائرة الإبداع الأصيل ابتداء، وفي ذلك فليتنافس النقاد يدعوهم إلى ذلك ما نراه حولنا من خلط بين القيمة الإبداعية الأصيلة وضجيج الشهرة الزائلة وهو وضع يستدعي إعادة عنصر القيمة إلى مكانه الذي غطى عليه التحليل أو التفسير في العملية النقدية، أما الرؤية الستينية فقد اكتملت ملامحها الأساسية، ولكن صائغيها لايزالون يواصلون الكتابة في موازاة رؤية جديدة أخذت في التشكل منذ منتصف التسعينيات، ولاتزال تتشكل أمام أعيننا.

          يعني ذلك أنه من الممكن، استهلاليًا، أن نضع حدًا لما نسميه سيادة الرؤية الستينية، في موازاة رؤية جديدة، لاتزال تكمل طريقها في التشكل الذي لا يمكن التنبوء بملامحه النهائية، ولكن يمكن الإشارة إلى بعض علاماته، فمن المؤكد، أن هناك كتابة مغايرة، أخذت تلفت الأذهان إليها، منبثقة نتيجة متغيرات دالة، على المستويات الوطنية والقومية والعالمية، وذلك في السنوات التي انهارت فيها الديكتاتوريات الشيوعية، كي تحل محلها موجات متصاعدة من الديموقراطيات العالمية، وذلك في مقابل صعود نزعة العولمة بترابطاتها الاقتصادية والتجارية والثقافية، تلك الترابطات التي صحبتها ثورة غير جذرية في تكنولويا الاتصالات، جعلت العالم يتحول إلى قرية كونية صغيرة بالفعل، ولعل أهم ملمح عربي يمكن أن نلحظه هو تشظي الحلم القومي وتبدده في ظل معطيات عالم غير مستعد للسماح له بالحضور، خصوصًا بعد أن تعولم العالم وكان لتعولمه رد فعل مضاد على مستوى الهويات العرقية والدينية التي أصبح فضاؤها ساحة مفتوحة للعب القوى الكبرى، وازدياد أشكال التبعية المختفية وراء أقنعة جذابة على امتداد العالم الذي أصبح وحيد القطب، تختفي منه النظريات الكبرى، كي تحل محلها أشكال جديدة من الخطابات الفردية للتمرد، خصوصًا بعد أن أصبح الفرد يكاد يضيع وسط الجماعة التي لا يجد لديها خلاصًا، يتمثل في رؤية سياسية أو اجتماعية تزرع فيه أحلامًا كبرى.

          ولذلك أعتقد أن أهم عنصر حاسم يمايز بين الكتابة الستينية الشابة والكتابة التسعينية، هو أن رؤية الأولى تبدأ من حلم قومي صاعد وتنتهي بانكساره، لتعزز فيها ما أسمّيه «رواية النهايات» أما جيل التسعينيات فهو جيل يبدأ من واقع التبعية المصاحبة لأشكال الاستبداد، وذلك بما لا يترك له فرصة للحلم، بل الصدام المباشر مع واقع متشظٍ مفكك، محكوم بآليات قمعية حديثة، بالغة التعقيد، لا تترك لمن يعيش تحت سطوتها سوى أضيق فضاء ممكن من الحركة، هكذا يمكن أن نعثر على تخلق رؤية جديدة للعالم، علاماتها:

          1- التوحد أمام عالم بالغ التعقيد والقمع.

          2- الوعي الملتبس دائمًا الذي لا يجد ما يقوده في ضباب لا ينطوي على أي ضوء أو يقين.

          3- مفارقة الوعي الروائي الذي يسمع عن أقصى درجات التقدم، ويعاني أقسى درجات التخلف والقمع والتمييز.

          4- الحس الساخر من الآباء الذين لم يتركوا سوى الكارثة.

          5- الوعي المتفاقم بأشكال التبعية التي تلازم ظواهر العولمة.

          6- أقصى أشكال الوعي بالهامشية والتهميش.

          هذه الملامح يمكن أن نجدها بشكل أو بآخر في كتابة خيري عبدالجواد «التوهمات» (92) و«العاشق والمعشوق». وسمير غريب «الصقار» (1997). وأضف إلى هذين الاسمين أسماء تشمل مصطفى ذكري وإبراهيم فرغلي ومنتصر القفاش بأعمالهم التي ظهرت منذ النصف الثاني من التسعينيات، جنبًا إلى جنب ميرال الطحاوي ومي التلمساني ونورا أمين وغيرهن، غير مغفِل بالطبع دور مكاوي سعيد الذي أنطقته تحولات التسعينيات، فكتب عن «فئران السفينة» و«تغريدة البجعة»، فضلاً عن سعيد نوح الذي لفت الانتباه بعنوان دال «كلما رأيت بنتًا حلوة أقول يا سعاد» وعاود لفت الانتباه بروايته الدالة «الشماس».

          الطريف أن التسعينيات شهدت فيما شهدت توابع الصعود المدوّي لزمن الرواية، فظهرت الرواية الرائجة أو «Best Seller» بوصفها علامة دالة على حلول الرواية الرائجة محل القصيدة الرائجة - «هوامش على دفتر النكسة» لنزار قباني، مثلا، فظهرت روايات تتنازل عن الفني في مقابل إنطاق المقموع من الخطاب السياسي الاجتماعي، مثل رواية «عمارة يعقوبيان» التي أطلق عليها المرحوم فاروق عبدالقادر «رواية النميمة» التي تقوم على مغازلة غرائز المقموعين سياسيًا واجتماعيًا، وذلك في موازاة روايات عربية مثل «بنات الرياض» أو «برهان العسل» لسلوى النعيمي.

          ولا يعني ذلك أن الرواية الرائجة قليلة القيمة، والمحصول الإنساني في كل الأحوال، فهناك رواية «عزازيل» ليوسف زيدان التي تكشف قناع القمع الديني في أبعاده المسيحية، مؤكدة كوارث القمع الديني في كل الأحوال وهي لذلك السبب تتذبذب ما بين الرؤية الستينية والتسعينية.

          ولكن هل يمكن أن نجعل العلامات السابقة دالة على المستقبل؟ أعتقد أن الإجابة ستكون بالإيجاب، فقد أصبح شباب الروائيين المصريين والعرب غير قادرين على كتابة الرواية بأساليب الخمسينيات والستينيات أو حتى السبعينيات، فقد ذاب كل ما هو صلب في الهواء، ولم نعد نعيش في عالم يزودنا بالأحلام والأماني، والمطامح، وإنما في عالم قاس وضنين، لا يقيني فيه سوى القمع الذي يسري في كل هواء عربي.

-------------------------

          ليس شيءٌ كمثلِهِ
                              جمع الحُسـنَ مُفرَدا
          حُشِدَ الكونُ كلُّهُ
                              فيه حشدًا مـُجدَّدا
          واستدارَ الزمانُ في
                              ذاتـِهِ ، مثلما بدا
          مُستمِدّا ومُعطيًا
                              واحد ، إن تعـدَّدا

خالد سعود الزيد

 

 

جابر عصفور