سباعية زمن الاحتلال: د. مرسل فالح العجمي

  سباعية زمن الاحتلال: د. مرسل فالح العجمي
        

          جاء الاحتلال العراقي للكويت في 2 / 8 / 1990، صاعقًا لأهل الكويت، ومدمرًا للأمة العربية ومذهلاً للمسلمين، ومفاجئًا للعالم، وقد ترك ذلك الحدث آثارًا مدمرة، وفتح أبواب تداعيات خطيرة لاتزال قائمة أو فاعلة على الصعد الاجتماعية والثقافية والسياسية، سواء في دائرة الخليج أو الفضاء العربي أو الساحة الدولية.

          سأتحدث في هذه الصفحات عن نص يعتبر النص الأنضج في كتابته عن حدث الاحتلال على مستوى المشهد الروائي الكويتي. والنص المقصود هو «إحداثيات زمن العزلة» لأبرز روائيي الكويت إسماعيل فهد إسماعيل، ولكن قبل الدخول في عالم تلك الرواية أود أن أقدم نبذة عن ارتحالات المؤلف الروائية، كيما توضع هذه الرواية في سياقها الخاص ضمن تجربة المؤلف الإبداعية.

          في عام 1970 نشر المؤلف روايته الأولى التي قدمه فيها الشاعر المصري الكبير صلاح عبدالصبور إلى المشهد الروائي العربي بحفاوة بالغة وحماس شديد:

          «في رواية كانت السماء زرقاء يتبدى اقتدار الكاتب الذي يوشك أن يكون عفويًا على استغلال منطق التداعي وعلى جدل حبلي الماضي والحاضر في حبل واحد.... وأخيرًا فإن هذه الرواية من أهم الروايات التي صدرت في أدبنا العربي. وهي لن تمتع القارئ المستعجل كثيرًا ولكنها بلا شك ستزعج القارئ المخلص الرصين وتدفعه إلى التفكير، بل ستصبح ثقلاً على ضميره. يظل هذا الثقل حتى يستطيع شرقنا العربي أن يتجاوز آفاقه المعتمة إلى آفاق أكثر نورًا وإشراقًا وحرية ونظافة».

          بعد أكثر من ثلاثين سنة من كتابة تلك المقدمة استطاع إسماعيل فهد إسماعيل أن يفرض نفسه واحدًا من أهم الروائيين العرب بنتاجه الغزير وتقنياته المتطورة. لقد كان صلاح عبدالصبور استشرافيًا في نظرته، دقيقًا في حكمه، وبعيدًا عن المجاملة النقدية في ذلك التقديم.

          بعد «كانت السماء زرقاء» أصدر إسماعيل فهد إسماعيل إحدى وعشرين رواية يمكن أن توزع بحسب التصنيف الموضوعاتي على ستة محاور:

          1 - أزمة المثقف العربي المعاصر: كانت السماء زرقاء، الحبل، المستنقعات الضوئية، ويحدث أمس.

          2 - القضية الفلسطينية: ملف الحادثة 67، النيل، الطعم والرائحة، الشياح.

          3 - الاستعمار الغربي (احتلال فرنسا لمصر): النيل يجري شمالاً، البدايات، والنواطير.

          4 - الاستعمار العربي والعنوان مأخوذ من ديوان للشاعر عبدالرحمن الأبنودي- (الاحتلال العراقي للكويت): إحداثيات زمن العزلة، سماء نائية.

          5 - الوسط المجاور- العنوان مأخوذ من دراسة للدكتور سليمان الشطي ويقصد به الوافدون والمجتمع الكويتي: بعيداً.... إلى هنا.

          6 - الأبطال المغتربون: خطوة في الحلم، الطيور والأصدقاء، وتبقى رواية «الكائن الظل» رواية متفردة بوصفها الرواية الفنتازية الوحيدة التي كتبها المؤلف.

          يكشف هذا التصنيف الموضوعاتي عن ارتحالات المؤلف الروائية في المكان والزمان والموضوعات، وإذا كان بعض النقاد يرى في هذه الارتحالات ثراء في تجربة المؤلف، فإن فريقًا آخر يرى فيها نقطة ضعف قد تهدد هذه التجربة.

معايشة الاحتلال

          في الثاني من أغسطس من العام 1990 استيقظ إسماعيل فهد إسماعيل على نبأ الاحتلال، وعايش هذا الاحتلال طوال أشهره السبعة معايشة مباشرة، خبر فيها الاحتلال وانخرط في المقاومة وعايش الموت لحظة بلحظة. بعد التحرير تفرغ المؤلف لكتابة نص يتمحور حول تلك التجربة على مستوى المتن الحكائي ويتوفر على مقاربة جديدة على مستوى الخطاب الروائي، واستغرقت تلك الفترة ست سنوات أثمرت رواية «إحداثيات زمن العزلة» بأجزائها السبعة في العام 1996. إن هذه المعايشة المباشرة لزمن الاحتلال ثم المعاناة الكتابية لإنجاز هذه الرواية جعلتا الرواية تسجيلاً تخييليًا لاحقًا لحدث آني فاجع، لهذا جاءت الرواية تأريخًا ذاتيًا لتاريخ عام؛ لأن هذه الرواية ترصد جانبين متداخلين: الأول ذاتي يتمثل في تحولات سلطان الذاتية في فترة الاحتلال بوصفه الشخصية الرئيسية في الرواية، والثاني موضوعي يتمثل في رصد الحياة في الكويت أثناء الاحتلال من جهة وفي الحديث عن نشاطات بعض أفراد المقاومة بوصف سلطان مشاركًا في تلك النشاطات من جهة ثانية. إن هذا الرصد الذاتي والموضوعي يقدم في الرواية من خلال رؤية شخصية مشاركة في الأحداث، متفاعلة مع الوقائع، ولهذا وصفت هذا التسجيل بأنه تاريخ ذاتي لتاريخ عام. وقد أكون مغاليًا، ولكني أزعم أن هذا التاريخ الذاتي في الرواية أصدق وأعمق وأدق من التاريخ بمعناه الأكاديمي «الموضوعي» الدقيق. ومسوغي في هذا الحكم أن التاريخ الذاتي في هذه الرواية يعايش الأحداث مباشرة ويصنع التاريخ في بعض الأحيان، ويكتب التاريخ في كل الأحوال من الداخل.

          في سبيل الوقوف على كيفية رصد المؤلف للتحولات الذاتية والجماعية أمام حدث الاحتلال، سأقف وقفة استقصائية أمام مسألة العنونة في هذه الرواية المتميزة.

دلالات العنوان

          في النص الأدبي، يؤسس العنوان دلالته بصفته دالاً يبحث عن مدلول، أو أفقًا يفتح المجال لتوقع القارئ، أو علامة ناجزة. إن أسوأ العناوين - في الكتابة الإبداعية - هو العنوان الذي يأتي علامة ناجزة. لأنه يلغي الاحتمالين الآخرين، ولأنه بهذا الإلغاء يهمّش دور القارئ في عملية إعادة إنتاج النص. ولأن إسماعيل فهد إسماعيل كاتب متمكن من فنه نجده يستخدم العنونة ضمن المحورين الأولين، وفي ما يلي التفاصيل:-

          جاء عنوان الرواية هكذا:

          «إحداثيات زمن العزلة».
          «سباعية روائية».

          عندما توقفت أمام هذا العنوان في المرة الأولى، أي قبل أن أدخل في النص، أثار هذا العنوان في ذهني عدة احتمالات.

          - إحداثيات: بالمعنى الرياضي للكلمة أي حدود المكان.

          - زمن العزلة: أن بطل الرواية يعيش عزلة نفسية أو مادية.

          بعد القراءة الأولى، تأكد توقعي، وإن زاد عليه النص معاني لم ترد في ذهني، وقد تمثلت هذه الزيادة في ما يلي:

          - زمن العزلة: تأتي على مستويات:

          الأول: عزلة سلطان الذهنية في بداية الاحتلال.

          الثاني: عزلة أهل الكويت في الداخل عن الخارج عزلة مادية.

          الثالث: عزلة سلطان وأهل الكويت عن تيار كان يرى في احتلال الكويت شأنًا ثانويًا بالقياس إلى خطورة وجود القوات الأجنبية.

          أطلق سلطان على هذه العزلة الشعور بالتخلي في لحظة الاحتياج، يقول عن هذا الإحساس: «قضيتك، طمس هويتك، تصفيتك معنويًا وماديًا بعد استباحتك، وتسمع من يرفع صوته: «ضرورة التصدي للتدخل الاستعماري، وما عدا ذلك ليس سوى أمور ثانوية.... إمكانية بحثها بعد...».

          أنت أمر ثانوي وقبلها كانوا أولويات، كيف لك أن تعود إلى أولوياتك».

          عندما ننتقل إلى عناوين الأجزاء السبعة نجدها كما يلي:

          الكتاب الأول: الشمس في برج الحوت

          الكتاب الثاني: الحياة وجه آخر

          الكتاب الثالث: قيد الأشياء

          الكتاب الرابع: دوائر الاستحالة

          الكتاب الخامس: ذاكرة الحضور

          الكتاب السادس: الإبابيليون

          الكتاب السابع: العصف

          عندما قرأت عنوان الكتاب الأول: «الشمس في برج الحوت» ثار في ذهني احتمالان، وبعد أن فرغت من القراءة استبعدت أحدهما وبقي الآخر.

          أول الاحتمالين منبثق من فضاء تنجيمي، يعتمد على حركات الأفلاك ومواقع الأجرام السماوية، فهل وقوع الشمس في برج الحوت نذير نحس أو شر أو خطر عظيم؟

          الاحتمال الثاني: هو أن الشمس رمز للضياء والنور والعلو بينما الحوت رمز للسواد والغلظة والأعماق السحيقة، بهذا المعنى جاء العنوان رامزًا لوقوع الكويت  تحت الاحتلال العراقي، بعد أن قرأت الجزء الأول استبعدت الجانب النحسي أو التنجيمي من العنوان، لأن هذا الجزء أكد على الجانب الرمزي في العنوان.

          تجدر الإشارة إلى أن المؤلف لم يذكر هذا العنوان في أثناء الرواية، وإنما ترك الأفق مفتوحًا ليملأه القارئ كما يشاء استنادًا إلى العنوان والمعطيات الروائية في هذا الجزء.

          عنوان الجزء الثاني: الحياة وجه آخر، جاء من عبارة وردت في الرواية، يقول سلطان في صفحة 327، في واحدة من تأملاته الذهنية:

          «عدوك.. جاءت من حيث الشعور بالانكشاف، نشأتك... ألف باء تعلمك، موقفك الفكري، توجهك القومي، تبنيك قضاياك العربية، الحال، وهاهي جذورك تقتلع، تبقى معلقة في فراغ مغفل.

          الحياة وجه آخر، قضيتك، طمس هويتك، تصفيتك ماديًا ومعنويًا بعد استباحتك».

          عنوان الجزء الثالث: قيد الأشياء، جاء مفتوحًا لا يرتبط بالنص، وإن كان بالإمكان أن نصل بسهولة إلى دلالة العنوان، فبعد أن فرغنا من قراءة الجزأين السابقين يمكن أن نستنتج أن «القيد» هو الاحتلال و«الأشياء» هي كل ما يقوم به الإنسان من أفعال في أثناء الاحتلال، ولكن المفارقة تكمن في تناقض هذا العنوان مع ما كانت تقوم به مجموعة «أبو الفهود» من مقاومة عسكرية، ولاسيما في وصول هذه المجموعة إلى المحول الكهربائي المملوء ذخيرة في منطقة الفيحاء.

          دوائر الاستحالة: عنوان الجزء الرابع، جاء في آخر جملة في الصفحة الأخيرة من الكتاب الرابع، تنتهي هذه الصفحة بتأمل ومناجاة نفسية، يستحضر فيها سلطان محاولته إقناع مجموعة من الفلسطينيين بأن المقاومة الكويتية ليس لها علاقة بهجوم حدث على إحدى مدارس البنات في منطقة حولي.

          تمضي المناجاة كما يلي:

          «بغضّ النظر عنهم، بغض النظر عنك، بغض النظر عن.... ماذا؟!

          أنت في حالة دفاع عن وجودك في وجه احتلال عاتٍ، وهم في حالة دفاع عن ثقتهم بك، من خلال اشتباك قضيتك بقضيتهم.

          حدود المكان، وهذا القلق الذي يستبدك كما الجزع.... خشيتك يحل وقت تتحول فيه دوائر الإمكان لدى اشتباكها بعضها إلى دوائر استحالة».

          يستوقف القارئ أن «دوائر استحالة» التي وردت في الفقرة السابقة، تحوّلت إلى «دوائر الاستحالة» في العنوان، لعل هذا يعني أن المحظور وقع والإمكان تحوّل إلى مستحيل وفي هذا إشارة إلى فشل محاولة سلطان.

          عنوان الكتاب الخامس: «ذاكرة الحضور»، جاء من الرواية في توقيعة شعرية، خاطب فيها سلطان نفسه، بعد أن وقع أخوه هلال في الأسر في إحدى عمليات المقاومة، في سبيل التكتم على أسر هلال، تآمر سلطان مع أخيه مصطفى على إشاعة خبر مفاده أن هلالاً هرب إلى السعودية.

          يتأمل سلطان هذه الكذبة قائلاً:

          - «تدري أن التحرير حتمي، فإن كان... انبجست لك همومك كما دمع إخوتك، واجهتك... تعال ّ لو أن الوعي بالأشياء مسئولية شخصية محضة! إحساسك، ذنبك تجاه الآخرين..... هل يتلبسك إحساسك الذنب تجاهك! هلال أخوك. كتمانك السر لا يعني إغفالك له أنت تتأبط ذاكرتك، حضورك بحد ذاته، لا يعد كونه حضورًا للحدث.

          رهانك.... الزمن كفيل، يستغفل الذاكرة، يراكمها تولي أيامه، تخف وطأة حدث بعينه، تنزوي في الهناك من ذاكرة الحضور».

          عنوان الكتاب السادس: «الإبابيليون»، من السهل الوصول إلى دلالة هذا العنوان وإحالته، مع ملاحظة مفارقة عميقة تنفتح على تهكم صارخ في إحالة العنوان، إن العنوان يحيل إلى حدث خارج النص يحدث في أثناء زمن الحكاية ويحيل على حادثة تاريخية قديمة في أثناء زمن الخطاب، وفي كلتا الحالتين والإحالتين تبرز المفارقة والتهكم.

          مع عنوان الكتاب السابع: ينهض العنوان: «العصف» باعتباره إحالة على نهاية الاحتلال وبدء الحرب البرية وتحرير الكويت.

          في النهاية يمكن أن نخلص إلى أن عنوانات أو عناوين الكتب السبعة تقع ضمن أربع دوائر دلالية:

          - دائرة دلالية مفتوحة: وذلك عندما لا يحيل المؤلفُ العنوانَ على النص أو الخارج كما في الكتابين الأول والثالث.

          - دائرة دلالية ذاتية: وذلك عندما يحيل المؤلف العنوان على الرواية وتكتمل دلالته عندما نعرف أن الشأن هنا شأن ذاتي، كما رأينا في: «الحياة وجه آخر» و«ذاكرة الحضور».

          - دائرة دلالية خارجية: وذلك عندما يحيل المؤلف العنوان إلى أحداث أو حوادث خارج النص كما في الكتابين السادس والسابع.

          وأخيرًا دائرة دلالية نقيضة وذلك عندما يحيل المؤلف العنوان إلى الرواية، ولكنه يضع عنوانًا يناقض موضوع الإحالة كما في «دوائر الاستحالة».

لغة بلاغية خاصة

          إضافة إلى مسألة العنونة ينبغي أن أشير إلى سمتين بارزتين في الخطاب الروائي، الأولى تتمثل في ما أطلق عليه المؤلف، الارتكاب اللغوي، والثانية تتعلق بما أسميه الإشراقات الشعرية.

          عن السمة الأولى يمكن القول إن السارد حاول أن يؤسس لنفسه نمطًا كتابيًا خاصًا، وفي بعض الأحيان قد يصطدم هذا النمط مع اللغة المقعدة والبلاغة التقليدية، يطلق المؤلف على هذه السمة الارتكاب اللغوي ويعلن أنه يمارسه متعمدًا.

          عندما شرعت في قراءة الرواية، فوجئت بهذا «الارتكاب» في الجزء الأول، ولكني عندما توغلت في قراءة الأجزاء اللاحقة لم أعد أجد صعوبة في هذا النمط الارتكابي ولا في قبوله، لأنه أصبح سمة أسلوبية كتابية (وأكاد أقول بلاغية) مستقرة في الرواية من البداية إلى النهاية. ومع أن هذا الارتكاب اللغوي قد يثير بعض المحافظين، فإنه لم يغضبني، لأني أرى أن من حق الكاتب أن يؤسس أسلوبه كيفما شاء شريطة أن يكون هذا الأسلوب صحيحًا من الناحية النحوية ومعقولاً وقابلاً للتواصل مع قرائه من الناحية الدلالية، ولكن ثمة أمرًا آخر استوقفني في هذه السمة الأسلوبية ويتمثل هذا الأمر في طغيان هذه السمة الأسلوبية - التي هي في الأساس من سمات السارد الأسلوبية على وعي ولغة الشخصيات الأخرى. ولقد ظهر هذا الطغيان في الحوار بصفة خاصة، حيث جاءت جميع الحوارات الواردة في الرواية باستثناء الحوارات بين المحققين العراقيين والمستجوبين الكويتيين أقول جاءت تلك الحوارات مصوغة وفق النمط اللغوي الذي يستخدمه السارد، وهكذا يحس القارئ أمام هذه الحوارات بأنه لا يسمع / يقرأ كلامًا منفردًا لشخصية مستقلة، وإنما يسمع / يقرأ حوارًا اعتمده وقدمه له السارد بلسانه الشخصي، وهكذا كانت المحصلة النهائية أننا لا نسمع أصواتًا مختلفة لشخصيات متعددة، وإنما نسمع صوتًا واحدًا طوال الرواية. إن هذا الطغيان لصوت السارد جعل «إحداثيات زمن العزلة» «رواية أحادية الصوت» غابت عنها أصوات الشخصيات الأخرى بتفردها اللغوي.

الحب في زمن الحرب

          عن السمة الثانية يمكن القول إن رواية «إحداثيات زمن العزلة» تزخر بالتوقيعات الشعرية، التي يُكَثّف فيها المؤلف لغته إلى حد تشارف فيه مستوى الشعر، ويبدو أن حميمية العلاقة بين المؤلف وموضوعه من جهة ورهافة المشاعر التي يعانيها السارد من جهة ثانية، لعبتا دورًا في ظهور وحضور هذه السمة، ولأن عملية الإحاطة بكل أمثلة هذه التوقيعات، عملية مستحيلة في هذا المقام نظرًا لكثرتها وضيق المساحة، فسأكتفي بذكر ثلاث توقعيات / إشراقات شعرية للتمثيل:

          الأولى تتعلق بالإحساس بالوطن في أثناء الاحتلال. يقول المؤلف / السارد عن هذا الإحساس: «من أين للكويت وهي مكانية جغرافية تتلبسه من أعماقه (الضمير يعود إلى سلطان بطل الرواية) لتتمثله إحساسًا جياشًا يستحيل معه الفصل بينهما ليشعر بأنه هو الكويت، وأن الاستباحة الماثلة واقعة عليه بشخصه» (إحداثيات زمن العزلة: الشمس في برج الحوت ص 24).

          الثانية تتعلق بشعور الحب في زمن الحرب:

          «الحب في حقيقته ميلاد آخر من حالة صفر مذهلة الحضور:

          الطاقات المخزونة وتوق اختزال العمر في لحظة عشق.

          والحب ضمن ظرفه فعل بشري ذاتي يوجه الواحد نحو الواحد لكي يحققا زمنهما الواحد»

          ( إحداثيات زمن العزلة: دوائر الاستحالة ص 194).

          الثالثة: تصف حالة سلطان عندما سمع خبر اعتقال ابنته سهى:

          «الأشياء بإحاطتها لك تدور. أنت من غير أن تتحرك تدور. شيء ما يجب أن يعود القهقري، الزمن أو أنت، كيف بعضك يتخلى عنك؟! من أين لك أن تنسلخ من خارج جلدك» (إحداثيات زمن العزلة: ذاكرة الحضور ص 50).

          وأخيرا تجدر الإشارة إلى أن المؤلف الضمني للرواية، حاول أن يرصد الاحتلال العراقي عبر صوت واضح مسموع لسارد متخفّ يستخدم تقنية المزاوجة بين عملية العرض والإخبار خلال الرواية. وعلى الرغم من تنقل هذا السارد بين زوايا رؤية مختلفة، فإنه يظل مرتبطًا بشخصية سلطان من الناحية المعرفية، بمعنى أن معرفة السارد الحكائية مؤسسة على معرفة سلطان وحضوره. ولهذا لا غروَ أن تظهر في الرواية ثلاث دوائر حكائية تتمحور جميعها حول بطل الرواية: سلطان. فهناك أولا الدائرة الذاتية، أي دائرة سلطان وما يدور في ذهنه من تأملات، وما يعانيه من تشتت عاطفي بين إيمان وشيرين.

          وتستهل الرواية بهذه الدائرة، حيث يطابق السارد بين زاوية رؤيته وزاوية رؤية سلطان كيما يقدم عبر هذه المطابقة استجابة سلطان الأولية لنبأ الاحتلال. وهناك ثانيا الدائرة المحلية، حيث إخوة سلطان ومجموعة «أبو الفهد» وبيت الهاشل والمقاومة الكويتية، ويتم إدخال هذه الدائرة في السرد عن طريق انتقال السارد إلى زاوية رؤية أخرى تتعلق بالوسط المحلي، مع ملاحظة أن هذه الزاوية تكون إما عن طريق مشاركة سلطان في الأحداث، أو عن طريق استماعه لحديث من عاصر تلك الأحداث.

          وهناك أخيرًا الدائرة الخارجية، حيث الاحتلال العراقي والاستعدادات للحرب ومواقف العرب والعالم من الاحتلال. وفي هذه الدائرة اعتمد السارد على المذياع والتلفزيون بصورة تكاد تكون حصرية، وقد كان الحضور الأكبر في الرواية لإذاعة النظام العراقي وتلفزيونه، وهذا أمر فرضته معطيات حقيقية وغرض فني، فالمعطيات الحقيقية تتمثل في أوضاع الاحتلال وانقطاع الكويت عن الخارج من جهة، وفي رغبة سلطان في معرفة ما يدور في بداية الأمر من جهة أخرى. أما الغرض الفني فيتمثل في أن هذه البيانات وتلك الأخبار كانت تثير مفارقات حاول أن يرصدها السارد في أثناء الرواية.

          وهكذا يظهر لنا كيف توفر المؤلف على كتابة فترة الاحتلال العراقي للكويت في هذا العمل الروائي المميز، وذلك عن طريق كتابة ما يشبه السيرة الذاتية من جانب، وكتابة ما يشبه التأريخ العام من جانب آخر.
---------------------------
* أكاديمي وناقد من الكويت

 

 

 

مرسل فالح العجمي*