خالد سعود الزيد .. المعلّم (شاعر العدد)


خالد سعود الزيد .. المعلّم (شاعر العدد)
        

          كلما تذكرته خيّل إلي أنني أسمع صوته الجهوري المميز وهو يلقي قصيدته التي بقيت هي الأثيرة بالنسبة له منذ أن كتبها وحتى رحل على سواحلها الصوفية المترامية السحر وفي فيض أسرارها الجليلة.

          إنه الشاعر الكويتي خالد سعود الزيد، وهي قصيدته الشهيرة «محمد». وبينهما من العلاقة ما هو أكثر مما بين الشاعر وقصيدته عادة. وتلك العلاقة التي كنت أعرفها كما يعرفها كل قرائه وتلاميذه هي أول ما قادني إلى الكتابة عنه بعد وفاته بأسابيع قليلة في مقالة خصصتها لرثائه شاعرًا ومعلمًا لجيل من الشعراء في الكويت أعتبر نفسي أحدهم.

          في تلك المقالة كتبت في بعض ما كتبت أن «للشاعر أحيانًا صوته الخاص، وله بالضرورة، صوته المميز، لكن بصمة الصوت لا يمكن أن تكون بفرادتها المستحيلة إلا للكبار.. ولعل خالد سعود الزيد واحد منهم .

          لقد رحل هذا الشاعر الكبير، لكن صوته سيظل دائمًا يسكن في أعماق الذائقة الشعرية المعاصرة عبر نوع خاص من القصيد، الذي برع بأدائه على المنبر الشاعر المعلم، كما يحلو لنا أن نسميه في الكويت. ومن داليته الشهيرة في مدح الرسول يرشح الكثير من تجليات ذلك القصيد المهيب.

          وقد دأب الزيد في سنواته الأخيرة على الإصرار على إلقاء تلك القصيدة ختامًا لكل أمسية شعرية يشارك في إحيائها، ومازلت أذكر تفاصيل إحدى الأمسيات الشعرية التي شاركت فيها معه، ومعه مجموعة أخرى من الشعراء في إطار دورة من دورات مهرجان القرين الثقافي في الكويت، فقد طلبت منه في تلك الأمسية أن يلقي قصيدة جميلة كنت قد سمعتها منه قبل الأمسية بأيام قليلة ولم تكن قد نُشرت بعد، لكن وقت الأمسية كان قد شارف على الانتهاء، ولم يتذكر المعلم الكبير أن يلقيها، حتى أنني أشرت له بطرف خفي وأنا على الطرف الآخر من المنصة مذكرة إياه بها، فما كان منه إلا أن ابتسم قائلاً: سأقرأ ما هو خير منها. وأيقنت حينها أنه سيختتم مشاركته بذلك الهدير الجليل: «مثل قد تجسدا/ وقديم تجددا /وجديد جذوره/ ضاربات بلا مدى/ أرضه أو سماؤه/ مثلما الصوت والصدى/ ما ترى من تفاوت/ مطلقًا أو مقيدا/ ليس شيء كمثله/ جمع الحسن مفردا (...) صورة لن ترى لا/ مثلما قد ترددا/ كان من قبل أحمد/ وأتاها محمدا».

          ورغم شاعرية الزيد الفذة والمتفردة في الوقت نفسه، الا أن شهرته المحلية الأكبر كانت قد تحققت أساسًا باعتباره أشهر من أرّخ للأدب الكويتي ووثّقه على مدى قرنين من الزمان هما عمر الدولة  الكويتية، وذلك عبر كتابه الشهير بأجزائه الثلاثة «أدباء الكويت في قرنين»، الذي لم يكن يفكر في وضعه، البحث عن مصادره الشحيحة في مظانها المتأبية لولا سؤال استفزازي حول حقيقة وجود أدب في الكويت، وكانت قد دارت حوله مناقشات ومحاورات محلية وعربية في كويت الستينيات، فقد فضل الزيد أن يكون ذلك الكتاب التوثيقي الضخم، رده في تلك المعركة التي دارت رحاها بين معنيين ملتبسين من الاستفزاز الزائد عن الحد، والحماسة في الرد. ولم يكن الزيد منذ بداياته وحتى نهاياته لينحاز إلى تلك المعاني الملتبسة في تطرفها الحاد. بل كان سمحًا وصديقًا للجميع.. أعني للجميع فعلاً.

          وأتذكر شخصيًا أن نوعًا من الصداقة ذات النفس الأبوي كان قد ربطني بالشاعر مع مجموعة من زملائي في قسم اللغة العربية بجامعة الكويت في نهاية الثمانينيات، حيث كان يحتفي بتجاربنا المبكرة، ويشجعنا على النشر وعلى قراءة التراث، والأهم أنه كان يصارحنا برأيه عندما لا يعجبه شيء مما نكتب. وعلى الرغم من تخوّفنا في البداية من اطلاعه على شيء من نصوصنا الحداثية باعتباره شاعرًا كلاسيكيًا، وفقا لتلك التقسيمات النقدية الموروثة، إلا أننا فوجئنا - عندما فعلنا - بأنه أول من يشجعنا على تلك الحداثة التي كنا نتلمس أطرافها في حين كان هو نموذجًا متفردًا من نماذجها الخاصة. صوت خاص ببصمة فريدة.. ذلك هو صوت خالد سعود الزيد.. رحمه الله.

          انتهى الرثاء، وبقي الكثير من التفاصيل التي يمكن أن تُكتب هنا كتتمة ترجمة للشاعر المعلم. ومنها أنه ولد في حي قبلة في الكويت العام 1937م، وفي المدرسة القبلية تلقى تعليمه الأولي قبل أن ينتقل إلى الثانوية المباركية مبتدئًا أولى خطواته في درب الشعر الطويل، حيث بدأ بكتابة بعض القصائد وهو لايزال على مقاعد الدراسة التي تركها مضطرًا ليلتحق بإحدى الوظائف من دون أن يترك شغفه بعالم الكتب قارئًا ومؤلفًا ومحققًا ومدققًا وجامعًا ومنقبًا. وسرعان ما عُرف خالد سعود الزيد شاعرًا مجيدًا ومجدًا ومجددًا. وفي العام 1966م صار عضوًا في مجلس إدارة رابطة الأدباء في الكويت، وفي إطارها رأس تحرير مجلة «البيان» الصادرة عن الرابطة في أزهى عصورها الثقافية. وقد انتُخب الزيد أمينًا عامًا لتلك الرابطة أكثر من مرة قبل أن يتفرغ لعالمه الأثير بين الكتب والدواوين والمجلات القديمة في تلك المكتبة الشهيرة الملحقة ببيته، والتي صارت موئلاً للقائه بتلاميذه ومريديه، وأثارت إعجابهم بما تحتويه من كتب ومطبوعات ومخطوطات كثير منها نادر، وعندما رحل الزيد العام 2001 كانت مكتبته تحتوي على ما يقرب من اثني عشر ألف كتاب، منها كتبه الكثيرة التي بدأها العام 1961 بكتاب «من الأمثال العامية»، وتوالت بعدها بقية العناوين الشعرية والنثرية ومنها: «أدباء الكويت في قرنين»، و«خالد الفرج.. حياته وآثاره»، و«صلوات في معبد مهجور»، و«قصص يتيمة في المجلات الكويتية»، و«مسرحيات يتيمة في المجلات الكويتية»، «شيخ القصاصين الكويتيين فهد الدويري.. حياته وآثاره»، «كلمات من ألواح»، و«بين واديك والقرى» وغيرها الكثير مما طبع ومما بقي ينتظر.

 

 سعدية مفرح