رضا سالم يوثق عمارة الكويت الحديثة

رضا سالم يوثق عمارة الكويت الحديثة
        

          لم تكتف العمارة المعاصرة في مدننا الحديثة بالتمدد الأفقي، بل استجابت للرغبة الإنسانية الدفينة في مناطحة السحاب، وغزت الصحراء العربية أبراجٌ تسكنها كثرة الغيوم والرياح وحفنة من البشر. يبدأ ملمح التغيير عند نقطة زمنية فاصلة، بين قديم تهدم، وحديث ينشأ، وهي علامة تدعو عينًا متأملة توثقها، فيستجيب فنان كويتي هو المصور رضا سالم، ليكتب بالضوء بعضًا من ملامح العمارة الكويتية المعاصرة.

          يأخذ الفنان رضا سالم آلة تصويره الرقمية ليصعد أحد الأبراج التي تتشكل خارجة من شكلها الرحمي المتطاول. تنادي المصور غريزة الحوار مع السحاب الذي ناطحه البرج، وهو يقف على أرض لها ذاكرة  حية، لأن البرج الحديث يقوم على المساحة التي شغلتها سينما الحمراء، التي سميت أيضا سينما «الفردوس».

          اليوم، يجد القادم إلى شرق مدينة الكويت، ذلك البرج الشاهق بين تقاطعي  شارع الشهداء مع شارع جابر المبارك. الأرقام تجعل منه مشروعًا ضخمًا، وهي أرقام صماء إلا أنها تعبر عن ذلك اللحن المعماري الذي بدأ يجد صداه وترتفع وتيرته، ليتحول فضاء الديرة ـ كناية عن وسط البلد ـ إلى مجموعة أصدقاء من ناطحي السحاب.

          سيصبح برج الحمراء بعد تشييده أطول بناء في الكويت (412 مترًا، 1352 قدمًا)، وقد بدأ العمل فيه منذ خمس سنوات، على مساحة 10.978 قدما مربعة بالإضافة إلى مساحة 7.000 قدم مربعة لمبنى مخصص لمواقف السيارات المتعدد الطوابق  (7 طوابق مع طابقين تحت الأرض طاقتها الاستيعابية مجتمعة 1.800 سيارة)، مع جسور معلقة تربط المبنى مع البرج ومركز التسوق، نموذجا لها نشاهده في الجسر الرابط بين مجمع مارينا التجاري في حي السالمية، وقسمه البحري على شاطئ الخليج العربي، إنها تلك الجسور التي تشبه ممرات مكيفة لصعود الطائرات، ولتلك الجسور بين المباني أسلاف لدى برجي باتروناس في العاصمة الماليزية كوالالمبور.

          من برج الحمراء ـ حين كان قيد الإنشاء ـ يلتقط رضا سالم صورة لأشهر معلم معماري في الكويت، أبراج المياه. ليس فقط ليوضح موقع البرج الجديد منها، ولكن ليبين بعده عنها، فتصبح الأبراج التي كانت تهب زوارها رؤية الكويت، تتطلع إلى علٍ لتشاهد ذلك المعلم الجديد، في عالم ثقافة الأبراج الذي دشنته العواصم والحواضر الخليجية، كشاهد على التغير المعماري الصارخ.

          كان مجتمع الكويت المبكر يعتمد في جلب مياهه على الآبار الجوفية، والسفن الشراعية التي تبحر من شط العرب حاملة إليه كميات من الماء العذب في خزاناتها الخشبية. وفي عام 1953 تم إنشاء محطة لتقطير ماء البحر. ثم أنشئت أبراج المياه في مناطق عدة بالكويت بلغ عددها نحو الخمسين قبل عقدين. أما الأبراج الأشهر فقد صممها المهندسان الدنماركيان سون ليندسورم وميلن بجورن، على شكل مرش العطر التراثي الكويتي. ويبلغ طول البرج الأول 185 مترًا ويتكون من كرتين، السفلى كمطعم والعليا كمخزن للماء، ويضم البرج الرئيسي منها جزءًا متحركًا يدور بانتظام ليكشف عن معالم المدينة. بينما يبلغ طول البرج الثاني 145.8 مترًا ويستخدم كمخزن للماء، والبرج الثالث مكمل للبرجين السابقين. وقد افتتحت الأبراج في عام 1979م وقد اختير - فيما بعد - هذا التصميم واحداً من المشروعات المعمارية الفائزة بجائزة «أغاخان» للعمارة الإسلامية.

          ليس مرش العطر وحده الذي ألهم مصممي العمارة الكويتية المعاصرة، بل أخذ هؤلاء مفردات البحر ليصيغوا منشآت جديدة، ومنهم من عاد - بحنكة وحكمة - إلى استلهام العمارة الإسلامية بتجلياتها العربية، كما في مبنى منظمة المدن العربية، بمشربياته وجدارياته، وأروقته وإيوانته، وقد صوره أيضا رضا سالم، وهو مبنى يجمع بين دقة تكنولوجيا القرن العشرين، وجماليات الـذوق العربي، ففي فضائه ذلك البيت العـربي، بشرفـات مصر ومشربياتها، ببحرة (نافورة) مجالس الشام الدمشقية، بفسيفساء المغرب وفن أعمال الحجارة التونسية، وديوانيات الكويت نموذجا للمجالس الخليجية. وكأن الفنان يريد أن يوثق هذه الروح المعمارية التي حولت رمال الصحراء إلى زجاج ملون، وحجر مُشكَّل، وفضاء جديد، يحاول كل عضو فيه أن يكسر رتابة الاستنساخ المعماري، فيلوي التصميم كأنه يعصر منشفة من الحجر، ويلون الزجاح كأنه يرسم سحابة من مياه الخليج العربية.

          لكل مبنى جماليات يشي بها التصميم، وفي الكويت سيجد المتابع هذه الجماليات التي تتوافق تصميماتها مع البيئة، وتمزج الرؤى المحلية والعناصر المعمارية والتقنيات العصرية، مثل قصر السيف، ومبنى مجلس الأمة، ومسجد الدولة الكبير، ومبنى صندوق التنمية، ومبنى مؤسسة التأمينات الاجتماعية، وبرج الصفاة، وسوق الأمير، بالإضافة إلى مبنى البلدية المجدد.

          في مقابل هذه النماذج الرائعة المشار إليها تقف - مخالفة - كيانات أخرى مصمتة، تشبه أعضاء جسدية متيبسة، ـ مقارنة بالبيوت التقليدية القليلة التي ظلت على حالها أو رممها المهتمون بها ـ

          وتحتال تلك الكيانات بانغلاقها على الحرارة في مناخ قاري، فلم تعد ترضى بالهواء الطبيعي، بعد أن أصبحت الحياة داخل علب مكيفة، وبات البشر موصولين بأجهزة التكييف، في غرف المنزل، ومكاتب العمل، ومواقف السيارات، والجسور المعلقة، وكأن تلك العمارة موصولة بقابس كهرباء عملاق. وكنت أتساءل، لم لا تستخدم الطاقة الشمسية في تلك الأبراج، التي تئن تحت وطأة الوهج الشمسي الحارق؟

          ولا نريد أن نعمم فسنقرأ ببعضها - ولو على استحياء - بعض مفردات العمارة العربية الإسلامية كالأقواس والزخارف للواجهات الخارجية للمباني الحديثة للإيهام بأصالتها، وكذلك هناك من يحدد عددا من الطرز المعمارية التي يرى أنها تستلهم روح العمارة الإسلامية ويفرض ألا يخــرج عن دائرتها تصميم أي مبنى حديث، ولكن هذا البرج، مثالا، رأيت بعض تصميماته يستلهم جدار استاد نادي بايرن ميونخ، الذي تتلون أليافه الزجاجية بالكامل بالأحمر حين يلعب النادي، وبالأزرق حين يلعب نادي مونشن 1860، وبالأبيض حين تكون مباراة دولية للمنتخب الألماني!

          وجه المصور الفنان رضا سالم عدسته في الجهات الأربع ليرسم خريطة العمارة وهي تتشكل، سنرى الطرق وهي تدخل المناطق المنبسطة، قبل أن تصبح أبراجا، سنرى الأفق وهو يستقبل الأبراج، بين نحيف كقلم الرصاص، وسميك كهراوة، سنرى مياه الخليج العربية وهي تشهد هذا التغيير في صمت، بعد أن هجرتها الداو وسكنتها اليخوت، سنرى كل هذا التغيير حتى حين نغمض العيون، لأن العدسة ساهرة، تتأمل، وتوثق، وتقول بالضوء أكثر مما تفصح الكلمات.

 

 

أشرف أبو اليزيد   





 





مقارنة بالأبراج تبدو الأشجار مثل كائنات دقيقة وتظهر السيارات كلعب الأطفال. هنا تولد مدينة عملاقة من الحجر تناطح السحاب والرياح





سيصبح برج الحمراء بعد تشييده أطول بناء في الكويت (412 مترًا، 1352 قدمًا)، وقد بدأ العمل فيه منذ خمس سنوات، على مساحة 10.978 قدمًا مربعة





أبراج الكويت الأشهر، صممها المهندسان الدنماركيان سون ليندسورم وميلن بجورن، على شكل مرش العطر التراثي الكويتي، ويبلغ ارتفاع أطولها 185 مترًا، افتتحت الأبراج في عام 1979م واختيرت واحدًا من المشروعات المعمارية الفائزة بجائزة «أغاخان» للعمارة الإسلامية





سينما الحمراء في صورة من أرشيف «العربي» قبل 40 سنة. كان الفيلم الذي يعرض ـ كما يظهر في الصورة ـ عنوانه «العالم في قبضته»، كأنه يشي بما سيكون عليه برج الحمراء المقام بالمكان نفسه





مجموعة من البيوت التي تحتفظ بعلوها التقليدي كما عرفته الكويت عقودًا طويلة، قبل أن تتسلل ثقافة الأبراج إليها، الطريق المتجه أدنى الصورة يتجه يسارًا إلى برج الحمراء، ويمينا إلى مقر مجلة «العربي» الحالي!





من وراء الزجاج الذي يحمل بصمات البنائين وآثار البناء يمكن أن نرى في أقصى عمق الصورة برج التحرير الذي يرتفع صاريه حتى 372 مترا





شراع سفينة، من الزجاج والحديد والحجر، يبحر وسط بحر من موج البنايات المنبسطة





هناك مساحة مخصصة لموقف السيارات المتعدد الطوابق طاقته الاستيعابية مجتمعة 1.800 سيارة