نعمة النسيان

نعمة النسيان
        

          النسيان حالة من الحالات التي يتمتع بها الإنسان، لو لم تكن موجودة، لكان الإنسان في نقصٍ يؤدي به إلى الهلاك.. إلى الجنون.

          عدم النسيان عاهة، والنسيان رحمة، من الطبيعي أن أكون، أنا نفسي، مرحومًا، وليس كل مرحوم هو إنسان ولّى.. ذهب.. أنا حيّ إذًا أنا أنسى.

          مرّات عدة أنسى أسماء أشخاص أعيش معهم منذ ولادتهم، هم من العائلة، أخلط الأسماء وأسمّي - مثلاً - سامية بليلى.. وليلى بسلوى، ويوسف بإبراهيم. وجميع هؤلاء لا يلبّون ندائي لهم، لأنهم يعلمون أني لن أكترث لعدم تلبيتهم لنداءاتي، وأنا كذلك، فأزداد فرحًا عندئذٍ لأني من الناس الذين ينسون.

          على ذكر «الينسون»، يقفز في رأسي فنجان أبيض من «اليانسون» أشربه في خيالي، وعندما يفرغ الفنجان، أنسى اسم الشراب الذي شربت، أنادي النادل وأطلب منه أن يأتيني بفنجان ثانٍ من الـ..

          نسيت اسمه.. أقول للنادل: نسيت اسم الشراب الذي طلبته وشربته.. يجيبني النادل أني لم أطلب شيئًا بعد، أعود عندئذٍ لفرحي لأني من هؤلاء الذين ينسون، وعندما وصلت إلى فعل «ينسون» تذكّرت «اليانسون» الذي شربت، ناديت النادل، أتى.. قال لي: نعم.. قلت له: لاشيء.. لاشيء.. اعذرني.. نسيت ما كنت أريد منك، فازددت فرحًا وفخرًا لكوني من الناس الذين ينسون.

***

          اتكأت على ذراعي واضعًا الكوع على طاولة المقهى بحالة تفكير، هكذا يراني مَن يراني وينظر إليّ وذراعي وكوعي والطاولة يوحي بأني أفكّر، وبالفعل كنت أفكّر، أنا أفكّر.. قلت، لم أقل شيئًا، كنت أفكّر بالإنسان والنسيان، وكيف أن الأحرف ذاتها تتكرّر فيهما، الألف والنون والسّين، وبقي كوعي على طاولة المقهى وذراعي ويدي تسندان رأسي، صورة نموذجيّة لمفكّر، هل زرت متحف رودان Rodin في باريس؟ تقول لا.. هذا طبيعي أنت لبناني، في المتحف تمثال «المفكّر» للنحّات الأخ رودان، طيب، هل تعرف صورة وجه الشاعر المصري أحمد شوقي، تقول نعم.. هذا طبيعي، أنت لبناني، أنا الآن أضع رأسي بين رأس مفكّر رودان ورأس شوقي.

***

          النسيان والإنسان واليانسون وينسون وكلمات وأفعال وصفات كثيرة أستطيع أن أضمّها إلى مجموعة الألف والنون والسين، لكني.. لكني.. هل تعلم ماذا أريد أن أقول.. أليس كذلك؟ أنت تعلم أنا.. ماذا؟ آ.. آ.. فرحت عندئذٍ لأني من الناس الذين ينسون.. ولا يتذكّرون.

          هل لاحظت الفارق الكبير بين «الينسون» و«يتذكرون»؟ لا شبه بينهما سوى بحرف الياء، هذا الحرف المنحرف قليل الأدب والتهذيب، والذي يتدخّل في كل أمور الناس وفي كل حالاتهم الخاصة والخصوصيّة، الياء التي لا همّ لها سوى أن تحمل علم الأنانية والمنفعة الخاصة والكذب علينا نحن الناس الذين.. الذين ماذا؟ ماذا؟ أريد أن أقول إن هذا الحرف قد وُضع في مؤخرة الأحرف الهجائيّة قصاصًا منه.

***

          وأنا واضع يدي اليسرى على خدّي الأيسر وكوع ذراعي على طاولة المقهى مفكّرًا، سمعت صوتًا ينادي، يقترب المنادي، نظرت إليه، كان ينظر إليّ، عيناه في عينيّ، قالت لي عيناه: لماذا لا تجيب؟ أناديك وأنت لا تجيب.. ما بك؟ هل فقدت سمعك؟ إذا فقدته.. هنا قاطعته: وإذا فقدت سمعي يا حليم؟ قاطعني بدوره: حليم.. أين حليم؟ أنا حليم؟ أصبح اسمي حليم؟ نسيت اسمي؟ أم أنك تهزأ بي؟.. حليم قال حليم.. يه يه يه؟ تذكّرت عندئذٍ أني..

          لا.. لا.. لم أتذكّر شيئًا.. لكن يدي نزلت من على رأسي وعاد ذراعي إلى مكانه وبَعدت عن «رودان» وعن «شوقي» وعدت إلى ذاتي.. إلى المدعو.. نسيت.. أنا.. مَن أنا؟ اسمي.. يا هو.. يا عالم.. اسمي!

          فجأة عادت الابتسامة إليّ فتذكّرت أني من الناس الذين ينسون ولا يشربون سوى اليانسون.

          عندما رأى المنادي.. حليم.. ابتسامتي وفرحي، رمى نظرة عليّ كمن يرمي حجرة، قال وهو يدير إليّ ظهره: مجنون.

 

 

أمين الباشا