زعماء الأغْنية العربيّة يُنشدون في أعياد الكويت

زعماء الأغْنية العربيّة يُنشدون في أعياد الكويت
        

          لم يكنْ كبار الأغنية العربيّة وزعماؤها في النصف الثاني من القرن العشرين بعيدين عن الأحداث العربية الكبرى، كانت إبداعاتهم - أشعارًا وألحانًا وأداءً - تقف في مقدّمة الصفوف أسلحةً على خطّ النّار، وزغاريد وأهازيج في أفراح الانتصار. لم تكن الأغنية الوطنيّة نوعًا من الترفيه أو التسلية أو الابتزاز، كان «الحضور القومي» يملأ الكيان ويطرّز الخيال بالآمال لأمّةٍ عربيّةٍ عزيزة، وكان «الوطن» يعني الخريطة بكاملها من المحيط إلى الخليج، ولذلك كان الشعر أسرع ردّ فعلٍ في كلّ حدثٍ، وما الأغنية إلا الشعر عندما يتحوّل إلى عملٍ غنائيٍّ، لينتقل من سجن الأوراق التي تنتظر القارئ على أحرّ من الجمر، إلى الفضاء الطلق عبر الأثير كنغماتٍ جميلةٍ تصافح الآذان بلا ترتيبٍ أو استئذانٍ، ويصبح الديوان المسموع الأسرع وصولاً من الديوان المقروء آلاف المرّات.

          في أفراح الكويت بعيد الاستقلال، وعلى مدار سنواتٍ متتاليةٍ، كان كلّ مطربي العروبة، كبارًا وصغارًا، يملأون ليالي الكويت بأغنياتهم التي تؤرّخ للاستقلال الذي جاء تتويجًا لتضحيات الأجداد، وبالرّغم من الزغاريد والموسيقى الراقصة المرحة، فإنّ صورة البطولة لم تغبْ عن الإطار، وكانت «العروبة» هي الحضن الذي يضمّ الجميع بالعدل والمساواة بلا تفرقةٍ بين كويتي وشامي ومصري ومغاربي، وجاء الجميع بلا استثناءٍ ليشاركوا ويقولوا كلمتهم.

          وإذا كان من الصعب أنْ نتوقّف مع كلّ الأعمال التي طرّزت ليالي الكويت، فلتكن الوقفة مع زعماء الأغنية العربيّة في ذلك الوقت، فهم رأس الهرم الغنائي، شعرًا ولحنًا وأداءً، ولنحاولْ أنْ نرى كيف كانوا يفرحون، وكيف كانوا ينظرون إلى «عروبتنا»؟

          سنبدأ بالعندليب الأسمر عبدالحليم حافظ، سفير الحبّ والوطنية أينما حلّ، ثمّ جارة القمر فيروز التي رشقت في كلّ ذاكرةٍ روضةً من المعاني، ثمّ لحن الخلود المتعدد اللانهائي فريد الأطرش، بعده نصعد مع موسيقار الأجيال محمد عبدالوهّاب، قبل أنْ نقضي فاصل الختام مع أسطورة الغناء التي يصعب حصرها، سيّدة الغناء العربيّ .. أمّ كلثوم.

عبدالحليم حافظ

          لن نكون مبالغين إذا قلنا إنّ من أبدع الأغنيات وأصدقها ما قدّمه عبدالحليم حافظ لأعياد الكويت، كان عبدالحليم محبًا وصديقًا للشعب الكويتي، وكان عندما يغنّي، ينصهر صدقه في أدائه، وقد طيّرتني ثلاثيته الخاصة بالمناسبة الكبرى في بلده العربيّ، الكويت، ولن نتعرّض - بالطبع - للأغنيات الأخرى التي غنّاها في الكويت، فنحن معنيّون هنا بالأعمال الوطنيّة.

          غنّى عبدالحليم للكويت ثلاث أغنياتٍ، كلّها بالزّجل، أو بالمصريّة القاهريّة الدارجة، وجاءت كلّها بألحان الموسيقار المبدع كمال الطويل، بينما جاءت الكلمات لاثنين من أعمدة الأغنية العربيّة في النصف الثاني من القرن العشرين، وهما محسن الخيّاط بأغنية «ليالي العيد» المدهشة، ومحمد حمزة بأغنيتين هما «م الجهرا للسالميّة»، «خدني معاك يا هوا».

          أقول «ليالي العيد» المدهشة، إذ وجدتني في حفل زفافٍ أسطوريٍّ، يجتمع فيه العاطفي بالشعبي بالقومي الذي يعي خطورة رسالة الأغنية، وكان الشاعر محسن الخياط شامخًا ـ كعادته ـ كأحد العروبيّين المؤمنين بقوميّتنا، المدافعين عنها، فجاءتْ كلماته من صميم إحساسه بلا اصْطناعٍ أو افتعال، أمّا كمال الطويل فقد أخذ الكلمات وصنع منها ليلة عيدٍ بالفعل، ولم يكن عبدالحليم بأقلّ من الشاعر أو الملحّن أو المناسبة. وحتى لا يحدث نوعٌ من اللبس، لا يفوتنا أن نشير إلى أنّ عبدالحليم قد غنّى «ليالي العيد» (أخرى) للمغرب الشقيق، بكلماتٍ لمحمّد حمزة، وألحان بليغ حمدي.

          «ليالي العيد» (الكويت)، جاء سيناريو الأغنية فيما يشبه حفل زفافٍ في موكبٍ مهيبٍ، سيرًا على الأقدام، أحسن فيه كمال الطويل بالبدء بكورال الأطفال، ناثرًا مسحةً من البياض والنقاء والبهجة البريئة، مستخدمًا مفردات موسيقى الأفراح الشعبيّة، عاونه في ذلك التقطيع العروضي الذي يدور حول حرف الدّال كحلقاتٍ تتلامس وتدور حول نفسها:

العيد العيدْ /الله ع العيدْ / وليالي العيدْ
لياليهْ زغاريدْ / وشموعْ بتقيدْ / لقريبْ وبْعيدْ

          ثمّ يأتي عبدالحليم هادئًا مبتهجًا:

وكلّ عامْ ورا عامْ / تتحقّق الأحلامْ / لأمّة الإسلامْ
وف أسعد الأوقاتْ / بنشرب الشرباتْ / ف محبّة الإخوانْ

          ويلعبها كمال الطويل كما ينبغي أن يكون، فمع انتهاء عبدالحليم من «ميم» الإسلامْ في البيت الأوّل، تجيء سلطنةٌ جماعيّةٌ من كورال الرجال: آآآآآآآآآآآآآه، ومع نهاية «نون» الإخوانْ في البيت الثاني، تجيء زغرودةٌ «صولو» يعود عبدالحليم بعدها للتسليم لكورال الأطفال الذي يحدث تغييرًا في البيت الثاني من المذهب فيصبح:

العيد العيدْ /الله ع العيدْ / وليالي العيدْ
في ليالي العيدْ / الإيدْ في الإيدْ / تقطفْ عناقيدْ.

          ويعود عبدالحليم لترديد البيتين، ولكنْ بطعمٍ آخر، ليتمّ المزج في نهاية البيت الثاني بين كورال الرجال والزغرودة الرائعة ليخرج من تحتها صوت رجلٍ متحمّسٍ (على هيئة أولاد البلد في أفراحنا الشعبيّة) وعلى طريقة دفْع «النقوط» وإعلان التحيّة والتهاني ، فيردّد - بحماسٍ شديدٍ - وخلفه الكورال (رجال ونساء وأطفال) من دون موسيقى:

العرب ......
كلّ العرب .......
بيهنّوا الكويت ......
وشعب الكويت ......
بعيد الكويت .......

          ثمّ.. زغرودةٌ طويلةٌ تعيد إشعال الموسيقى المصحوبة بتصفيقٍ إيقاعيٍّ، يسلّم لعبدالحليم الممتلئ بهجةً وفرحًا فيغنّي ويعيد ويردّد الكورال بحماسٍ مطعّمٍ بالزغاريد:

واخدانا فين يا فرحة فين واخدانا؟
قالت تعالوا على الكويت ويّانا

          ثمّ يطرح حليم السؤال ليؤكّد المعني ويعيد ترسيخه:

واخدانا فين يا فرحة ومعدّيّة؟
قالت لي على الأحبابْ يا صحْبة هنيّة
وان كان على السّكّة قريبة عليّا
والموجْ صاحبنا والنجومْ عارفانا

          ومن عمق الزّغرودة تشْتعل الموسيقى لنرتفع إلى ذروةٍ أخرى في دوّامة الأسئلة التي هي إجاباتٌ وحقائق:

واخدانا فين قالت تعالوا.. عزّ الهنا،
والعيد في عزّ جماله
عيد الكويت كلّ العرب جيّه له،
واللي ما جاش باعت سلامه أمانة

          فـ.. ترديد جماعي، يهيّئ المشهد لعبدالحليم ليرسم لوحةً بالغة الروعة، يظلّ الترديد الجماعيّ إطارًا لها:

اللمّة حلوة ياللا يا حبايبنا
ياللا نزوّق في الفرحْ بقلوبنا
أهل الكويت مش غرْبْ دولْ قرايبنا
ويومْ هناهم يبقى كلّ منانا

          وهنا يكمن بيت القصيد، فقد أصاب الشاعر في رسم هذه الصورة المثلى، إذ تأتي «اللمّة» بمعنى «الوحدة» والاجتماع على هدفٍ واحدٍ أو فرحةٍ واحدة، ويصل التوفيق إلى ذروته في استخدام كلمة «قرايب» التي تؤكّد صلة الدّم أو الرّحم أو القربى، وكان من الممكن أن يقول «حبايب»، ويمرّ الأمر بسلامٍ، كتابةً ولحنًا وغناءً، لكنّ الوعي بما يجب أنْ يكون، وضع الكلمة الأصدق في ذهن الشاعر، ومن ثمّ في الأغنية، ولم يتركْ محسن الخيّاط لوحته البديعة من دون تثبيت هذا المعنى، بل واصل «تحبيره» وتعميقه، ما دفع كمال الطويل إلى المرور إلى المشهد التالي من خلال سحبة كمنجة وتنهيدة ناي طولهما عشر ثوانٍ، ويغنّي حليم فيما يشبه الموّال على خلفيّةٍ موسيقيّةٍ لا نكاد نشعر بها، كأنّه يلقي البيان أو الخلاصة التي تحمل الرسالة العظمى التي تركها الأجداد دستورًا لنا، وبعد أنْ يدرك أنّه أوصلها كاملةً، يعود لغناء المذهب، ويسلّم مرّةً أخرى لكورال الأطفال الذي يواصل الترديد في شكلٍ دائريٍّ مطعّمٍ بالزغاريد والتصفيق الإيقاعي، وكأنّ كمال الطويل أراد أنْ يجعل البراءة إطارًا دائريًّا لهذه التحفة التي قالت كلّ شيءٍ، وكانت بحقٍّ أغنية العيد التي حملتْ في طيّاتها كلّ ألوان الفرحة، وكلّ معاني الأخوّة، وكلّ ما يجب أنْ نكونه:

إحنا قرايب والنبي وأهليّة
وأبونا عربي وأمنّا عربيّة
وجدودْنا ـ أهل المجد ـ فاتوا وصيّة
قالوا لنا إيدْ على إيدْ ح نعلا مكانة
و..........
العيد العيد / ألله ع العيد
وليالي العيد / لياليه زغاريد
وشموع بتقيد / لقريب وبعيد

          ولا أملك، كالعادة، إلا الاندهاش والتصفيق الحاد.

«خدني معاك»

          وهي إحدى أغنيتين كتبهما محمد حمزة (آخر الراحلين ممن نتوقّف معهم)، ولحّنهما كمال الطويل، وهي أيضًا من روائع كمال الطويل وحليم، وفي يقيني أن الطويل في هذه الألحان الثلاثة قد أوتي مقدرةً فائقةً على بثّ الفرحة في عظام الآلات الموسيقيّة وليس في صوت العندليب فقط .. الطويل يوصل نهرًا من البهجة من أعماق الريف المصريّ إلى قلب الكويت:

خدني معاك يا هوا يابو الجناحات
خلّيني أروح لأحبابي واقول سلامات
يا سلام يا سلام يا هوا.. عادت الأيام
وح نسهر تاني مع القمر، وح نحكي كلام
واقيد النور عناقيد.. لأحبابي في يوم العيد
يا عمري.. يا بعْد عمري
يا قلبي يا بعد قلبي
يا اهل الكويت
دا عيدكو عيدنا كلّنا

          مظاهرة حبّ في موجاتٍ متتاليةٍ تملأ الأرض والفضاء معًا:

مشتاق .. والشوق دوّاب
والصبر عملته حجابْ
وبدرت السكة آمال
في طريق أغلى الأحباب
يا ريت يا نسايم تاخديني
على بلد الحب ترسّيني
واقيد النور عناقيد
لأحبابي في يوم العيد
......

          ويأتي مقطع الختام نابضًا عذبًا، يلعب فيه الشاعر ألعابًا لغويّةً بديعة، فيأتي بكلمة «الصباح» لتعطي معنىً مباشرًا وآخر عميقًا، ثمّ يرشق في النهاية الرسالة العظمى التي رسمها محسن الخياط في «ليالي العيد»، لكأنّ القلوب كلّها تنبض نبضًا واحدًا وإنْ تباعدت المسافات:

يا قلوب تحبّ الصباح
وقلوب ماليها السماح
وعيون بتنظر بعيد
تحيي أملها الجديد
واحنا عرب كلّنا
الفرح بيلمّنا
والجرح بيضمّنا
تعيشي ع الدوام
يا غنوة للسلام
واقيد النور عناقيد عناقيد
لأحبابي في يوم العيد
....... إلخ

          وقد أصاب الطويل كثيرًا عندما نثر أصوات الكورال في مواضع كثيرةٍ بالأغنية، وفي ترديد أبياتٍ بعينها، وكأنها - بلغة اليوم - رسائل قصيرة «sms» تمهّد لبيت القصيد الذي هو المقطع / الكوبليه الأخير في هذه الأغرودة الجميلة.

«م الجهرا للسالميّة»

          أما المظاهرة الثانية للثلاثي حمزة - الطويل - حليم، فهي «م الجهرا للسالميّة»، وللوهلة الأولى يظنّ المستمع / القارئ / المتلقّي أنّ النصّ مغْلقٌ على «الجغرافيا الكويتية»، ولكن فور الدخول إلى أعتاب الكوبليه الأوّل نجد أنفسنا أمام «فرحة عربيّة»، ترتدي فيها العروبة ثوب الزفاف وتمضي محمولةً في القلوب والعيون وفوق الرءوس:

م الجهرا للسالميّة.. رافعين علم الحريّة
رايحة قلوب وجايّه قلوب .. تهنّي بعيد الحريّة
كويتيّة ... كويتيّة

          عبدالحليم يقود المظاهرة ويميل بالأداء إلى اللهجة الكويتيّة، فينطق الجيم الخليجية لا القاهريّة، ولكن القاف تفلت منه وتظلّ على شكلها القاهريّ، غير أنّ هذا التطعيم يخرج منه لافتًا للانتباه ومثيرًا للإحساس بطرافة المحاولة.

          يجيء الكوبليه الأوّل مواصلاً تمجيد القوميّة العربيّة، متغنّيًا بالعروبة، فيثير فينا الشجن الممزوج بالحسرة على حال «العروبة» وما آل إليه الإحساس بها اليوم:

وحياةْ الفرح اللي جمعنا .. وحياةْ العيدْ
وحياة عروبتنا اللي ح تكبر على طول وتزيدْ
أنا عربي باغنّي لأفراحكْ وباقول وباعيدْ
طول ما احنا حوالين بعضينا والإيد في الإيدْ
ح تبان همّتنا وقوّتنا .. والدنيا ح تسمع كلْمتنا
وتقول ويّانا ف فرحتنا .. يا فرحتنا
م الجهرا للسالميّة ......

          وينقلنا الطويل إلى زفّة للعروسة على الإيقاع التقليدي الشهير:

الله أكبر يا كويت يا عروسة
الله الله
الله أكبر م العيون محروسة
الله الله
الله يزيدك مجد فوق أمجادك
الله يكتّر يا كويت أعيادك
الله يصونك من عيون حسّادك
وبإيد شبابك تبني مجد بلادك
وتبان همّتنا وقوّتنا
والدنيا تسمع كلمتنا
وتقول ويّانا ف فرحتنا يا فرحتنا
م الجهرا للسالميّة .....

          ولا أراني مغاليًا إذا قلت إنّ ثلاثيّة حليم تقف جنبًا إلى جنبٍ مع قصيدتي أمّ كلثوم، ففي هذه الخماسيّة تألّق الصدق في شرايين الكلمات والألحان والأداء، وإنْ تفوّقت أمّ كلثوم بكونها صوتًا إعجازيًّا يجاوز الآفاق ولا يصمد أمامه صوتٌ آخر، لا عبدالحليم ولا سواه، فإنّ ما يشفع لعبدالحليم - هنا - هو الأفكار التي يغنّيها، ليست المشاركة فقط وإثبات الحضور، ولكن الرسائل والقيم التي تشبه الخيول في مضمار العروبة، وفوق ذلك صدق الأداء الذي جعلنا نرى روح عبدالحليم تنصهر في المعاني التي يؤديها، بل أوشكت أنْ أرى ضحكة روحه وهو يحاول أن يتقمّص اللهجة الكويتيّة بنوعٍ من الحبّ الطفوليّ البريء.

          ما أعظمهم، وما أعظم عروبتنا.

فيروز

          لم تدخلْ فيروز مدينةً عربيّةً إلا وغنّتْ لأهلها، وكأنها تحمل في يدها هديّةً تليق بمضيفيها، وتعدّ القصائد الفيروزيّة للدّول العربيّة من أرقى هدايا الأخوين منصور وعاصي الرحباني على صوتها الساحر لكلّ محبّيها في كلّ أرجاء وطننا الكبير.

          المعروف عن المدرسة الرّحبانيّة أنّ القصيدة / الأغنية تنتج بنظام «ورشة العمل»، أي يشترك الجميع في كلّ شيءٍ حتى النهاية، ولكن تبقى الإشارة إلى أنّ الأساس الشعريّ يتمثّل في منصور، بينما الأساس اللحني يميل ناحية عاصي، ونقف مع عملين لفيروز للكويت:

مرحبا عيد بلادي

          في هذا النّصّ نلمح الالتزام بالشكل العموديّ للقصيدة العربيّة، ونلمح حضورًا قويًّا لأطياف عدّة شعراء، على رأسهم حافظ إبراهيم، ومحمود حسن إسماعيل، ويجيء اللحن سلسًا بسيطًا، بالرّغم من وجود بعض الكلمات التي تحتاج إلى الرجوع إلى المعْجم لصعوبتها على المتلقّي العام، مثل «الظّبا» (جمع «ظبّة» وهي حدّ السيف والسنان، والنصل، والخنجر، وما إلى ذلك)، («نبا» (كَلّ وارتدّ):

مرحبًا عيد بلادي مرحبا
جئت فالأيّام زهرٌ وصبا
ضجّ في المشرق صوتٌ هاتفٌ
هنّئ العزّ بنا والعربا
...
أيّها السائل عن أمجادنا
نحن ما شئت سماحًا وإبا
في ربا الجهراء من تاريخنا
قصّةٌ خطّتْ مصيرًا مذْهبا
يوم عمّرناه سورًا عاليًا
من صهيل الخيل من وقع الظّبا
وحفظناها بلادًا حرّةً
لا نَبَتْ يومًا ولا السيف نبا
...
وطنٌ خيْرٌ وشعبٌ سيّدٌ
أنِفَتْ همّته أنْ يُغْلبا
قصدَ العلْياءَ موصولَ الخُطا
ما توانى، ما شكا، ما تعبا
أرضُنَا لم تعرف البغيَ ولا
عرفتْ أنجادُها مغْتصبا
يا بطولاتٍ هنا مخْصبةً
لا سنًا إلا إليك انتسبا

          أمّا القصيدة الأشهر فهي قصيدة «عيد الكويت»، والتي جاءتْ في تقطيعاتٍ وانتقالاتٍ عروضيّةٍ متفاوتةٍ، أتاحت للحن أنْ يفلت من الوقوع في كمين التكرار والنمطيّة، وجاءتْ الموسيقى متدفّقةٍ في ثراءٍ بالغٍ وكأنّها شلاّلٌ من بريق الماس الذي زاد من جماله ذلك العناق بين صوت فيروز وصوت الكورال:

العيد يروي ويروي سناها .. يلثُمُ منها المحيّا
غنِّ الكويت، وغنِّ عُلاها .. ويومها الوطنيّا
....
مدّ شراعٍ وشطٌّ يموجُ .. عليه تُبنَى البروج
يا ورْدةً طاب منها الأريج .. يا عطرها العربيّا
...
بين الكويت وأرض بلادي .. يا طيْبَهُ من وداد
نحن وإيّاكمو في الجهاد .. نبني المصير الأبيّا
...
وفي ربا الجهراءْ .. لو تنطق الأشياءْ
لأنشدتْ قصيدةً طويلةْ
عن الدماء تهدى .. إلى ترابٍ يفدى
عن امتشاق المجد والرّجولةْ
يوم صهيل الخيلْ
يقصف وجه الليلْ
يا قصّة الكويت والتّاريخ والبطولةْ
ليلة عيدٍ، وعيشٌ أمان، وموطنٌ عنفوان
أبْحِرْ وخُطّ العلا يا زمان
غدًا لنا عبقريّا
العيد يروي ويروي سناها
يلثم ........

          كان الشاعر ـ في القصيدتين ـ واعيًا بمعركة الجهراء (العاشر من أكتوبر 1920م)، وكأنّه يريد أنْ يقول إنّ العيد ليس وليد اليوم، ولكنه ثمرة كفاحٍ وتضحياتٍ على مرّ التاريخ، وأنّ الحاضر والمستقبل ليسا سوى البذور التي رواها الأجداد بدمائهم الطاهرة.

فريد الأطرش

          غنّى فريد الأطرش لأعياد الكويت ثلاث أغنيات، كلها من الزّجل، مع الشعراء حسين السيّد وعبدالجليل وهبة وفتحي قورة.

          كتب له حسين السيّد أغنية «أرض الكويت» التي نالت شهرتها بعنوان آخر هو «يا أرضنا يا أمّنا»، وهي تنويع على لحن «حبيب حياتنا كلّنا» التي غنّاها فريد للزعيم جمال عبدالناصر، كما عاد في ثلاث مرّاتٍ - بعد هذه - ليسكب كلماتٍ أخرى في اللحن (مع بعض التلوين الذي لا يخفي اللحن الأصلي)، فيغنّيها لأمير الكويت بعنوان «يا مرحبا يا كويتنا»، ثمّ يغنّيها للملك الحسن الثاني ملك المغرب بعنوان «يا مرحبا يا ميت هلا»، ويغنّيها للشيخ زايد بن سلطان آل نهيان بعنوان «يا ميت هلا».. يرحمهم الله جميعًا.

          الأغنية تكاد تكون مقسومةً إلى نصفين، في الأوّل يردّد الكورال بيتي الاستهلال بعد كلّ مقطعٍ، وفي النصــف الــــثاني يردّد بيتين آخرين:

يا أرضنا يا أمّنا .. حبّك بيجري ف دمّنا
عهد وإيمانْ .. خلاّ الزمانْ .. شاهد على أيّامنا
...
يومْ فجر عيدكْ يومْ مجيدْ
ذكرى لطلعةْ يومْ جديدْ
سبقتْ بشايره كلّ عيدْ
رفرفْ على أمجادنا
...
عشتي وعشنا للخلودْ
ما دمنا في أرضكْ جنودْ
نحمي حماكي للوجودْ
وتجودي من أرواحنا
...
يا أمّنا إحْنا البذورْ
للمجد والعزم الجسورْ
في الخير بنفرشْها زهورْ
في الشّرّ لا صاحبْ لنا
...

          ثمّ نصل إلى رأس الفكرة، وهي أرض الكويت، ولذلك نجد فريد قد جعل منها منحنى بارزًا في اللحن والأداء، وجعل الكورال يردّد البيتين (أرض الكويت يا بلادي.. إلخ) بعد كلّ مقطعٍ، ويمزج الأداء بتصفيقٍ إيقاعيٍّ تصحبه الزغاريد (وكأنها صارت قانونًا عندهم جميعًا)، كما لا ينسى التركيز على «الشيخ العود» أي لقب أمير الكويت الشيخ عبدالله السالم الصباح الذي نالت الكويت استقلالها في عهده:

أرض الكويت يا بلادي
يا داري ودار أجدادي
أفديكي بروحي وبكره
أفديكي بعمر ولادي
...
بتعيشي حرّة أبيّةْ
منصورة بنصرة قويّةْ
والنصر ايْظلّ خناجرْ
تدمي صدور الأعادي
...
سيري وابني عمرانكْ
بشيوخ وشباب عربانكْ
وامشي للمجد العالي
نجمك في السما بينادي
...
علّي البنيان بكتافي
شقّي الوديان لا تخافي
الشيخ العودْ بعيونه
سهرانة من وادي لوادي
...
أقسمنا نحمي حمانا
ونصون العهد أمانة
قسمًا بالله سبحانه
ورسول الله الهادي

          وبالرغم من كونها مصبوبةً في لحنٍ سابقٍ، إلا أنّ المتلقّي العادي لا يشعر بذلك، وليظلّ العمل كبيرًا وعميقًا.

يا مرحبا يا كويتنا

          في هذه المرّة جاء التنويع على اللحن بكلماتٍ لعبدالجليل وهــبة، وجاء الأداء تبادليًّا بين الكورال وفريد الأطرش، ونترك لكم النصّ بلا تعليق:

يا مرْحبا .. يا كويتنا يا مرْحبا
يا مرْحبا .. بأميرنا يا مرْحبا
...
يا كْويتنا نحنا فداك
بقلوبنا .. وأرواحنا
وبعيوننا نحمي حماك
لما يضيع سلاحنا
...
بجهادنا بين الأمم
صنّا علم أمجادنا
نحنا عرب نرعى الذمم
ونحمي حدود بلادنا
...
حالفين سوا يوم المصير
شيوخنا وشبابنا
يوم الوغى انْ دقّ النفير
نمشي وراك يا أميرنا
...
يا كويتنا يا بو الهمم محبتك
يا كويتنا .. ربيتنا
الله يديمك للعرب كل العرب بيت العرب والمحبة بيتنا
بلدي الغالي يا بلدي
بروحي أصونك يا بلدي
بلدي.. بلد الوطنية
بلد النور والحرية
بلد العزة القومية
والشهامة يا بلدي
.....
باسم الله يا كويت

          ربّما تكون هذه الأغنية من أهمّ أغنيات الفرحة التي رشقها فريد الأطرش في ليالي العرس الكويتي، وهي من كلمات أحد أهمّ شعراء مسيرته وهو الشاعر فتحي قورة، صاحب الإنتاج الغزير الذي يقدّر بستة آلاف أغنية.

          الأغنية أيضًا كأنّها نصفان، لكلّ منهما مذهبٌ يردده الكورال، وكأننا أمام الأغنية الأولى لفريد، حتى الزغاريد والتصفيق الإيقاعي المموسق وكلّ أطياف الخلفيّة اللحنيّة:

بسم اللهْ .. بسم اللهْ .. بسم الله
بسم اللهْ والشعب العربي
ف أكرمْ أرضْ وأكرمْ بيت
طلع الفجر يودّعْ فجرْ
وهلّت أعيادكْ يا كويتْ
...
باسم شيوخْ في سبيلك جاهدوا
ووهبوا حياتهم لله وحده
باسم شباب في الوادي اتحدوا
يحموا كيان المجد وعهده
طلع الفجر يودّع فجر و.....
...
باسم العدل ورايته العالية
فوق سنة رايحة وميتْ سنة جيّه
باسم الأرض الحرّة الغالية
أرض بتبني الشّهر ف ثانية
طلع الفجر .....

          بدءًا من هنا، يتغيّر الأداء وكأننا دخلنا أغنيةً أخرى بلا وعي، يرتفع النبض قليلاً، ويعلو الهتاف، وتلوح صورة «الشيخ العود» في صدارة المشهد، بما له من صفاتٍ حميدةٍ على رأسها العدل، ثمّ تأتي الدعوة إلى العمل والاتحاد خلف هذه القيادة بعزمٍ وقوةٍ، فالأعداء متربّصون لا ينامون:

والله وياما الخير ح يجودْ
عزّة وفرحةْ ما لها حدودْ
هنّوا الشعبْ بفرحة عيده
هنّوا العيد بالشيخ العودْ
...
حاكمْ فرض العدلْ إمامْ
صلّى وراهْ الحكمْ وصامْ
واللي يصونْ عهْد الإسلامْ
لازم الشعب ف عهده يْسودْ
...
عيد الشعب يا أجمل عيدْ
كلّ ملامحكْ فجرْ جديدْ
مش ح تجيلكْ يوم تجاعيدْ
طول ما شباب الرّوح موجودْ
...
والله وسيروا شيوخْ وشبابْ
عزم الخطوة يشقّ سحابْ
سيف العزم دا تار غلابْ
يخشاه كلّ عدوّ حسودْ

محمّد عبدالوهّاب

          شارك موسيقار الأجيال محمد عبدالوهّاب في أفراح الكويت بعملين، أحدهما بالفصحى لكامل الشناوي (1962م)، والآخر بالزجل المصريّ لأحمد شفيق كامل (1964م)، وقد استطاع أحمد شفيق كامل بكلماتٍ سهلةٍ بسيطةٍ أنْ يهزم النصّ الفصيح لكامل الشناوي بالضربة القاضية، إذ جاءت القصيدة الفصيحة تقريريّةً لا تحمل صورةً شعريّةً نابضةً، ولم تزد - في نظري - عن كونها مقالاً موزونًا جاهد عبدالوهّاب في تلحينه وغنائه.

          القصيدة بعنوان «بلدي أنت»، لكنّ كثيرين ينادونها بـ «كلّ أرضٍ عربيّة»، ويناديها آخرون بـ«الكويت العربي»، والبعض يعطونها تاءً مربوطةً لتكون «الكويت العربيّة»:

كلّ أرضٍ عربيّةْ .. هي أرضي واتّجاهي وطريقي
كلّ أحلامي الأبيّةْ .. هي حلمي وانتفاضات عروقي
فالكويت المستقلّ العربيّ بلدي
وهو روحي .. ودمي .. والدي وولدي
وله حبّي وآمالي وعقلي ويدي
تطلع الشمس على جبهته ذهبًا يلثم نبْع الذّهب
شعبه حرٌّ فلا قيد له غير أخلاق كريمٍ وأبي
أرضه تزهو بما فيها وما فوقها من معانٍ عجب
فالكويت المسْتقلّ ......
المساواة شعارٌ قائمٌ بين شيخ وفتاةٍ وصبي
ليس في أبنائها أمّيّةٌ لا، ولا يشكون طعم السّغب
......

          يحاول عبدالوهّاب أن يبثّ الرّوح في الكلمات، ويعاني كثيرًا يبدو أنّه تحمّل كثيرًا إلى أنْ وصل إلى مقطع الختام، فانتفضت موسيقاه فجأةً حتى نوشك أنْ نسمع أمّ كلثوم وهي تردّد المقطع الأخير من «إنت الحبّ» التي ستغنيها من ألحانه في (1965م) عندما تقول: «إنت الأمل اللي احيا بنوره ....»، حتى أداء عبدالوهاب وطعم صوته يتغيّران:

بلدي أنت فهل تعرفني؟ أنا إنسانٌ عريقٌ عربي
بلد العرْب جميعًا عشْت لي يا بلدي
عشْت للدّين وللدنيا رفيع العمد
عشْت طول الأبد، عشْت بعد الأبد
والكويت المسْتقلّ .....

          الغريب أنّ عبدالوهّاب لحّن لأمّ كلثوم بعد عامين - أي في 1964م - قصيدةً من شعر كامل الشناوي، لم يكتبْ لها غيرها، هي «على باب مصر» تنتمي أيضًا إلى ما نحن بصدده الآن، أي ما أسمّيه «المقالات الموزونة»، وهذا يوضّح لنا الفرق بين ملحّنٍ وآخر، وكيف يستطيع عملاقٌ مثل عبدالوهّاب أنْ «يصنع من الفسيخ شربات»، كما يقول المصريّون.

يا كويت

          ربّما وجد عبدالوهّاب في هذا الزّجل البسيط ما لم يجدْه في القصيدة سالفة الذّكر، فلحّن وغنّى وأبدع، وأعطى الكورال الفرصة لإضفاء الحسّ العاطفي على الحالة بكاملها، ونثر عبدالوهّاب جملة «يا كويت» على مدار اللحن، ما جعلها نقطة ارتكازٍ تدور حولها الأفكار، فتبدأ منها وتنتهي إليها:

مع نصر الأمّة العربيّةْ (يا كويت)
تسلمي وتعيشي ف حريّةْ (يا كويت)
وتزيد مقداركْ .. همّةْ أحراركْ
وتعيشي يا كويت حرّة أبيّةْ
....

          لم يتردّد الشاعر أحمد شفيق كامل في استعارة الأمل من أخيه حسين السيّد، فجاء بـ«الجيل الصّاعد» ليكون الطريق إلى الغد بكلّ ما يحمل من آمالٍ وطموحاتٍ، وهذا ما دعا عبدالوهّاب إلى التركيز على هذا الأمل في صيغة النداء والالتماس:

غنّيتْ ولْعزّةْ شعبكْ (يا كويت) بالرّوحْ غنّيتْ
غنّيتْ وانا بالمحْ مجدكْ في شبابهْ (راجعْ يا كويتْ)
افتحي للنّور، للحريّة، للجيل الصاعدْ
يبني العمرانْ والمدنيّةْ .. للشّعب الخالدْ
وتْزيْدْ مقداركْ .. همّةْ أحراركْ
و.......

          ثمّ تأتي القيمة العظمى التي ألححنا عليها كثيرًا في هذه الوقفة مع هذه الأعمال الخالدة، ألا وهي «العروبة»، ويشاء القدر أنْ يكون التركيز عليها في الهزيع الأخير من الأغنية، ما يعطي صداها براحًا أوسع وعمرًا أطول، والأجمل أنّ العروبة تجيء معرّفةً بالإضافة إلى ضمير الجمع «نا» لتكون «عروبتنا»، كما يستمرّ التركيز على ربط الماضي بالحاضر بالمستقبل، يظلّ ما بناه الأجداد شامخًا بنا، ويظلّ الأمل دائمًا في «الجيل الصاعد» الذي سيرث المجد والقيم والمسئوليّة:

مع جيشْ عروبتنا الثايرْ يا كويت علّي الأمجادْ
ونعيدْ للنصر بشايرْ ونرجّعْ عزّ الأجدادْ
عيشي حرّة ورايتكْ في العالي بالشّعب الخالدْ
دا النصر حليفكْ طوّالي في الجيل الصاعدْ
وتزيدْ مقداركْ ... همّةْ أحراركْ
و.....

          ويعود عبدالوهّاب ـ في النهاية ـ إلى غناء المذهب في تشكيلٍ بديعٍ مع الكورال، وكأنّه يريد للأغنية ألا تكفّ عن الدّوران، فكلّما انتهت تبدأ من جديدٍ من تلقاء نفسها.

أمّ كلثوم

          غنّت أمّ كلثوم قصيدتين للكويت، كلتاهما من أشعار أحمد مشاري العدواني، وألحان رياض السنباطي، الأولى «يا دارنا يا دار» (مارس 1964م)، والأخرى «أرض الجدود» (مارس 1966م)، والأغنيتان تسجيلان إذاعيّان، أيّ ستوديو وليس في حفلٍ عام.

يا دارنا يا دار

          القصيدة - في الأصل - تقع في أحد عشر مقطعًا، غنّتْ أمّ كلثوم ستّة مقاطع منها، مع بعض التعديلات في الكلمات والمواضع.

          المقاطع المغــــنّاة هي الأوّل فالـــثاني فالحادي عشر فالسادس فالــسابع فالعــاشر. كان السنباطي موفّقًا إلى حدٍّ بعــيدٍ فـــي أنْ يـــبدأ الغناء بأداء الكــورال للبـــيــــت الأوّل (مع الإعادات) ولمْ يشأْ أنْ يبدأ بصوت أمّ كلــــثوم، فالكورال تعبيرٌ عن الجماعة / الشعب / الأمـــّة بالـــكامل:

يادارنا يا دارْ
يا منْبت الأحرارْ

          ثمّ يأتي صوت أمّ كلثوم مفْعمًا بالشجن والإعزاز معًا، فتشعر أنّها تغنّي لوليدها الأوّل وهو على صدرها، ويأبى السنباطي أنْ يترك لها المشهد وحدها، ولكنّه يصرّ على أنْ يطرّز الصورة بالأصوات الجماعيّة لتهتزّ الأرض مع الغناء، كأننا في مسيرةٍ من قلب العاصمة باتّجاه الخليج، في موكب عرسٍ مطرّزٍ بالورد والبهجة والأمل:

يا نجمةً للسنا
على جبين المنى
السّحر لمّا دنا
غنّى لها الأشعارْ
يا دارنا يا دارْ

          ويأتي المقطع الثاني في الغناء، أو الكوبليه الأوّل بعد المذهب، ليشهد أوّل لبسٍ في الأداء:

التّبر في برّها
والدّرّ في بحرها
والحبّ في صدرها
نبعٌ من الأعْطارْ

          فقد جاء الغناء ذائبًا في الموسيقى، فالتبس الأمر على البعض إذْ ظنّوا أنّها تقول: «الآثارْ» بدلاً من «الأعْطارْ»، وقالوا إنّها أخطأتْ، إذ كان الصواب أنْ تقول: «الإيثارْ» وليس «الآثارْ»، وهذا ما دفع أصواتًا عديدةً إلى غنائها «الإيثارْ» وليس «الأعْطارْ»، وفي جميع الحالات لم يصلْ أحدٌ إلى أداء أمّ كلثوم أو موازاة إحساسها بما تؤدّي، فجاء غناء القصيدة بعدها، سواء من الأصوات الفرديّة أو فرق الموسيقى العربيّة بمصر والكويت، ليرشق المزيد من الأخطاء في روح القصيدة، إضافةً إلى الأداء الآلي البارد الذي يجيء تحت وطأة الإحساس بضخامة أمّ كلثوم .

          كان العناق ـ في المقطع أعلاه ـ بين أمّ كلثوم والكورال فوق الوصف، كان صوت أمّ كلثوم يلمع كنهرٍ من الذهب، بينما يأتي صوت الكورال كشذراتٍ متناثرةٍ على ضفاف هذا الصوت الإعجازي الذي لا يكفّ عن التجدّد كلما استمعنا إليه:

يا نفحةً من أريجْ
مسّتْ عروس الخليجْ
فجرٌ وروضٌ بهيجْ
ما أسعد الأطيارْ

          أدعوكم إلى الاستماع إليها وهي تردّد وتكرّر الشطر الثالث:

فجرٌ
وروضٌ
بهيجْ

          وشاهدوا المعاني في صوتها، عددٌ من الأحرف لا يتجاوز عدد أصابع اليدين، تحوّله أمّ كلثوم إلى كونٍ يملأ عليك الخيال! السنباطي يلحّن الصور والمعاني - كما أسلفنا، وكما سنكرّر - ثمّ تتكفّل أمّ كلثوم بالمهمّة الكبرى وهي أنْ تجعلنا نرى بآذاننا!

نعمْ عشقنا ثراك
نعمْ، وعشْنا فداك
وكلّنا في هواك
حامي الحمى والجارْ

          لا تقف أمّ كلثوم بقوّةٍ على كاف الخطاب المبنيّة على الكسر، وهو الصواب فالخطاب للأنثى (مجازا، فالضمير يعود على «دارنا»)، فذابت الكسرة على لسان أمّ كلثوم فأسقطها الآخرون من الغناء ووقفوا عليها بالسكون، ولم يعانوا أو يحاولوا إتقان عملهم كما كانت أمّ كلثوم تعاني وتتفانى! والأخطر من ذلك أنّ آخرين قفزوا بالغناء إلى ضمير الغائب المذكّر، فأصبحتْ أواخر الأشطر: ثراه، فداه، هواه! وتحوّل: «حامي الحمى والجار» إلى «حامي الحمى والدّار» في استسهالٍ واستهتارٍ ليس لهما مثيل!

          يقف السنباطي بموسيقاه وقفةً تنبيهيّةًٍ فيما يشبه المارشات العسكريّة، لتأتي أمّ كلثوم تعلن الخبر العظيم:

قالوا الكويت استقلّ
وبدرُهُ قدْ كملْ
اليوم نِلْنا الأملْ
ودانت الأقدارْ

          حدث تعديلٌ جديدٌ في البيت الثاني - هنا -بشطريه، إذ كان في الأصل:

اليوم طاب العملْ
وطابت الأخْطارْ

          وجاء التعديل مصيبًا للمقدار (كما يقول أهل البيان)، وجعل الغناء سلسًا سهلاً، وكان السنباطي بارعًا عندما قفز بالأداء الغنائي من فوق راء «الأقدارْ» الساكنة إلى:

في ظلّ شمس الصّباحْ
زعيمِنا في الكفاحْ
إلى مراقي النجاحْ
أميرَنا المغْوارْ

          ويكون الشطر الثاني: «زعيمنا في الكفاحْ» من نصيب الكورال، فكأنّه هتافٌ جماعيٌّ من شعب الكويت، ومن آخر تكرارٍ تختطف أمّ كلثوم النداء إلى الأعلى والأمام لنصل إلى ذروة الغناء في الثواني الأخيرة من النصّ:

إلى مراقي النجاحْ
أميرنا المغوارْ

          تتحوّل «ألف المغوارْ» إلى فوّهةٍ من ضوءٍ تصّاعد إلى أعلى بالرّغم من الوقوف بعدها على الرّاء السّاكنة، ولذلك أتبعها السنباطي المتألق باثنتين وخمسين ثانيةً من الموسيقى تبدأ من تحت نهايات ألف «المغوارْ» وتستمرّ معنا خمسين ثانيةً كاملةً وكأنّها بقايا العطر الذي يرفض أنْ يغادر الذاكرة.

          الكثيرون أساءوا إلى هذا العمل الشاهق بدعوى «الغناء للوطن»، وهم لا يدركون أنّهم يثقبون هذه النفائس ويسيلون دماءها على قارعة الزّمن، مرّةً بتغيير ضمير الخطاب إلى المتكلّم «غنّى لنا الأشعار» بدلاً من «غنّى لها»، ومرّةً بجعل المخاطب المذكّر الغائب، وثالثةً باختراع كلماتٍ لم تكنْ موجودةً من الأصل، ورابعةً بأخطاء لغويّةٍ فاضحةٍ في مقطع:

في ظلّ شمس الصباحْ
........

          فبعضهم يرفع «زعيمنا»، «أميرنا»، والكلمة الأولى واجبة الجرّ لكونها تابعًا لمجرور «شمس الصّباح»، والكلمة الأخرى واجبة النصب لكونها منادى ـ بأداة نداءٍ مقدّرة ـ مضافًا إلى ضمير المتكلّمين «نا»، وكأنّ الجموع، بعد أنْ تعلن الولاء لزعيمها في الكفاح، تهتف بحماسٍ «سرْ، واصعدْ بنا»:

إلى مراقي النجاحْ
«يا» أميرنا المغوار!

          غير أنّ المركز الأوّل في السوء، يتنازعه بجدارةٍ واستحقاقٍ كلٌّ من محمد المسباح وفرقة الموسيقى العربيّة بقيادة سليم سحاب .... الأوّل عندما قام بعمل «مكس» أو «كولاج» بين غنائه وغناء السيّدة أمّ كلثوم، فجاء كمن يضع شيئًا من البلاستيك الميّت ليزيّن به حديقةً مترامية الأطراف، أما الفرقة المشار إليها فقد أفزعتنا بغناء القصيدة في حفل مؤسسة البابطين بمناسبة مرور عشرين عامًا على تأسيسها المسرح الصغير بدار الأوبرا المصرية -اليوم الأول من نوفمبر 2009م) إذ جاء الغناء منقوصًا بلا مبرر، بالإضافة إلى الأخطاء التي أصبحت مزمنةً، مع الفجوة الواسعة بين طرفي الأداء: الرجال والسيّدات.

أرض الجدود

          القصيدة الكلثوميّة الأخرى هي «أرض الجـــدود»، التي ينـــاديها البعض بـ«شدا لك المجد»، انطلاقًا من الاستهلال الشعريّ والغنائي.

          القصيدة غنّتها أمّ كلثوم في مارس 1966م، كتسجيلٍ خاصّ لإذاعة الكويت، ونعيد التذكير بما أسلفناه من أنّها من شعر أحمد مشاري العدواني، وألحان رياض السنباطي. هذه القصيدة وإنْ كانت قد أفلتت من أسنان المطربين اللاحقين، فإنها لم تنج من جراد النقد والتأريخ الفضائي، فالمتحدّثون البرّمائيون يأخذون الكلام من أطرافه ويفسّرون عشوائيًّا أمام مذيعين ومذيعاتٍ عديمي المعلومات، فتذهب القصيدة إلى مصر العظيمة في منتصف الخمسينيّات من القرن العشرين عقب إعلان الجلاء وذهاب الاحتلال الإنجليزيّ «البغيض» إلى غير رجعة! والمشاهدون / المستمعون الأبرياء يصدقون كلّ ما يسكبه هؤلاء عليهم في استسلامٍ عجيبٍ وبكامل الطمأنينة!

          ربّما يختلف الأمر هنا - في قصيدتي أحمد العدواني - تبعًا للتجربة الشعوريّة، فمهما نتحدّثْ عن صدق الشعور القومي لدى الشعراء العرب الآخرين، فليس من السهل تجاهل العامل الذاتي عندما يكتب شاعرٌ كويتيٌّ في المناسبة ذاتها.

          العدواني يكتب قصيدة حبّه هو، بكلّ تفاصيلها، من الماضي والذكريات، إلى الحاضر والمستقبل والأمنيات، ويأتي السنباطي وأمّ كلثوم فيمزجان الموهبة وتاريخهما الفني بشعورهما القومي وتجربة الشاعر، لنفوز في النهاية بهذين الأثرين الخالدين.

          القصيدة - أرض الجدود - في الأصل مكوّنةٌ من خمسة عشر بيتًا، تمّ الاستغناء عن البيت الثالث عشر منها، وجاء الاستغناء في محلّه تمامًا فلم يكن ذلك البيت إلا عائقًا أمام تدفّق المعنى بين البيتين اللذيْن يتوسّطهما، كما كان - بالفعل - ثقيلاً على الغناء:

«يمرّ بالخطْب العبوس باسمًا
كالبدْر في غيْب الدّياجي يسْفر»

          سنلاحظ أيضًا أنّ ضمير الخطاب هنا يظلّ موازيًا له في القصيدة الأولى، فيعود على المفرد المؤنّث «أرض»، وإنْ حدثت التفاتاتٌ كثيرةٌ داخل النصّ طبقًا لحركة الأبيات:

شدا لك المجد وغنّى الظّفر
فاختال بدْوٌ وتباهى حضر
أرض الجدود! والليالي سِيَرٌ
ما أشْرقتْ إلاّ عليك السّير

          كان السّنباطي مشغولاً بوضع الرّتوش الأخيرة في رائعة «الأطلال» التي ستغنّيها أمّ كلثوم بعد شهرٍ من الآن (أي في أبريل 1966م)، فشرب اللحنان منْ معينٍ واحدٍ - والقياس مع الفارق - فجاء الاستهلال الموسيقيّ لـ«أرض الجدود» شجيًّا مشبعًا بالشجن، تلعب فيه الصولوهات القصيرة للناي والعود دورًا مؤثّرًا، وتلمع كالبرق في ليل غابة الكمنجات، وينسكب صوت أمّ كلثوم هادئًا رقيقًا يتنفّس البيتين الأوّل والثاني، ثمّ يفور رويدًا رويدًا:

قالوا: الكويت؟ قلت: ذاك كوكبٌ
تهفو له النجوم حين تنظر
العزّ في ساحاته منابتٌ
طابتْ مجانيها وطاب الشجر

          وتأتي لحظة الالتصاق والانتماء وإدراك قيمة الثّرى الذي نمشي عليه، وكمْ يحمل في ذرّاته من معانٍ وقيم:

أرض الجدود! لا برحْت للهوى
منازلاً يخْطر فيها القمر
عشْنا على ثراك يدعونا له
هوىً على نفوسنا مقدّر
وذكرياتٌ كلّما طافتْ بنا
تنفّس الورْد وفاح العنبر

          تطريزٌ وتوشيةٌ على لحن الحبّ، ولحظاتٌ استثنائيةٌ برع الشاعر في اصطيادها، فتأتي الأبيات الثلاثة - أعلاه - لتكون ذروة العاطفة، في الكلمة واللحن والأداء، يخرج منها الشاعر إلى ذروةٍ أخرى موازيةٍ، في كلّ شيءٍ أيضًا:

قلْ للكويت تلك أعراس المنى
يزفّها إليك عهْدٌ نضر
صحائف التاريخ رفّتْ حوله
تكتب للخلود ما يقرّر

          ويستوقفنا السنباطي، كعادته، ليفجّر علامات التعجّب في براح الموسيقى قبل أنْ نصل إليها في ثنايا النصّ:

ما أعظم الدّستور في ظلاله
شعْبٌ على أقْداره يسيْطر!

          ثمّ يصحبنا السّنباطي في خطواتٍ عسكريّةٍ منتظمةٍ لاستعراض مشهد القيادة وحرس الشرف، ويلعب التكرار والتلوين دورًا كبيرًا في تعميق الصورة والمعنى معًا، ونشعر أننا - بلغة السينما - أمام لقطةٍ «كلوز أب»:

قائده إلى العلا أميره
أكْرمْ بمنْ يقود ويأْمر
شيْخ الأمور ما دجتْ مظْلمةٌ
إلا جلاها منْه رأيٌ نيّر
العزم والقوّة في ردائه
تزينها الحكْمة والتّبصّر

          ثمّ يأتي البيت الأخير بلا إعادةٍ، كأنّه الحكمة، أو القانون الذي يعرفه الجميع:

شاد على الحبّ أساس حكْمه
والحبّ للحكْم الكريم مصْدر

          ولكي يستمرّ الأثر متدفّقًا، يشبعنا السنباطي بعشرين ثانيةً من الموسيقى إذْ يغزل راء «مصدر» المضمومة في معزوفة نايٍ رقيقةٍ مدببةٍ، تنسكب في دوّامة الكمنجات الشجيّة ثم تصمت في وقارٍ عجيبٍ، صمتًا شكليًّا، بينما موج المعاني يأخذ مداره في الرّوح .... ولا يكفّ عن الدّورانْ.

          شكرًا لهم جميعًا، كانوا «العروبة» في أرقى تجلياتها، وكانوا يدركون جيّدًا خطورة سلاح الأغنية، فلم يستهينوا ولم يبتذلوا ولم يعبثوا بقيمنا ومشاعرنا وأخلاقيّاتنا، بل تركوا أعمارهم في إبداعاتهم أشجارًا وارفةً في حدائق الزّمنْ.

 

 

بشير عيّاد   




 





أمير الكويت الشيخ صباح السالم الصباح وكوكب الشرق أم كلثوم





عبدالحليم حافظ في الكويت





السيدة فيروز ومؤلف أشهر أغنياتها طلال حيدر مع الشاعرة سعدية مفرح في الكويت





محمد عبدالوهاب الكويت المستقل العربي .. بلدي





الفنان فريد الأطرش غنى للكويت في ثلاث مناسبات مختلفة





الشاعر كامل الشناوي الف «بلدي أنت» وغناها عبد الوهاب





الملحن المصري كمال الطويل





الشاعر الغنائي محمد حمزه





الشاعر أحمد مشاري العدواني: أرض الجدود





الشاعر الغنائي أحمد شفيق كامل ألف أغنية عن الكويت لعبد الوهاب