«إرهابيس»... رسالة الإثم بلا غفران
لعب المبدع الجزائري الكبير د. عز الدين ميهوبي أدوارًا عديدة أتاحت له فرصة رؤية صورة العالم من زوايا مختلفة، فهو الأكاديمي، المبدع، السياسي، وزير الثقافة الأسبق، كما أنه مواطن جزائري عاش واكتوى بفترة التسعينيات التي أطلق عليها في الجزائر بحق «سنوات الجمر»؛ إذ اشتدت موجة الإرهاب والاغتيالات بالجزائر؛ تحت غطاء ديني، حتى لم يعد من جزائري آمن على نفسه، لذا لم أستغرب أن تتناول روايته «إرهابيس، أرض الإثم والغفران» موضوع الإرهاب، وإن كانت فكرتها وأسلوب عرضها وصياغتها لفتني بشدة. الرواية صدرت عام 2019م عن دار «جافي موزعون وناشرون» بالأردن.
وأنت تقرأ رواية «إرهابيس»؛ لابد أن تتذكر إحدى روائع الإبداع الإنساني ذات التأثير القوي في الأدب العربي، وفي الأدب الأوربي، ألا وهي «رسالة الغفران» للفيلسوف الشاعر أبي العلاء المعري، والتي أوحت للمبدع الإيطالي دانتي أليغييري بإحدى أهم روائعه «الكوميديا الإلهية»، فإذا كان أبو العلاء ودانتي ذهبا إلى الجنة والجحيم ليلتقيا شعراء وأدباء عظماء وملعونين، فقد ذهب عز الدين ميهوبي إلى جزيرة خيالية جمع فيها معظم الإرهابيين والمتمردين والديكتاتوريين في العصر الحديث.
تبدأ الرواية بقارب يحمل عددًا من الصحفيين من دول مختلفة؛ بينهم الراوي الجزائري، برحلة في بحر، مع «مراكبي»، تذكرك بالأساطير الإغريقية عندما ينتقل الموتى إلى العالم الآخر في مركب غامض ومرعب. يصلون إلى الجزيرة ليقابلهم المرشد العاشق لجزيرته باعتبارها المدينة الفاضلة التي تضم كل من حاولوا تغيير العالم بالقوة، سواء كانوا ثوارًا كجيفارا، أو ديكتاتوريين كموسوليني، أو إرهابيين تحت مسميات دينية أو اشتراكية أو فوضوية ... إلخ.
تبدو الرواية جادة في طرحها، وأحداثها، وحواراتها الساخنة حول فكرة التغيير بالقوة، ومزايا هذا التغيير، والعالم المثالي الذي يعيش فيه كل هؤلاء الذين قتلوا المئات أو الملايين في انسجام ووئام، حتى إن موسوليني يمازح القذافي، وجيفارا يلاعب قاتله الشطرنج. لكن القارئ يلاحظ السخرية الحقيقية التي تطرحها الرواية من خلال بنائها ذاته، إذ يتم عرض أفكار وآراء سكان الجزيرة جميعًا بأمانة، وعلى ألسنتهم، يدافعون بحماس عما فعلوه، ولا يندمون، ويفخرون بما حققوه من عالم مثالي في مدينتهم الفاضلة (إرهابيس) بينما يقدم العالم كله خارج هذه الجزيرة باعتباره «العالم المنبوذ» أو «عالم الفساد والطغيان»؛ عالم الخديعة، والسياسة الكاذبة، والديمقراطية الزائفة، حتى إن بوكاسا يرى أن الاستقرار في كل قارات العالم يجب أن يكون هدفًا أساسيًا واستراتيجيًا تنفذه الجزيرة، ولن يكون هذا إلا «بإزالة كل الأنظمة الناجمة عن الديمقراطية التي تدوس فيها الأغلبية على الأقلية»ص282.
انبهار الصحفيين بالجزيرة
يبدو انبهار الصحفيين بما تحقق في جزيرة إرهابيس واضحًا طوال الوقت من أسئلتهم، وملاحظاتهم، حتى إن دليلهم في الرحلة إلى أنحاء الجزيرة ومقابلة كبارها «جارسيا» يردد لهم جملته الثابتة: «أنت لم ترَ شيئًا بعد»، فخورًا بجزيرته، مشعلًا مزيدًا من الفضول لديهم. حتى إن الراوي يفكر: «كيف لهذا الكيان أن يفعل كل هذا في سنوات قليلة، ويصنع لنفسه هوية، فيها من عالمنا الكثير، لكن أشياء كثيرة تتكرس في سلوك أفراده... إرهابيس هذه ليست لعبة طائفة مسكونة بهوس ما، لكن كبارها يعرفون ماذا يفعلون... ربما هم يتدربون على الإنسانية... كيف يمكن أن يكونوا بشرًا محترمين» ص240. لكن ما يجعل الصحفيين في حالة استنفار بحيث لا تبتلعهم الجزيرة بأفكارها هو مقابلتهم بعضًا ممن لديهم تجارب شخصية معهم، وشخصية هنا يقصد بها تجارب تخص أوطان هؤلاء الصحفيين بالذات وليست مجرد أفكار عامة، فمثلًا يلتقي الراوي بأبي قتادة المتأسلم الذي كان يعيش في لندن ويفتي بقتل النساء والأطفال في الجزائر، مما يجعله متحفزًا لهذه الجزيرة التي تجمع مثل هذا الرجل مع جيفارا، لذلك يستحوذ الحديث عن جيفارا والحوار معه على مساحة كبيرة من الرواية، بل إن صيحة الاحتجاج القوية على هذه الجزيرة ومن بها تأتي من جيفارا، باعتباره نموذج الثوري النبيل الذي كان يريد بناء العالم والمحافظة على الإنسان وخلق مساحات أكبر من الحرية، إذ يرفض فكرة عودة أهل الجزيرة إلى العالم، خصوصًا أنهم يريدونها عودة صاخبة تبدأ بتدمير بعض منجزات الحضارة الإنسانية على مر العصور «تعودون لتدمير ما يبني الإنسان، أنتم إرهابيون... اعتقدت أنكم جئتم إلى هذه الجزيرة لتتركوا الدم والدمار وراءكم، وتعلوا شأن الإنسان... أنا لم آت إلى هنا إلا لأن هناك من يصف الثورة بالإرهاب. انتهت رحلتي معكم... سأعود لأواصل الثورة هناك... إنما هذه المرة ستجدون التشي أول من يحمل السلاح في وجه من يدمر هذه المعالم.. أنتم تدمرون الإبداع» ص281. لتأتي هذه الصيحة من أحد كبراء الجزيرة أقوى ألف مرة مما قد يردده أحد الصحفيين السائحين فيها، ولتكشف رغبة أهل الجزيرة في العودة إلى العالم عن «عدم القدرة على مجاراة نمط عيش غريب في هذه الجزيرة» ص287، وهو ما يسخر من كل ما يفخر به سكان الجزيرة ودليلهم السياحي فيها طوال الرواية، إذ يهدم فكرة التعايش السلمي بين كل هذه الأطياف من المتمردين أصحاب فكرة تغيير العالم بالقوة.
تبدو كلمة مؤتمر العودة التي تلقيها ماتيلدا ماركوس جامعة لكل المفاهيم والمشاعر التي ربطت من يعيشون بجزيرة إرهابيس، فهي تقول فيها: «اخترنا أن نكون متمردين لوجه الله والشعب والتاريخ. ربما في الدم ما يؤلم، لكنه الحقيقة الوحيدة التي لا يمكن محوها بقليل من الماء... لن نندم أبدًا، فلو كان ما قمنا به في الماضي جيدًا فذاك أمر رائع، أما إذا كان سيئًا فهو خبرة. وكل ما قمنا به كان للإنسان» ص277-278. لكن خطبة ماريا الصحفية التي جاءت للجزيرة بصفتها ضحية من ضحايا عملية إرهابية في روسيا راح ضحيتها زوجها البريء، تندد بكل ذلك، وتؤكد أن هذه الجزيرة ممسوخة، وأن الشيطان يحكم من فيها إلى الأبد. ويأتي احتكام أهالي الجزيرة إلى «أطلس» الأب الروحي للجزيرة، والتي تنسب إليه قارة أتلانتس الغارقة، قمة السخرية من الجزيرة وممن فيها وما فيها من أفكار وقيم.
تبدو سخرية الراوي من هذه الجزيرة واضحة وقوية، لكن الأقوى منها السخرية من العالم الكبير الذي أفرز هذه الوجوه وتلك الأفكار، فهو في إدانته للجزيرة إنما يدين من كان متسببا في وجودها أصلًا بالفساد، وعدم التسامح، والعنف، والاضطهاد، واحتلال الدول، والكيل العالمي بمكيالين، وإشعال الحروب، ونهب الفقراء... إلخ، فكأنها في النهاية دعوة لإصلاح العالم حتى لا يفرز ما يخلق جزيرة إرهابيس، أو يمنحها مبررًا للوجود والاستمرار. كما يدين الكاتب إرهاب الدولة ممثلًا في جرائم العصابات الصهيونية التي ارتكبتها في حق الشعب الفلسطيني منذ عام1947م حتى مذبحة جنين، والتي وثقتها الجزيرة، حيث بدا واضحًا احتقار أهلها لكل ما أو من يمت إلى الدولة الإرهابية بصلة، وهي إدانة قوية تؤكد أنه حتى أكثر الناس دموية يتقززون مما تفعله دولة تقوم سياستها على الإرهاب.
ربما كانت شخصية جيفارا هي التي حققت أهم توازنات الرواية؛ التوازن الفكري، إذ يبدو جيفارا نموذجًا للنقاء الثوري من أجل الإنسان والحرية، رافضًا القيم الإرهابية الدموية التي تحكم جزيرة إرهابيس، وثائرًا في الوقت ذاته على قيم العالم الفاسد الذي أنتج كل القيم السلبية ومنها إرهابيس ذاتها. وربما كانت الحوارات التي امتلأت بها الرواية؛ وأقواها وأطولها الحوار مع جيفارا، من نقاط قوة العمل، إذ كانت الحوارات ذكية وكاشفة عن الأفكار والشخصيات، تبث المعلومات وتناقشها وتعلق عليها، إضافة إلى قيامها بدور مزدوج، إذ تنتقد مجتمع العالم في الوقت الذي تكشف فيه ما يكمن في عمق أفكار الجزيرة من خواء.
13 فصلا بالرواية
تتكون الرواية من ثلاثة عشر فصلًا، وربما كان الرقم مقصودًا، فهو رقم يتشاءم به الكثيرون في العالم، كما أنه رقم (خارج) عن أشهر العام، فلا مكان زمني له بينها. وقد اختار الكاتب لعناوين الفصول جملًا طويلة من الفصول ذاتها. وقد قمت بتجربة كتابة هذه العناوين معا بالتتابع في صفحة واحدة وقرأتها، فوجدت أنها تمنحنا نصًا موازيًا، لا يلخص العمل، بقدر ما يرسخ في الذهن الأفكار الرئيسة التي انبنى عليها السرد.
ربما في طبعة ثانية من الرواية سيكون على الكاتب مراجعة حديث موسوليني إلى صدام حسين في صفحة 182، إذ إن موسوليني كان قد خرج من الاجتماع بالفعل في صفحة 179. كما أرى أن قائمة الكتب الموجودة في مكتبة جزيرة إرهابيس؛ وهي كتب صدرت بالفعل في أزمنة وأماكن مختلفة من العالم، والتي استغرقت عناوينها الصفحات من 55 إلى 60، كان يمكن أن تصبح هامشًا أو ملحقًا للرواية، إذ أوقفت حركة السرد فيها، لكن هذا الرصد للكتب والأغاني ذات الصلة، والمعلومات التاريخية... إلخ، وتوظيف كل ذلك في السرد الروائي يدل على الجهد البحثي الكبير خلف هذا العمل المثير للمتعة والتفكير في آن. وأرى أن الصفحة الأخيرة من الرواية، والتي تتكون من فقرة واحدة؛ إذ يفيق الكاتب على نداء ابنه له، لنكتشف أنه كان يتخيل كل ذلك، لا داعي لها، بل تضعف الرواية، إذ ربما لا تجعل القارئ يتوقف بتفكيره كثيرًا أمام معطيات الرواية، بما تحققه من تفريغ لحظي، كأنها تقول له: لا تهتم فهذا مجرد خيال لم يحدث، أيقظنا منه طفل.
استطاع الكاتب الجزائري د. عز الدين ميهوبي خلق عالم موازٍ له دستوره وعلمه ونشيده الوطني وفرقته الغنائية ومتاحفه وقاعة السينما والبرلمان والمكتبة، وقيمه الحاكمة له، عالم كأنه مرآة يرى فيها العالم الكبير الحقيقي ذاته القبيحة، لتصبح الرواية رسالة إدانة للإثم، ربما لن يكون لها غفران، مادام العالم لا يريد أن يتغير نحو مزيد من الإنسانية، بل يرتد أكثر يومًا بعد يوم ■