«البحث عن دفء شموس أخرى مشرقة» ملحمة الهجرة الأمريكية الكبرى

«البحث عن دفء شموس أخرى مشرقة» ملحمة الهجرة الأمريكية الكبرى

رواية «البحث عن دفء شموس أخرى مشرقة»، للكاتبة والمؤلفة الأمريكية إيزابيل ويلكيرسون،  واقعية إنسانية جاءت في قائمة النيويورك تايمز لأكثر الكتب مبيعًا في الولايات المتحدة الأمريكية، كما حازت جائزة دائرة نقاد الكتاب الوطنية.

 

تعتبر الهجرة الكبرى في التاريخ الأمريكي واحدة من أهم القصص الكبرى التي يتم تجاهلها أو إسدال ستائر النسيان عليها في القرن العشرين. 
لقد استمر تدفق حشود هذه الهجرة من عام 1915 حتى عام 1970، وشملت ستة ملايين من البشر وكانت واحدة من أكبر الهجرات الداخلية في تاريخ الولايات المتحدة الأمريكية إن لم تكن في تاريخ البشرية أجمع.  وقد غيّرت هذه الهجرات وجه البلاد، شمالها وجنوبها. وهبت هذه الهجرات لأمريكا عمالقة في كل مجال من مجالات الحياة الإنسانية:  جون كولترين، ثيلونيوس مونك، توني موريسون، وأوغسط ويلسون، وبيل روسيل، وموتون، ودينزل واشنطن، وميشال أوباما... وكلهم أبناء أو أحفاد تلك الهجرات العظيمة. 

ضغوط التغيير
غيّرت هذه الهجرة من المشهد الثقافي والسياسي للولايات المتحدة الأمريكية، ووضعت ضغوطًا هائلة على الجنوب لتسير في طريق التغيير ومهدت الطريق للاتجاه نحو منح الحقوق المتساوية لأفراد أدنى الطبقات في طول البلاد وعرضها. لم يختلق أحد هذه القصص التي تأخذ بمجامع القلوب وتوصف على حد قول الكاتبة بأنها أضخم قصص القرن العشرين، ومع ذلك يتم تجاهلها بشكل كبير، كما لم يخترع أحد هذه الروايات عن الهجرات العظيمة لمستأجري الأراضي الزراعية من المزارعين والآخرين من حزام زراعة القطن في الولايات المتحدة الأمريكية إلى المدن الكبرى: نيويورك، وشيكاغو، وديترويت، ولوس أنجلوس وغيرها في الفترة بين الحربين العالميتين.
فر ما يقرب من ستة ملايين من السود الأمريكيين بسبب المعاملة المهينة والاضطهاد، والتي شبوا تحت لهيبها في جنوب البلاد في الفترة الواقعة ما بين الحرب العالمية الأولى ورئاسة ريتشارد نيكسون، ويمموا شطر الشمال أو الغرب بحثًا عن الحرية، ووجد بعضهم القليل منها على أقل تقدير، بينما لم يجد آخرون حتى ذلك النزر اليسير.  ترك هذا النزوح الجماعي غير المخطط المحفوف بالعديد من المخاطر، والذي كان غالبًا ما يواجه بالامتعاض، آثاره العميقة في القوانين السائدة، وسياسة أمريكا، وعلاقتها الاجتماعية وبشتى أنواع الطرق، وبعضها لم يفعل للأسف الشديد.
كلنا نعرف بالتأكيد مناطق الوديان الرملية أو العواصف الترابية وقاطني أوكلاهوما، كما خلّدها كل من جون شتاينبك نثرًا، أو دوروثي لانج بصورها الفوتوغرافية، أو حتى وودي جوثري في أغانيه.

10 سنوات 
استغرق إعداد كتاب ويلكيرسون هذا أكثر من 10 سنوات أجرت خلالها تلالًا من الأبحاث لذا جاء في حجم كبير بلغ أكثر من ستمائة صفحة. على الرغم من أنها أجرت مقابلات مع أكثر من 1200 شخص، فإنها اختارت من بين هؤلاء وبحكمة بضع عشرات للاستقصاء عن قصصهم بعمق وشمول، وتقدم لك المؤلفة في هذا الكتاب ثلاث قصص منها تشمل خلاصة تجارب ستة ملايين من البشر...  حيث تقدم لنا قصة سيدة شديدة البأس من مزارع القطن في المسيسيبي، وقاطف لثمار البرتقال من فلوريدا الوسطى، وطبيب جراحة طموح من لويزيانا. وقد غادر كل منهم الجنوب في عقد مختلف عن الآخر، تحدوه آمال مختلفة عن الآخرين. وحقق كل منهم درجات متفاوتة من النجاح أو واجهته صنوف من الإحباط. وبينما لم يحقق أي منهم ما كان يصبو إليه بالكامل، فإنهم جميعًا لم يأسفوا للقرار الذي اتخذوه بالنزوح من الجنوب في تقديرهم النهائي للأمور. 
تُحرك ويلكيرسون أبطالها الثلاثة أمام العديد من الشخصيات الجانبية الأخرى، والذين تتنوع قصصهم تنوعًا واسعًا ببراعة فائقة، فهم يعقدون العزم جميعًا على أن يهجروا وراءهم الظلم الاجتماعي الذي لا يطاق أو على الأقل تجربة حظوظهم في أجواء أكثر نقاءً وحرية. المؤلفة نفسها كانت طفلة لأبوين من المهاجرين السود من جورجيا، وهي جزء من تلك الشخصيات الجانبية في القصة. ويعتبر هذا الكتاب ثريًا على كل المستويات، فهو يوثّق بالتفاصيل التي توجع القلب الطريقة الوحشية التي كان يتم التعامل بها مع هؤلاء المهاجرين في المناطق التي ولدوا فيها. 
كما أن الكتاب يقوم بتوثيق فكرة مختلفة مؤداها أن الجانب الأعظم من المشكلة يكمن في أن أطفال هؤلاء المهاجرين والذين ولدوا في الشمال غير مُدركين كيف فُرض على آبائهم أن يعانوا الكثير من أجل أن يترعرعوا في أجواء حياة أفضل.
يتسم قلم الكاتبة بالرشاقة وهي تقوم بسرد دقائق حياة شخصياتها بما يوحي للقارئ بأن هذه الشخصيات تتحدث إلى جهاز التسجيل الخاص بها. كما عمدت إلى المحافظة على عبارات وأسلوب لغة السود من دون أن تحاول القيام بتنقيحها أو الارتفاع بها إلى مستوى الطبقة العليا من خريجي الجامعات، وعلى الرغم من أن بعض الشخصيات هي كذلك بالفعل. كما تمنح ويلكيرسون اهتمامًا خاصًا للتاريخ العنصري لولاية شيكاغو.
لكن ربما كانت أكثر قصص المهاجرين حيوية وتشويقًا هي تلك التي خاضها روبرت فوستر، وهو خريج كلية الطب، وجراح شهير في لوس أنجلوس.  لقد حقق نجاحًا أكبر من كل من الشخصيتين الرئيسيتين الأخريين في الرواية، لكن هذا النجاح أثار في داخله الحاجة إلى «إثبات نفسه» عن طريق شراء منزل فخم للمباهاة، والإنفاق على شراء الملابس الفاخرة، ثم الانغماس الجنوني في هوس المقامرة. وتُعد سلوكياته ورسم شخصيته على الأرجح الأكثر جاذبية في هذا الكتاب.
وقد أُخذ عنوان هذا الكتاب من فقرة بكتاب ريتشارد رايت (الولد الأسود: تسجيل لوقائع الطفولة والشباب)، تقول كلماتها:
لقد تم انتزاعي من الجنوب ليتم زرعي في تربة غريبة، لتجربة ما إذا كنت سأنمو بطريقة مختلفة إذا ما شربت من مياه أمطار باردة، وتعرضت لرياح غريبة، واستجاب جسدي للتعرض لدفء شموس أخرى مشرقة، فربما عندئذ ينمو ويترعرع■