لماذا اخترت هذه القصص؟

لماذا اخترت هذه القصص؟

القصَّة القصيرة لونٌ من ألوان السَّرد الحديثِ، تمتازُ بإيجازِها وتكثيفِها، فهي تقومُ على شخصيَّةٍ واحدةٍ رئيسةٍ وحدثٍ واحدٍ مركزٍ؛ إذ لا معنى للإسهابِ فيها، ويفضّل بعض الكتَّاب تقديم الشخصيَّة من خلال الحدث، فتصبح الأهميَّة هنا للحدث وتتراجع الشخصيَّة لمصلحة الحدث المهيمن مثل (زكريا تامر) في قصصه، وبخاصَّةً قصَّة (النُّمور في اليوم العاشر)، فشخصيَّة المروّض تظهر فعاليَّتها من طبيعة الحدث؛ إذ لا ملامح له، وهي فارغةٌ من المرجعيَّة المكانيَّة والزمانيَّة، غير أنَّها وظّفت في سياق تأثير السُّلطة المطلق.
وفي قصصٍ أخرى تقود الشخصيَّة الحدث، فالفعل مرتبطٌ بالشخصيَّة، فهي الفاعلة والمحرّكة للحدث، وقولها مؤثّرٌ وردَّات فعلها محسوبة الوقع في مسار الحدث، وهذا النَّوع يفضّله كثيرٌ من الكتَّاب، مثل يوسف إدريس الَّذي ينسج أحداثه من حركة الشخصيَّة ومنطقها، كما في قصَّته (شغلانة).
ومن آليَّات كتابة القصَّة القصيرة الإيجاز والاقتصاد في اللُّغة وعدم الحشو، فالقصَّة القصيرة إلماحةٌ سريعةٌ في صفحاتٍ لا تتجاوز الثَّلاثة، والبراعة تكمن في تصوير المشهد دون تدخُّل الكتَّاب بمعلوماتٍ من خارج سياق الحدث أو تكوين الشخصيَّة، فالقصَّة حزمةٌ مجازيَّةٌ لا تحتمل التَّصريح، بل تترك للقارئ التَّأويل وفقًا لدربته الفنيَّة وخلفيته الفكريَّة والثقافيَّة.
من الأخطاء التي يقع فيها الكتَّاب المبتدئون محاولة تقديم الأفكار الكبيرة، أو القيم العامَّة كالعدل والحريَّة، وهذه أفكارٌ تحتاج إلى تمثيلٍ سرديٍّ في أبسط الأشياء دون التَّصريح بها، وهي تعتمد على براعة القاصّ ومدى دربته وتمرُّسه، فالأفكار الصغيرة كالوقوف عند إشارةٍ مثلًا موضوعٌ كفيلٌ بأن يشعل خيال القاصّ الموهوب، وأن يقول للمتلقي أكثر ممَّا تقوله الأفكار الكبيرة، وعليه فالقصَّة مشهدٌ لا يحتمل تدخُّلَ القاصّ في الحدث، بل يتم تجسيده كما هو، وترك أمر بناءِ تأويله للقارئ.

المرتبة الأولى: «سرقة»  لجراح كريم كاظم / العراق
قصَّة (سرقة) لجراح كريم تلامس الحدّ الفاصل بين العدم والوجود، قصَّةٌ قصيرةٌ، لكنَّ معانيها كبيرةٌ، فتظهر في القصَّة ثنائيَّة الموت والحياة، لكن ليس في سياقها الطبيعيّ، بل في سياقها الاضطراريّ، فالقصَّة تقيم سردها على فكرة غياب الأب الجنديّ الذي كبر أبناؤهُ وهو يصارع من أجل حياةٍ أكبر هي حياة الوطن، لكن في المقابل سرقت الحربُ روحَه قبل جسدِه. 
وبناء القصَّة مؤثرٌ وفاعلٌ، حيث بدأت بالغياب الممكن، أي إمكانيَّة عودة الأب إلى أهله، وانتهت بغياب وجههِ، والمفارقة أنَّ الغياب الأوَّل غيابٌ مأمول الانقطاع، أمَّا الغياب الثَّاني فغياب وجه الأب بفعل الحرب، فهو غيابٌ لحضوره الاجتماعيّ، غياب مؤذٍ للأب نفسه ولأبنائه من بعده، ورصدتِ القصَّة اختلاط المشاعر وقسوة الحياة مع العيش من دون وجهٍ، وهي إشارةٌ رمزيَّةٌ إلى غياب الحضور الاجتماعيّ.
تتصاعد وتيرة الحدث في القصَّة إلى ذروتها عندما يصبح الغياب جمعيًّا، والسَّرقةُ قدرًا مؤلمًا، وتصبح سرقة الرُّوح والأحلام والحياة أبلغ وقعًا من أيّ سرقةٍ. نجحت القصَّة في رصد الحدث من خلال الأطفال، الَّذين يشكّلون مستقبل الحياة رغم قسوة وقع هذا الفعل على نفوسهم، فالسَّرقة تصاعدت وتيرتها حتَّى وصلت إلى مطلق الغياب الّذي أبان عنه التَّلاميذ في تعبيرهم. 

المرتبة الثانية: «ربما كنت أحب الأرجوحة» لعلي محمد عبدالرزاق / مصر
قصَّة (ربما كنت أحب الأرجوحة) توحِي بأنَّ الحياة النَّاضجة دهشةٌ مطلقةٌ، وإذا غابت الدَّهشة توقفتِ الحياة، حيث ترصد القصَّة حياة كاتبٍ كبيرٍ فقد دهشة الحياة، بل دهشة اللَّحظة، فأقلع عن الكتابة، وظلَّ يبحث عمَّا يعيده إلى الدَّهشة حتَّى وصل به الأمر إلى الوقوف في نقطة البداية لعلَّه يكتشف سرد الدَّهشة الَّتي رافقته في مشواره حتَّى فقدها. ورافقه في القصَّة معجبٌ به حتَّى أصبح مثل ظلّه، وهو في رمزيَّة القصَّة الوجه الآخر للكاتب الباحث عن الدَّهشة، واكتشف المرافق أنَّ بدء الدَّهشة ليس مجرَّد اشتهاءٍ، بل تجربةٌ أصيلةٌ ليسَ كلُّ أحدٍ يستطيعُ اقتناصها.
حاول الكاتب أن يستعيد لحظات الدَّهشة السَّابقة في حياته، فأحضر أغلفة كتبه ليستوحي منها تفاصيل دهشته الأولى فلم يجد سوى الضَّجر يتسلَّل إلى نفسه، وتذكَّر أنَّه كان يفرح عندما يلعب الكرة، لكنَّ الدَّهشة الأولى لم تحضر، وفي سبيل بحثه عن الدَّهشة الغائبة تخيَّل أنَّ إفراغ رأسه من حيرته سيؤدّي إلى وصوله إلى دهشته الأولى، وفي سبيل ذلك وصل إلى الموت قبل أن يصلَ إليها. وفي بنية الحدث يشكّل موت الكاتب تحولًا في بناء تصوُّرٍ عن عدم فهم الآخرين لمتطلبات الذَّات، وهو ما عجز عنه ظلُّ الكاتب، أن يعرف معنى فقدان الدَّهشة، ويشكّل الاتّهام بقتل البطل جزءًا من دائرة الدَّهشة الغائبة، وتُعقد المحكمة بتهمة قتل الدَّهشة في روح الكاتب، استمهل المتهم تنفيذ حكم القصاص حتَّى يجد دهشته، كتب وظلَّ يكتب، لكن لا تزال الدَّهشة غائبةً، وهنا صرَّح بأنَّه
لا يستحقُّ الحياة.  طرحت القصَّة مفارقة الحياة الخالية من الدَّهشة، إذ إنَّ الموجودين في الحياة من دون حياةٍ كثيرون، وهي صرخةٌ وجوديَّةٌ بأنَّ الحياة لا تُوهب لأحدٍ من دون دهشته، ونجح الكاتب في صناعة ثنائيَّة بين الكاتب ورفيقه، لكنَّها ثنائيَّةٌ تشبه الإنسان وضميره، فهما في النهاية واحدٌ مادامت الدَّهشة غابت عنهما، وهو ما يُوحِي بأنَّ غياب الدَّهشة يجعل البشر متساوين في الحضور، لأنَّ الدَّهشة في النهاية هي البحث عن المختلف. 

المرتبة الثالثة: «الوحيد» لتامر محمد موسى / مصر
قصَّة (الوحيد) لتامر موسى تعبيرٌ عن أزمة التَّسليم، فالبطل لم يسلّم برحيل أخته (هناء)، وهو في اللَّحظة نفسها يقف مودّعًا زوجته (ليلى)، كانت (ليلى) هي آخر ما يرفض أن يفقده، لكنَّ (ليلى) ترى أنَّه لم يستوعب الفقد، لكن عليه أن يستعد لذلك. ويعاني البطل من مقاومة اليقين في داخله، فلم يسلّم بحلم زوجته (ليلى)، وذلك لأنَّ (ليلى) تريد أن تصنع مقدمة الفقد، فاستدعت غياب (هناء) لعلَّه يجد المبرّر لفقدها.
وبُنيت القصَّة في لحظة توترٍ حادٍّ، ونقلات السَّرد تشكَّلت عبر الحوار أكثر من الوصف، والحدث نفسه تجلَّى عبر محاورةٍ بين هشاشة الواقع وصلابة اليقين عند (ليلى)، ولعلَّ الجملة الأخيرة:
«لا تحزنْ يا حبيبي... لن تطول وحدتك كثيرًا». تؤكّد أنَّ الفقد قدر الأحياء، والذين يقلقون من الفقد يتحولون هم أنفسهم إلى فقدٍ لغيرهم.