اغتيال المستقبل

اغتيال المستقبل

كعادتها، في العدوان الأخير، والعدوان الذي قبله، والعدوان التالي، تضرب إسرائيل بلا رحمة، تستخدم بوحشية أقصى ما في ترسانتها العسكرية من أسلحة فتّاكة ضد شعب أعزل تقريبًا، لا يملك غير بضعة من الأحجار والصواريخ البدائية التي تسقط عادة في الفراغ. 
إسرائيل توجع حين تصيب، بينما الشعب الفلسطيني لا يملك إلا التعبير عن احتجاجه ضد الظلم والقمع الذي لا يتوقف. إسرائيل هي صورة الشر المطلق الذي تتحدث عنه الأساطير القديمة، اللعنة حين تتسلط على مجموعة من البشر فتسلب منهم أرضهم وأمنهم وحياتهم، وذلك قبل أن يستطيع الضحايا أن يجدوا طريقًا للخلاص منها، سيكون الثمن مكلفًا وبعيد المنال إلا أن الخلاص آت لا محالة، والمدهش أن إسرائيل تعرف ذلك جيدًا، لذلك فهي لا تحارب الحاضر بقدر ما تعمل على استئصال المستقبل، وتركز عدوانها دائمًا على الأطفال الفلسطينيين، تريد أن تبيدهم قبل أن يكبروا ويتحولوا ليصبحوا شوكة في حلقها، من السهل أن تقضي على نبتة من أن تقتلع شجرة، لذلك كان هدفها الأساسي هو تدمير المدارس، أكبر قدر منها، رغم أنها خالية تقريبًا بسبب كورونا، ولا يوجد فيها أي نوع من الأسلحة لأن الآباء الفلسطينيين حريصون دائمًا على إبقاء أولادهم خارج الصراع، لكن إسرائيل تعرف أن الخلاص من لعنتها لن يكون إلا عن طريق هذه المدارس، فمنها ستخرج أجيال جديدة قادرة على التفكير.
 فالجاهل لا يتطور ولن يستطيع أن يفكر أو يبتدع طريقة جديدة للمقاومة، وبدا واضحًا حرص الطيران الإسرائيلي على قصف الأبراج السكنية لأنها تحتوي على العدد الأكبر من الأسر وأطفالها، فالصواريخ لا تأتي من هذه الأبراج، ولا الأسطح أو النوافذ، لكنها تحتاج إلى أرض فضاء حتى تستطيع أن تنصب المنصات الخاصة بها، وإسرائيل تعرف بالطبع مواقع إطلاق هذه الصواريخ، ففلسطين بوجه عام وغزة بوجه خاص مساحة صغيرة من الأرض، تستطيع طائرة واحدة أن ترصد كل ما عليها، فما بالك بالأقمار الاصطناعية التي تعرف عدد ذرات الرمال؟! إسرائيل تعرف من أين ينطلق كل صاروخ، وتستطيع أن تدمر المنصات في أوكارها، لكنها تفضل أن تتركها لأن إيذاءها قليل جدًا، وإذا أصابت واحدًا أو اثنين فلا مشكلة، لكنها في مقابل ذلك تكسب صيتًا كبيرًا، وتظهر أمام العالم كأنها الدولة المعتدى عليها، وحتى يقف زعماء أعتى الدول ليقولوا إن من حقها الدفاع نفسها، ولتُكسب عدوانها الوحشي نوعًا من الشرعية. 
إسرائيل لا تدافع، إنها تنتقم، تخلص كل ثاراتها القديمة من الدم الفلسطيني رغم أنهم ليسوا طرفًا في أي ثأر، أوربا هي التي اضطهدت اليهود، هي التي سممت أفكارهم وحوّلتهم إلى مسوخ منتقمة، وهي التي عزلتهم داخل جيتوهات ضيقة كما تفعل في غزة، وعندما هرب اليهود من مذابح محاكم التفتيش في إسبانيا كان العرب هم الذين استقبلوهم، وعندما ماتوا رعبًا من أفران الغاز في أوربا كان العرب والفلسطينيون بوجه خاص هم الذين وهبوهم الأمان، إسرائيل تحاول أن تمحو ماضيها التعس على حساب مستقبل فلسطين معتقدين أن هذا يمكن أن يدوم طويلًا ■