«بهلاء» العمانية شواهد الطين تروي سيرة الإنسان والأسطورة

«بهلاء» العمانية شواهد الطين تروي  سيرة الإنسان والأسطورة

بهلاء، أو بهلى، أو بهلا ...تعدد نطقها على ألسن عارفيها، مرّة بفتح الباء وأخرى بضمّها، كما هو الحال مع حرفها الأخير، لكن شيئًا ما يجول في الذاكرة فور أن ينطق الاسم، فهذه المدينة المتدثرة بجبال محافظة الداخلية في سلطنة عمان، وأشهرها الجبل الأخضر وجبل شمس، تدسّ في مفكرتها القديمة الكثير من الأساطير الشعبية، مخضّبة بروايات الماء والطين، كأنها خلق الإنسان الأول، يتحدّثون عن سحرها المعتّق في مواعين الأمس، لكن لم يرَ أحد شيئًا، إنما الجميع سمع، وجرت مقادير الزمن لتبقى المرويّات نقشًا على حيطان المكان وكهوفه، يبدو غير مرئي، لكنه محسوس ومتداول، لا يعرف شكله أحد، لكنه خاضع لمقاييس الحكايات وهي تخرج من أبواب بهلاء العتيقة، المسيّجة بمداد العلماء، وتكبيرات الآذان، ونداءات الطين وهي تبني به أسوارًا وقلاعًا... أو يتشكّل على أيدي صانعي الفخّار مشغولات تكاد تنطق بما أوتيت من حسن صنعة.

 

من أين نبدأ يا بهلاء وكل زاوية فيك تكتب تاريخها؟!
هذه المدينة الصاخبة بمرويات التاريخ، وبتقاسيم الإنسان على تفاصيل المكان، كتبت من الطين أسطورتها، حيث يتداخل تبر الأرض مع سائر الشواهد فيها، إذ إن قلعتها وسورها ضمن قائمة التراث العالمي لمنظمة اليونسكو، وجامعها القديم تكاد تقرأ في نقوشه ما تبقّى من بركات صلوات الأئمة ومداد العلماء على قراطيس سهر الليل علمًا ودرسًا، وصولًا إلى «نقصة» السوق، حيث تقول الأسطورة إن من يتكئ على هذا العمود الطيني سيبيعه السحرة في مزاد علني سيدخله خلال لحظات إلى عالم غيبي، وموته المباغت ليس إلا نقطة تحوّله إلى وجبة دسمة على مائدة السحرة.
نترك الحكايات، وما أكثرها، تفتّش في ردهات الأمس عن حيويتها، وقد كانت دثارًا حكائيًا في ليالي الشتاء الطويلة، تتسلّى به المجالس والبيوت، وتضيف المخيلة الشعبية ما أرادت له من سعة تجعله أشد إثارة، ونتّخذ طريقنا صعودًا إلى القلعة، مدفوعين بأجواء ربيعية، وبأحاديث عن عدد سكان الولاية والذي يبلغ ما يقارب التسعين ألف نسمة يتوزعون على المدينة الأم وعشرات القرى تجمّل سواعدها وأوديتها وتتدثر بجبالها وتفترش سهولها، وفي كل قرية هناك ما يفيض بحياة ما: حصنًا أو برجًا... أو ساقية فلج أو أكثر.

نحو السوق «المتجدد»
نهبط إلى السوق القديم، الذي استعاد حيويته بعد عملية ترميم جددت البهاء في حيطانه المتزلزلة تحت خبطات جريان الدهر، أحيت جزءًا مهمًا منه... محلات صغيرة تأتيك بعبق الطين وروائح الأمس كأنما تولد للتوّ، أتذكر فيلمًا وثائقيًا شاهدته قريبًا عن هذا السوق بعنوان «آخر الباقين»، لأجد أبطاله أمامي وجهًا لوجه، الشخصية العمانية الآتية من الزمن العفوي البسيط، يجلسون، كما كان يطيب لأولئك القدامى، على مدخل أحد دكاكينهم، معهم آنية التمر ودلة القهوة، يبدون كأنهم الباعة والمشترون، والهدوء يلف المكان سكينة وصمتًا لولا سؤالهم الدائم لبعضهم البعض عن «الأخبار والعلوم» وفق العادات في عمان، أغلبهم في أعمار تتراوح بين السبعين والثمانين، وربما أكثر، بلحاهم البيضاء المرسلة، وضعف الأصوات لدى البعض بحيث إنك تكاد تسمعها همسًا.
نسألهم عن «النقصة» العتيدة وحكاياتها، يشيرون إليها، واحدة جديدة حلّت مكان «الأسطورة» التي اندثرت، وكأن ترابها يكاد يروي ما يشاع عنها، ألتقط الصورة بابتسامة المنتصر على ما تقوله الأساطير حيث الكثيرون يرفضونها كحقيقة واقعة مع أنهم يتسلّون بحكاياتها لما تحمله من عناصر إثارة وتشويق، «دراما» صنعتها المخيّلة الشعبية في وقت ضجر، وتتناقلها ألسن العابرين كأنها حقيقة أثرية.
نمضي باتجاه سكة «كدم»، على اسم جبل بهلاء الشهير، بصخرته التي تكاد تنشق من باطنه تتمنّع على ظروف التعرية فلا تنحني، السكّة مجموعة مقاه صغيرة تحتل تلك الدكاكين المتقاربة، كل منها يحمل ثيمة مختلفة، أولاها «البرزة»، أي وفق الطريقة العمانية التقليدية في تناول القهوة، واسمها مشتق من جلسات القلاع والحصون، حيث يجلس القاضي أو الوالي فيما يشبه «الديوانية» منذ الصباح الباكر، وعلى أصحاب الحاجات والقضايا عرض ما لديهم، وهناك ثيمات أخرى لمقاهي كدم كالبحريني واليوناني والتجريدي.
نصل إلى الجزء غير المرمم، تشدّني أكثر الأبواب المغلقة على ركام خلفها، أتخيّل من لم يعودوا «من الباقين» وقد كانوا يجلسون قبل عشرات السنين هنا، أخذوا أحلامهم ومضوا، مفترضًا أنهم كانت لديهم أحلام كالتي يعرفها أحفادهم في القرن الميلادي الجديد، وقد مضى أكثر من خمسه.
أتخيّل الأصابع النحيلة التي قبضت على القفل، وسارت في اتجاه واحد دون أن تتمكن من العودة مرة أخرى، وأستعيد ما قاله واحد من «آخر الباقين» في الفيلم الوثائقي، أنه سيأتي يوميًا إلى دكانه وإن لم يجد مشتريًا، لأن حياته هنا، وحينما لا يأتي، فمؤكد أنه لم يعد على قيد الحياة.

بين دكاكين... غريب
يمضي بنا غريب بن حارب الشكيلي من دكان إلى آخر، جميعها مشرعة الأبواب، وموزّعة على أنحاء السوق، 14 محلًا يتنقل بينها، يا للغرابة، رجل واحد يتولى أمر هذه المحلات جميعها، قفلًا قفلًا، وقطعة قطعة، يعرف تفاصيلها، وهي تتنوع بين ما لا يحصى من معروضات، منهما ما يغوص بنا في لجّة مئات السنين، ومنها ما يمتد على الموائد، دكاكين غريب تبدو غريبة في بضاعتها وتعددها بين دكان وآخر، تعرض السيوف القديمة وربطات الثوم، ولك أن تتخيل جميع ما بين المفردتين، دكان يعرض ما تقادم من أجهزة تسجيل وآلات تصوير وهواتف وتراثيات أخرى تكدّست بفوضاها الجميلة على كل مكان ممكن يتسع به المحل أو يضيق، يضع على جهاز تسجيل قديم ما يجعلنا ندندن على «دق العود» لمطرب عماني محسوب على جيل الستينيات والسبعينيات، لكنني أختار شريط محمد زويّد ليدور في تلك الزوايا العتيقة، أسأله: بكم تبيع الشريط الواحد أو الأجهزة؟ أجابني: «ليست للبيع»، وأطرح سؤالي التالي: ماذا تستفيد غير هذه اللائحة التي تقول إن الدخول والتصوير بمقابل مادي رمزي؟ يجيب: «وغالبًا
لا يدفعون». يمشي أمامنا حارب ونحن نتبعه، هذا الدكان مخصص للسعفيات، وهذا للفخاريات، وذلك للنحاسيات القديمة حيث السيوف والأواني وسائر مستلزمات المطابخ (أيام زمان) وآخر للجلود، وللأبواب والنوافذ الخشبية، بينما أبقى على أحدها كأنه استوديو يمنح الداخل إليه فرصة تجربة الأزياء العمانية التقليدية مقابل مبلغ بسيط.
أصرّ على تناول فنجان قهوة، سحب البساط باتجاه الظل أكثر، فقد تحركت الشمس بأشعّتها لتنال من أطرافه، فناجين أشبه بأكواب صغيرة، ومع الضحكات والقفشات اكتشفنا أن لغريب شخصية تختلف عن تلك التي تحدّثت بحرقة عن مآلات الأشياء لديه.. عرض على الجهات المختصّة إقامة متحف دائم لمعروضاته في بوابة الولاية، أو في قلعتها، ليكون متاحًا لهذا التراث أن يطّلع عليه السياح، من داخل البلاد وخارجها، لكنه لم يجد الرد...
«كل ما أتمناه أن تجد هذه الكنوز من يرعاها ويهتم بها»، عرضنا عليه مازحين بيع محلاته جميعها بمائة ألف ريال عماني (أكثر بقليل من ربع مليون دولار).. فوافق فورًا، ووعدناه بأن نبحث عن المبلغ، فقد يغدو وعدنا أيضًا ضمن معروضاته القديمة.

من «التربية إلى التربة»
نطوف بحاراتها والسكيك الضيقة، بين حقول من النخيل والمزروعات، نرطب وجوهنا من فلج الخطم، ومرورًا بحارة الخطوة صوب باب السيلي، حيث الأساطير تقول إن السحرة مرّوا من هنا ذات حين من الحكاية، لم يلتقهم شاهد عيان، لكن آثار خطوهم مرّت على الخطوة كشاهد ليس بالعيان، ونمضي إلى عين وضّاح... هنا يتوضأ المتعبون ليغسلوا عن أجسادهم أوجاعها، فللمياه الكبريتية سحرها أيضًا، هنا وضّاح المنحي وضع اسمه، فكانت «الجباة»، البحيرة الصغيرة وسط الوادي، حيث جاء وضّاحها من ولاية منح القريبة ذات يوم طالبًا، وباستحمامه فيها منحها الاسم، هكذا تقول الروايات.
سرنا إلى بقعة بهلاوية لا يمكن تجاوزها، فالولاية معروفة بصناعة الفخار، وهناك وجدنا أحمد العدوي يضع اللمسة الأخيرة على آنية فخارية تشاركه في صناعتها سائحة ألمانية تدير الآلة وتقول إنها محامية تعشق هذه الحرفة فجاءت لتقترب منها أكثر، نتعرّف في المصنع على الأدوات القديمة لصناعة الأواني والمنحوتات، قبل أن يدخل العلم أدواته الحديثة.
تقودني جملة سعيد العدوي إلى تفاصيل هذه «الصنعة»، المعلم الذي ترك عمله «معلّما» بإحدى مدارس الولاية ليختصر خياره في جملة «تركت التربية إلى التربة»، لكنه بقي المعلم الذي يفتح أبواب مصنعه للطلبة أيضًا ليأخذوا دروسًا في صنع الفخاريات، مهنة يقول عنها بأنها قادرة على منح المتمكن منها أكثر من راتب الموظف بشهادة جامعية لو أخلص لها، لكنه بالعلم يمكنه أن يطوّر أدواته ومنتجاته، كما فعل حينما حدّث مكوّنات صناعته وآلاتها، تاركا تلك التي تدار بالقوة العضلية والمستخدمة منذ مئات السنين بأخرى كهربائية، سريعة وبجهد أقل.
هذه العائلة تواصلت مع «التربة» وفاء للأب الذي لم يفرّط في موروث تقليدي فنّي، وعرفت كيف تستفيد من خامات البيئة، لتصنع منها جماليات تشدّ إليها الرحال من أبناء البلاد 
وزوّارها الأجانب، فبقي المصنع مقصدًا أثيرًا للسياح، خاصة الأوروبيين، وكانوا في السابق يصنعون من الفخار أدوات الشرب وبينها «الجحال» التي تعلّق على وتد، مستفيدة من الهواء الساخن في الجو لتبريد الماء داخلها، أو «الخروس» وهي آنية فخارية كبيرة لها عدة استخدامات، لكن أبناء العائلة العدوية طوّروا من منتجاتهم لصناعة أوانٍ منزلية تصلح للطبخ والديكورات بأشكال مختلفة إضافة إلى مجسمات الحصون والقلاع وغيرها مع إدخال الإنارة بما يمنحها حياة محسوبة على عصرها، فجاءت فكرة المعاصرة كلمسة فاخرة على ذلك الموروث.
كنّا نتأمل تلك الأصابع التي تحيل القطعة الطينية الدائرة بينها إلى شكل ما، هل سيكون على شكل كوب أو مجمر (للبخور) أو مزهرية؟، تتحرك بخفّة بينما النقّاش يطوّعها، وحده هذا الجزء بقي حميميًا في علاقة الإنسان مع صنعته، فقد دخلت الكهرباء في الباقي، وصولاً إلى الفرن الذي لم يعد كالسابق متقدًا عدة أيام بالأخشاب ومخلفات النخيل، يحاذر الصانع فيها أن يخفت أوار النار لأقل من ألف درجة فلا يجف الطين كما ينبغي، وحينئذ ستغدو الأواني كأنها مصابة بهشاشة العظام، فالفرن الكهربائي يجعلها لا تحتاج لأكثر من 16 ساعة.
يستخدمون ثلاثة أنواع من التربة، فتربة أدوات تبريد الماء يأتون بها من الولاية، وتشبه الزراعية، بينما تربة أواني الطبخ تستورد من دول معروفة في مجال الفخاريات كإيطاليا وإسبانيا وبريطانيا، أما تلك المخصصة لأواني الزينة والمزهريات والخروس فتكون من جارتها، ولاية الحمراء، حيث جبالها تناطح الغيم شموخًا.
هذا المصنع واحد من ثلاثة مصانع أهلية بقيت تقاوم جريان الدهر والتحوّلات العصرية عليها، لكن هناك اهتمام رسمي كبير ببقاء هذه (الصنعة) في بهلاء من خلال مركز تدريب وإنتاج الفخار والخزف، وافتتح عام1986م وتعاقبت عليه أياد عربية (مصرية) وصينية لوضع اللمسات الأولى على خطط تطوير المنتجات الفخارية، ومع مرور السنوات تولّت الأيادي العمانية مهمّة السير على (عصرنة) مهنة آباء وأجداد غرفوا من الأرض تربتها ليصنعوا منها آنية يتدفق منها مشربهم.

طواف حول السور
وحدها بهلاء التي يسوّرها سور بين الولايات العمانية، يمتد نحو 12 كيلومترًا كزنّار يحميها من كل من يريد بها شرًا، وقد بدأت فكرته، ضمن إحدى المرويات، حينما كانت الولاية تضطر لدفع جزية لولاية أخرى مقابل عدم مهاجمتها، إلا أن أحد ولاتها جاءته فكرة بناء السور، وحينما حان موعد دفع الجزية طلبها المتعوّدون على تسلمها، وعندما تعذّر عليهم ذلك أرادوا معاقبة بهلاء ومهاجمتها فوجدوا حائطًا دفاعيًا مزوّدًا بأبراج ومرام للسهام والبنادق، بما حمى الولاية من الاحتفاظ بحقّها في رزق تأتي به أرضها الخصبة.
هي حكاية أخرى من الحكايات التي تضاف إلى أساطير «الطين» في المدينة، فهناك من يقول إنها بنيت في فترة الوجود الفارسي بالمنطقة، ويشير البعض إلى أنه أقيم خلال فترة حكم النباهنة لعمان، وقد اتخذوا بهلاء عاصمة لهم، وبقيت شواهد كثيرة حيّة على هذا السور لا تزال تروي عبور الأساطير على هذه الأرض.
لكن بهلاء لا تكتفي بأسطورة واحدة أو أسطورتين، بل تتوق إلى الأكثر، فيقال إن الأختين، غيثاء وميثاء، كانتا تعيشان في الولاية فأتقنتا علوم الجن والسحر، وكما يحدث في أفلام هوليوود فقد سخرتا علومهما لمساعدة الأهالي فأكسبهما ذلك حب الناس وتقديرهم، وكانت بجوارهما مملكة يحاول حاكمها التمدد والاستيلاء على المدينة، مما أجبر الوالي على دفع الجزية، ورأت ميثاء وغيثاء ما أصاب الناس من ضيق العيش بسبب هذه الجزية الظالمة فقررتا التصرف، وذات ليلة شيّدتا سورًا فاجأ الناس صبيحة اليوم التالي، كأنهما جنّيتان طلبتا عون أهاليهما لبناء السور في ليلة واحدة.

صعودًا إلى القلعة
في أواخر ديسمبر من عام1987م قررت اليونسكو إدراج قلعة بهلاء ضمن موسوعة التراث العالمي، المبنى التاريخي الجالس على تلّة صخرية حارسة للمكان محفوفة بواحات النخيل، مبتهجة تبدو تحت شمس ربيعية تدفعنا إلى تحمّل النبش في زواياها بعين تحاول أن تستقرئ تاريخ أكبر وأقدم قلعة في عمان قدر المستطاع، فتاريخ بنائها يعود إلى الألف الثالثة قبل الميلاد، مرتبطة بالحضارات القديمة كتلك التي في بلاد فارس
وما بين النهرين، لكن المصادر تشير إلى أنها بنيت على فترات مختلفة، فالجزء الشرقي الشمالي (القصبة) بني قبل الإسلام، بينما الجزء الشرقي الجنوبي يعود بناؤه إلى عصر دولة النباهنة، الأسرة التي حكمت عمان خمسة قرون، وبني بيت الجبل، الكائن في الزاوية القريبة من شمال الحصن، في العقد الأخير من القرن الثاني عشر الهجري (الثامن عشر للميلاد)، أما بيت الحديث فتم بناؤه في منتصف القرن الثالث عشر الهجري (التاسع عشر للميلاد).
تجلس القلعة الحارسة بشكلها المثلث تقريبًا تسرق الأنظار إليها من كل حدب وصوب، لها واجهة جنوبية تبلغ مساحته 112.5 متر، في حين تصل الواجهة الشرقية إلى 114 مترًا، أما السور الشمالي الغربي المقوس فيبلغ طوله 135مترًا، ويصل إلى برج الريح، وبالقلعة حوالي 7 آبار، وخمسة أبراج.

بين حارتي العقر وصالح
لا تكتمل منظومة السير بين أساطير الطين في بهلاء دون المرور على حارتين، العقر وصالح، ومع أن الأولى معروفة لكن الثانية من المهم الإشارة إليها.
في عمان يوجد مسمى «حارة العقر» في الكثير من الولايات والقرى، لكن لعقر بهلاء مكانة مختلفة، فهي من الحارات التاريخية المعروفة كأحد نماذج التجمعات السكانية حسب الطراز المعماري العماني التقليدي، ووقوعها ضمن واحة بهلاء الأثرية، وداخل السور، أوجدها ضمن مواقع التراث العالمي لمنظمة اليونسكو، ويشير الباحثون إلى أنه عثر على بقايا مدافن في موقع مسجد الجامع بما يدلّ على أنها كانت مأهولة بالبشر منذ مرحلة ما قبل الإسلام، ويقدرون ذلك بالألفية الثالثة قبل الميلاد.
والدخول إلى الحارة دخول إلى تاريخ تكاد تسمع صوت الأمس بين زوايا البيوت الطينية، والتي تبلغ نحو 177 مبنى لا تزال تحتفظ بشكلها الأصلي، فيما اختلطت نحو 23 من مبانيها بمزيج من القديم والحديث، هي جارة القلعة والجامع التاريخي، والساكنة على سفح تلة تتيح لها تفردًا في المناعة والرؤية، فهي محاطة بواحات النخيل، ويأتي إليها «فلج الميثاء»، أحد أكبر أفلاج الولاية، من باب «النارجيلة» مارًا أسفل بعض بيوتها، كنهر صغير يتدفق بالحياة، فيروي بشرها وشجرها، ويتوضأ منه المصلون وهم يتجهون إلى مسجد «عاصة كمكان».
وفيما كانت ولاية بهلاء عاصمة النباهنة، فإن حارة العقر قلبها النابض، وكانت مجتمعًا بشريًا متماسكًا، يسكن فيه نحو 12 قبيلة، ورغم جريان مئات السنين على بيوتها، فإنها تعطي دلالات واضحة على مستويات اجتماعية رفيعة، ويتجلّى ذلك في نقوش أسقفها الدقيقة والجميلة، كأن هذه الجدران التي بقيت متماسكة تواطأت مع الدهر قليلًا ليذر منها الكثير مما يمكن قراءته عابرًا تخوم الزمان، بين تلك البيوت هناك ثلاثة معدودة ضمن بيوت المال، وقد كانت مساكن لملوك سابقين من بني نبهان، وكانوا يتسمّون ملوكًا، وليسوا أئمة، كما جرى العرف السياسي في عمان قديمًا.
على المدخل الشرقي للحارة يدفعنا التاريخ لحكاية أخرى، هناك بستان نخيل ضمن الوقف لمدرسة حارة صالح لتعليم القرآن الكريم (الكتاتيب)، وتشير المصادر التاريخية إلى أن الاسم ينسب إلى قبيلة الصالحي التي سكنتها قديمًا، والمفارقة أنه لم يتبقّ أحد منهم فيها، حيث هاجرت إلى مناطق أخرى، وبقيت منازلهم قائمة حتى عصر الإمام سالم بن راشد الخروصي، إلا أن مسؤول بيت المال آنذاك اقترح عليه هدم بيوت الحارة وإدخالها ضمن بيت مال المسلمين لهجرة أصحابها دون رجعة، فزرعت بالنخيل.

في حضرة مساجد العبّاد
على جهتي الشمال والشرق من القلعة، وخارج السور، تتناثر ثلاثة مساجد تبدو كالأطلال، بنيت منذ ما لا يعرف من السنين وفق الطراز العماني القديم، أي بذات النموذج لعمارة المساجد في العصر النبوي الأول، حيث بساطة المعمار والزهد في البناء فتغيب النقوش والزخارف، مغطاة أسقفها بجذوع النخيل، بينما ترتفع الأساسات بالحجارة لتكتمل حتى السقف بالطوب المصنوع من الطين والقش، لا توجد لها محاريب واضحة، لكن من الداخل يمكن رؤية تميّزها بالأقواس، ومساحة كل مسجد نحو 50 مترًا مربعًا فقط. 
ولا تخرج مساجد العبّاد (الطينية) من زحف الأساطير إليها، فحين تغيب حقيقة الأشياء تعوّض الذاكرة الشعبية ما نقص من معلومات، من حيث إن المنطقة كانت مأهولة بالسكان أو منعزلة، وما يدخل بين هذين الاحتمالين من قصص تغذّيها طبيعة المكان بحكايات تتراوح بين السحر والجن، والاضطهاد الديني، ورغبات الانعزال والوحدة لدى بعض العارفين، لكن الباحثين يشيرون إلى أن الناس الذين استوطنوا تلك البقعة هجروها لاحقًا لأسباب مجهولة، فبقيت تلك المساجد مهملة واندثرت مع جريان السنين.
نخرج من سطوة أساطير الطين لنيمّم وجوهنا نحو جامع السلطان قابوس ببهلاء الذي تشمخ مناراته في «المعمور» متمددًا في مساحته على نحو 40 ألف متر مربع ويمكن رؤيته صرحًا بديعًا بقبّتيه الرائعتين على الشارع الرئيسي الموصل إلى عدة محافظات في عمان، وهو ضمن مجموعة كبيرة من المساجد التي بناها السلطان قابوس رحمه الله في عدد من ولايات عمان المعروفة.
الداخل إلى الجامع يؤخذ بفخامة الإبداع الهندسي؛ حيث كل ركن يمثّل مقصدًا للمصورين، فالزخارف التي تزيّن جدرانه تتلاقى مع جماليات الأقواس، علما أنه يتسع لأكثر من ألفي مصلٍ في صحنه الداخلي، بينما تغطى أروقته الخارجية لتضم مثل هذا العدد من المصلين، وهناك مصلى للنساء لنحو 300 مصلّية، وبالجامع مكتبة ومدرسة لتحفيظ القرآن الكريم.
وفيما نتحدّث عن «العبّاد» لا يمكن أن تذكر بهلاء من دون أن تستحضر سيرة واليها وقاضيها الشهير الشيخ أبو زيد عبدالله بن محمد الريامي عام 1334هـ/  1913م والذي بقي فيها نحو ثلاثين عاما، وتولاها في عهد الإمام سالم بن راشد الخروصي، ثم أقرّه الإمام محمد بن عبدالله الخليلي على الولاية والقضاء حينما تقلّد الإمامة كآخر إمام على المناطق الداخلية من عمان قبل أن يقوم السلطان سعيد بن تيمور برفض تنصيب إمام جديد بعده، مما اضطرّ الإمام المنتخب غالب بن علي الهنائي إلى اللجوء للجبل الأخضر، وتحت ضغط القصف الإنجليزي للجبل خرج إلى السعودية ليعيش فيها حتى توفّاه الله قبل عدة سنوات، وهكذا أصبحت سلطنة عمان بمسمّاها الحديث بعد أن كانت سلطنة مسقط وعمان.
عرف عن أبي زيد الريامي ورعه وتقواه وجهوده الإصلاحية، وحوّل بهلاء إلى منطقة اقتصادية ومكتفية ذاتيًا، بصيغة العصر الحالي، قادرة على دعم جيش الإمام الخليلي في حروبه الداخلية حينما كان يستريح في بهلاء بالعتاد والطعام، وبنى المخازن للغلال ولكل ما من شأنه إعادة تدويره ليوفر رزقًا للمحتاجين، ومنح مكافأة لكل من يقتل الزواحف والحشرات التي تؤثر على الإنتاج الزراعي، وهناك عشرات الأمثلة على زهده وأعماله، كما أن له عدة مؤلفات في الدين واللغة.

تحت سطوة «جبرين»
مضينا نقطع الدرب إلى منطقة «جبرين»، والتي تبعد عن مركز ولاية بهلاء نحو 20 كيلومترًا تقريبًا، هناك يشمخ حصنها الشهير، حصن جبرين، أجمل حصون عمان، أو بالأحرى هو قصر كان يقيم فيه الإمام وعائلته، لكنه كان أيضًا حصنًا دفاعيًا وقت الحروب، أما في عصر السلم فإن القصر أصبح منارة علم حقيقية، كون أن الحاكم كان يجمع بين السلطتين السياسية والدينية، لذلك فإن علوم الدين واللغة ضمن رسالته، وربما أجلّ أهدافه.
 أشرف على بناء حصن جبرين وتصميمه الإمام بلعرب بن سلطان اليعربي عام 1670م، الذي خلف والده سلطان بن سيف، باني قلعة نزوى، وهما أحد أعمدة الدولة اليعربية التي حكمت عمان قبل دولة آلبوسعيد الحالية، وقبر الإمام بلعرب موجود على الجانب الأيسر من المدخل الرئيسي للحصن، فجاء البناء مستطيل الشكل، طوله 42 مترًا وعرضه 22 مترًا، تتوزع أركانه على أربع جهات، ومكوّن من خمسة أدوار ويضم 55 غرفة، وتخترقه ساقية الفلج لتزويد سكان القصر باحتياجاتهم من الماء.
تأمل الحصن / القصر من الخارج، وهو القابع وسط واحات نخيل تمتد على تلك السهول، فهو يمنح المرء خيالًا خصبًا للرجوع إلى تلك الأزمنة القديمة، وكأن الجيوش تملأ الساحات، والمدافع القابعة على مداخل المكان تهيئ نفسها لحرب ضروس، والمقاتلين يتفادون نقاط التصويب من أعلى أسوار الحصن، لكن داخله ليس إلا تطواف في عالم فني، حيث الأقواس، والزخارف، والسقوف المزينة بفنون المعمار العماني التقليدي فتجد فيها نقوشًا عربية وإسلامية، هابطة على جميع الأبواب الخشب، تحفر آثارها بمهارة صائغ، علمًا أن الحصن مكون من جزأين: الأول مؤلف من طابقين على ارتفاع 19 مترًا، والثاني من ثلاثة طوابق بارتفاع 22 مترًا، ومن أهم غرفه غرفة الشمس والقمر، والتي تشهد لقاء الإمام / الحاكم بكبار زواره، للتشاور في أمور الدولة، واللافت فيها رسمة العين بالسقف، بين مجموعة من الكتابات الإسلامية والنقوش حولها، وتتميز أيضًا بوجود 14 نافذة تنقسم إلى مستويين أعلى وأسفل، بما يبقي الغرفة باردة طوال العام، حيث يدخل الهواء البارد من النوافذ السفلية كونه الأثقل، فيطرد الهواء الساخن، الأخف وزنًا، من النوافذ العليا.
أما غرفة حماية الإمام فجرى تصميمها بحيث يمكن للجنود الاختباء تحتها لحمايته خلال الاجتماع بشخص مشكوك في أمره، ولها مخابئ سرية متصلة بممرات تحتها، والسير في سلالم الحصن وممراته أشبه بمتاهة، تستشعر أن ثمة حركة ما زالت يصنعها ضغط الجدران من حولك، فتعود بك الساعة إلى زمن آخر، فهناك مربط خيل الإمام، وهناك غرفة الاجتماعات ومخازن التمور والبارود، وهذه غرفة البنات، وتمضي كأنك مدعو لمقابلة سيد القصر بعد حين.
وتبدو ولاية بهلاء مسيّجة بالقلاع والأبراج، موزّعة على عدد من القرى التابعة لها، حيث تتمدد بين ولايات «داخلية عمان»، محفوفة بتلك الجبال، وهي الأعلى في البلاد، فجارتاها ولايتا نزوى والحمراء مقصدان سياحيان مهمان في سلطنة عمان، ويمكن حصر أكثر من ثلاثين برجًا وقلعة في بهلاء، فإضافة إلى الأبرز، حصن جبرين، هناك حصون بسيا وسلوت والعقير والقراح والصرح والجبل والعقبة والمزرع وغيرها كثير، إضافة إلى قلاع مثل الصرم والعقير وغمر، بما يدل على حالة الاستنفار الدفاعية الدائمة، سواء لرد هجمات الخارج، في ظل وجود حروب أهلية ونزاعات عرفها التاريخ العماني كثيرًا وطويلًا، وبقيت معظم هذه الآثار التاريخية، والتي يعود بعضها إلى مئات السنين، دون إضافات أو ترميم.

سلوت... أسرار الأسطورة
تأخذنا أساطير الطين أكثر، وأساطين الآثار التي أبقاها الزمن، شاهدة على ما حدث هنا، نمضي نحو مواقع أثرية يرشدنا إلى تفاصيلها مدير دائرة مواقع بسيا وسلوت الأثري أحمد بن محمد التميمي، يقول إن أول الاستكشافات الأثريّة في منطقة بسيا وسلّوت بدأت عام 1973م من قبل بعثة أثريّة من جامعة هارفارد (الولايات المتحدة الأمريكيّة). وخلال عامي1974 - 1975م قامت بعثة أثريّة بريطانيّة بتكثيف أعمال المسوحات في الموقع. ومع بداية الثمانينات بدأت أعمال التنقيب بالتعاون مع بعثة أثريّة بريطانيّة أخرى من جامعة برمنجهام، مضيفًا أن الحقبة الزمنيّة بين عامي 2004 و 2019 شهدت زيادةً في أعمال الاستكشاف الأثريّ في سلّوت من خلال التعاون مع بعثة أثرية من جامعة بيزا بجمهوريّة إيطاليا. وقامت البعثة بأعمال تنقيب وترميم لحصن سلّوت، والعديد من المقابر التي تعود إلى العصر البرونزيّ في جبل سلّوت.  كما تم التنقيب في برج العصر البرونزي (ST1) والخنادق المحيطة به. وقد كشفت أعمال التنقيب الحديثة في سهل سلّوت، عن قرية أثريّة ومقبرة تعودان للعصر الحديدي. وإلى جانب أعمال التنقيب والترميم، تم إجراء دراسات جيولوجيّة مفصلة بالتعاون مع جامعة ميلان الإيطالية لإعادة تصور المشهد الثقافي القديم، وتطور أنظمة إدارة المياه في المنطقة، ومنذ عام 2015تم التعاون مع بعثة أثريّة فرنسيّة لإجراء عمليات تنقيب في البرج الأثريّ (ST2) الذي يعود للعصر البرونزيّ. وقد قامت البعثة إلى جانب ذلك بعمل خرائط تفصيليّة للمواقع الأثريّة غير المكتشفة باستخدام تقنيات متقدمة للتوثيق الرقميّ، ولا تزال البعثة تعمل في مواقع أخرى ببلدة بسيا.
ويضف التميمي أن منطقة سلّوت كانت مأهولة بالسكان بشكل كثيف على امتداد العصر الحديدي بأكمله. وقد شُيد حصن سلّوت حوالي 1300 قبل الميلاد على قمة نتوء صخريّ في مكان كان يحتوي على قبرين من العصر البرونزي. وقد تم في البداية تسويتها لإقامة منصة ضخمة من الطوب الطينيّ، وتطلب هذا العمل جهدًا منسقًا من خلال التخطيط لعمليات البناء وحشد القوى العاملة اللازمة، وخلال مرحلة الاستيطان المبكر، في الحقبة الزمنيّة من 1300 - 600 قبل الميلاد، كانت قمة التل تضم منصة كبيرة من الطوب الطينيّ محاطة بالعديد من المباني، والتي دمرها حريق كبير في حوالي 1100 قبل الميلاد، وبعد تلك الكارثة شُيد مبنى كبير آخر على أعمدة بجوار منصة الطوب الطينيّ تلك. 
ويشير التميمي إلى أن التنقيبات الأثريّة التي أُجريت في الحصن كشفت عن بعض المقتنيات الأثريّة مثل: مرجل برونزيّ كبير، والعديد من الثعابين النحاسيّة المصغرة، التي يبدو أنها تدل على أن المنطقة كانت تُستخدم للتجمعات الاحتفالية، أو الطقوس الدينية. كما اكتشفت مبانٍ مماثلة في العديد من مواقع العصر الحديديّ في جميع أنحاء جنوب شرق شبه الجزيرة العربيّة، وقد شُيد الجدار الصخري، والذي لا يزال يحيط بالموقع ويمنحه مظهرًا محصنًا مثيرًا للإعجاب، في حوالي 600 قبل الميلاد وظل قيد الاستخدام حتى عام 200 بعد الميلاد عندما هُجر موقع العصر الحديدي في النهاية.
وتشير المقتنيات الأثريّة التي تم جمعها، إلى استمرار التبادل التجاري بعيد المدى، حيث تم العثور على مقتنيات غريبة تتضمن أواني زجاجية جميلة مستوردة من الحضارة الرومانيّة، وأواني مزججة، وأطقم شرب برونزيّة للمآدب إيرانية الأصل، وبالإضافة إلى هذه المقتنيات الفريدة المستوردة،  عُثر أيضًا على لُقى منتجة محليًا تنتمي إلى ما يسمى بثقافة «سمد» التي ميّزت عُمان في العصر الحديدي المتأخر.
ويؤكد أحمد التميمي، أنه ووفقًا للروايات التاريخية المحلية، كان سهل سلّوت أيضًا مسرحًا للمعركة الحاسمة التي حررت البلاد من الغزاة الساسانيّين، وفتحت الأبواب لانتشار الإسلام في جنوب شرق شبه الجزيرة العربية، ومع وصول الإسلام إلى المنطقة أعيد استيطان سلّوت بعد هجرها مدة طويلة.
ويشير التميمي إلى أن عمليات التنقيب في مواقع مختلفة في سلّوت أسفرت عن العثور على مجموعة استثنائية من الأختام والقلائد، إذ عثر علماء الآثار في برج العصر البرونزي (ST1) على ختم مطابق لأختام حضارة وادي السند من ناحية الشكل، والزخرفة، وعلامات الكتابة المستخدمة، لكنه مصنوع من حجر أملس محليّ، ويرجح أنه صنع لتاجر من وادي السند قدِم إلى داخل عُمان للتجارة بالنحاس والمعادن الأخرى.
كما عُثر على العديد من الأختام والقلائد في مواقع العصر الحديدي صنعت على أشكال هرمية غير منتظمة، وأشكال مستطيلة بزوايا دائريّة، تمثل زخارف بسيطة، لكنها مميزة بأشكال نجومٍ، وأنماط إشعاعية، وخطوط، ونقاط. كما زُيّنت أختام العصر الحديدي الأسطوانيّة بشخصيّات بشريّة ممسكة بأيدي بعضها البعض، ورموز نجميّة، وحيوانات وأشجار.
وبما أن علماء الآثار لم يعثروا في عُمان حتى الآن، على دليل للاستخدام الإداريّ للأختام لإضفاء الطابع الرسميّ على الاتفاقيات، أو إدارة المستودعات، فقد يُنظر إليها في الأصل على أنها مقتنيات مرتبطة بالرفاهية، أو تمائم ذات قوى سحريّة.  وعلى عكس الحضارات المجاورة، التي تم تنظيم مجتمعاتها في هياكل هرمية صارمة، كان المجتمع العُماني قائمًا على التحالفات القبلية وروابط القرابة، وقد تكون المعاهدات والاتفاقات مبنية على الثقة المتبادلة بدلًا من الإجراءات الإداريّة.
ويمضي التميمي في الحديث عن آثار المنطقة، فيتحدث عن زخارف الأفعى في العصر الحديدي، حيث بدأ ظهور أشكال الأفاعي في عُمان بشكل كبير خلال العصر الحديدي المبكر في القرون الأخيرة من الألفية الثانية قبل الميلاد في تاريخ عُمان القديم. وأكثر ما يميز هذه المجسمات هو الأفاعي الملتفة المصنوعة من النحاس، أو البرونز، إما مصبوبة بشكل كامل في قالب أو مشذّبة من صفائح معدنيّة، وفي كلتا الحالتين تم إبراز تفاصيلها الدقيقة مثل: الفم، والعينين، والحراشف التي تغطي جسمها، كما أصبحت الأفاعي المُلتفة عنصرًا زخرفيًا شائعًا على الأواني الفخاريّة. وغالبًا ما توضع على جرار التخزين الكبيرة، أو تزحف على حامل وكوب المباخر، كما عُثر على نوع من الأواني التي تعود إلى هذه الفترة، ولها مقبض طويل مزيّن بخطوط محززة تُذكر فورًا بحراشف الأفعى، وغالبًا ما يُزين فم الثعبان، والعينان الطرف الخارجي للمقبض، ونظرًا لعدم توافر المصادر المكتوبة، فإنه من الصعب فهم المغزى الحقيقي الذي تمثله هذه الأفاعي لدى مجتمعات العصر الحديدي في عُمان؛ إذ توحي الرؤوس المثلثة والحراشف الكبيرة بأنها أفاعٍ سامة وقاتلة. وبما أن العصر الحديدي في عُمان تميّز بإدخال نظام الأفلاج، مما سمح بتوسع الواحات المزروعة في الأراضي البريّة؛ لذلك ربما أصبحت الأفاعي السامة رمزًا قويًّا للخصوبة المتعلقة بالمياه والتربة.
تشير المصادر التاريخية إلى أن سلّوت شهدت المعركة الكبرى بين مالك بن فهم، العربي القادم من اليمن بعد انهيار سد مأرب، والفرس الذين كانوا يستوطنون عمان في تلك الفترة، ما قبل الإسلام، فكانت معركة سلوت التي انتصر فيها العرب، وأمهلوا الفرس ما طلبوه من مهلة لمدة سنة، لكنهم عندما نقضوا عهدهم انتصروا عليهم مرة أخرى في معركة قلهات.

في كل سنبلة
 في قسمات الطفل تبدو الحكاية أعمق، بهلاء تحصد السنابل، وقمحها مال على سوقه، يعجب الزرّاع، لكن عيني الصغير تكتب سطرًا مدهشًا، بجانب أبيه يعيش أسطورته الخاصة، ستمكث في مفكرة حياته ما سيكتبه الله له من عمر، فلا شيء كدهشة الطفولة يبقى، ولا كذكرياتها العابقة بزهر الليمون ورائحة طلع النخيل ومشاهد أعواد القمح تميل على وقع نسمات تختال بين واد وجبل، فتلك الهضاب ملاعبها، وأنت أيها العابر ترنو إلى السماء فتتبلل بعبق الخصب وإن كانت السماء غاية في الزرقة.
في إحصائية رسمية لعام 2021 جاءت ولاية بهلاء الأولى في زراعة القمح على مستوى سلطنة عمان، فقد بلغ إنتاجها أكثر من 700 طن على مساحة مزروعة تقارب 450 فدانًا.

إلى مكتبة الندوة
يأخذنا موظف المكتبة، الشاب المصري أحمد في تطواف سريع بين أركان «مكتبة الندوة»، لنقرأ على أرففها آلاف العناوين، في قاعات مسمّاة بأسماء علماء عرفتهم ولاية بهلاء بآثارهم العلمية الشاهدة على عطاءاتهم  كالشيخ ابن بركة البهلوي وأبي سعيد الكدمي وعائشة الريامية وغيرهم. إصدارات من شتى بقاع الوطن العربي، ما يقارب الخمسين ألف كتاب تتوزّع على أرفف العرض، وفي زاوية من زوايا المكتبة لمحت «ركن السلطان قابوس» وعلى أرففه مجموعة من الكتب التي تناولت فكره وشخصيته، علما أن هذا الركن افتتحه السلطان هيثم بن طارق حين كان وزيرًا للتراث والثقافة، وقبل ليلة من زيارتنا للمكان نظمت المكتبة محاضرة عن فكر السلطان قابوس.
سمّيت الندوة باسم «الحارة» التي تأسست فيها داخل غرفة واحدة للمرة الأولى عام1996م، وكبرت لتكون في المبنى القديم لمحكمة بهلاء، لكنها تحتاج إلى مبنى عصري تتحقق فيه شروط المكتبات الحديثة، وهذا ما سيتم البدء فيه قريبًا، بإنشاء مبنى متكامل تستحقه «الندوة»، التي تعد من أبرز المكتبات العامة على مستوى عمان ونالت جائزة السلطان قابوس للعمل التطوعي، علمًا أن عدد من لديهم بطاقة استعارة والمنتظمين من الجنسين أكثر من 5300 قارئ. 
وفيما كنّا نقول سلامًا لبهلاء عرّج بنا الصديق المصور عبدالله العبري على مدرسته، والتي تحمل اسم باني حصن جبرين الإمام بلعرب بن سلطان، فهذا العبري الشغوف بالتصوير والقراءة يعمل مدرس رياضيات، يروي لنا قصة المدرسة، والتي أقيمت بدايات السبعينيات، أي بعد عامين من تولي السلطان قابوس مقاليد الحكم في عمان، مبنى يحمل في الصباح اسم مدرسة للذكور، وفي المساء يكون «مدرسة عائشة الريامية» كصرح تعليمي للبنات، وبقي هذا الوضع حتى عام1982م، حتى انضمت في عام2012 المدرسة إلى شبكة المدارس المنتسبة لليونسكو التابعة للجنة الوطنية العمانية للتربية والثقافة والعلوم، والتي تُعنى بأهداف التنمية المستدامة والأيام العالمية التي تحتفل بها اليونسكو مثل اليوم العالمي لمحو الأمية واليوم العالمي للتعليم واليوم العالمي للمياه واليوم العالمي للتراث، وقد برز اسمها عالميا ليترجم ذلك بالتوأمة مع دولة قطر وسلطنة بروناي في مجال اللغة والمبادرات والتراث، وتبادل المشاريع المختلفة بين الطلبة ■

يفيض وادي بهلاء في مواسم الأمطار فتتبعه عين الراصد بالمحبة، في حوار بين الماء والصخر

فنجان قهوة وحبات تمر، على بساط اليوم، ليرووا لنا ما قاله الأمس

 قد تبدو الأمكنة خاوية لكنك تكاد تتعثر بالحكايات وأنت تسير بين الأبواب العتيقة

«النقصة» الشهيرة بناء جديد حلّ مكان السابقة بما حملته من أساطير، لم يعد السحرة هنا، غادروا حتى ذاكرات الناس، خاصة الأجيال الجديدة

 زايد العدوي علاقة قديمة مع الطين، حتى طوّعه بين يديه بمحبة باذخة المعنى

... وتستمر العلاقة تتناقلها الأجيال، فالتربة والماء حينما يلتقيان يضعان بصمتهما في ذاكرة الأمكنة

القلعة على مسطبة المكان: قراءة في عمق التاريخ... ونظرة علوية لامتدادات واحات بهلاء

حارس قلعة بهلاء شاهد على أولئك الذين عبروا هذا الباب عبر قرون من الزمان

بوابة بهلاء، إحدى البوابات التي ظهرت قبل سنوات في عدد من الولايات العمانية الكبيرة وهي تستقبل زوارها 

صائغ الذهب والفضة يبقى يضع نقوش الزمان على إسوارة اليوم، والخنجر أحد العناصر الأساسية في هذه الصناعة بولاية بهلاء

 ضريح الإمام بلعرب بن سلطان اليعربي  باني الحصن 

لقطة فنية تظهر جماليات الحصن / القصر  التي ما زالت محتفظة ببهائها كأن سكانه يمضون يومهم بين حيطانه البهية

فن الرزحة أحد الفنون الشعبية العمانية... يقام في ساحة حصن جبرين خلال مناسبة ما

 بين يديه تتساقط حبات القمح كأنها عملات ذهبية، قليلة تبدو بين يديه لكنها كبيرة في قلبه وروحه 

الفرس والفارس، والقصة مكتوبة ببهاء العلاقة الأثيرة بينهما 

لحظة التشوق والإثارة لنيل قصب السبق تحتاج إلى بعض المجازفة من المصور أيضًا