الروائي الكويتي خالد النصر الله: العمل الأدبي لوحة فنية

الروائي الكويتي خالد النصر الله:  العمل الأدبي لوحة فنية

يرى الروائي الكويتي خالد النصر الله، أن الروائي يجب أن يكون موسوعي الاطلاع ويملك قدرة ملاحظة عالية، كما عليه أن يمنح نصه الديمقراطية الكافية لعرض القضية. كما يشدد النصر الله على أن التاريخ جزء من الحاضر، ويحمل مخزون المعرفة والتجربة الإنسانية، ومنها تُبنى عوالم الرواية. وفي الهمّ الأدبي، يؤكد النصر الله أن الترِكة الأدبية الثقيلة تحتاج إلى محاولات حثيثة من الأدباء للإضافة عليها، والبحث المثابِر عن قوالب مختلفة للتعبير عن الإنسان وقضاياه بشكل معاصر وقريب، وهذا يأتي من خلال التجريب. تفصيلات كثيرة يثيرها الروائي خالد النصرالله في حواره الثري مع «العربي».

 

 ● كنت قد حصلت على المركز الأول في مسابقة قصص على الهواء لمجلة العربي، ووصلت روايتك «الدرك الأعلى» إلى القائمة الطويلة لجائزة زايد العالمية للكتاب، فماذا كان الحافز والشعور النفسي لديك في خطوات إيجابية قطعتها تجربتك مبكرًا على هذا النحو قبل وصول روايتك الأخيرة الى القائمة القصيرة للبوكر 2022؟
- جزء من الكتابة يعتمد على تنضيد الكلمات بشكل متسق متجانس، يمنح القارئ مشاعر انسيابية السرد والاتزان، وكان هذا أول ما أجدته من مهارات الكتابة لأنها جزء من شخصيتي، وهي البوابة التي أثارت إعجاب الآخرين حين كنت أنشر بعض المقالات والتحقيقات الخاصة على مواقع الإنترنت، والتي دعت إحدى الصحف المحلية لتقديم عرض عمل لي وأنا لم أتجاوز العشرين من عمري، ومنها فطنت إلى نبوغ هذا الجانب وعكفت أعمل على تطوير عناصره الأخرى، فتلك هي ثقة الإقدام التي حفزتني منذ مراهقتي، والتي قالت لي بصوت واضح أنني بإمكاني المضي إلى مكان بعيد وتحقيق النجاحات، بمزيد من الاجتهاد والاشتغال. 
● كعادة أعمال أخرى، استقبلت بعض رواياتك بحفاوة، لكنها ربما جمعت عفوية التلقي، أو الانطباع العاطفي حينًا، غير أن ما يلفت، في توظيفك للحكاية الوقوف أمام شخصية الطفل المسيحي بيشوي؟
- أعمل حاليًا في وظيفة معلم تربية رياضية، وما قادني إلى تناول شخصية بيشوي في رواية «زاجل» حين وجدت أحد التلاميذ يقف في الممر المجاور للفصول أثناء سير الحصص الدراسية، فأخذته إلى مشرف الجناح بعد أن برر سبب وجوده في هذا المكان هو حصة التربية الإسلامية، لم أفهم في بادئ الأمر لكن المشرف شرح لي لاحقًا أن الفتى مسيحي، وهو معفى من حصة التلقي الديني، وقد استقبلت هذه المعلومة على نحو متنافر، من الجيد احترام دينه لكن تمييزه بين جموع الطلاب من الدين الآخر أيضًا من شأنه أن يسبب له المتاعب، فهذا الموقف جعلني أكتب عن هذه الحالة باستفاضة.
● في سردك تركيز على عائلة عربية مصرية في كويت الثمانينيات، هل كانت قصدية طرح إشكالية الهوية بين التشظي والاغتراب ماثلة أمامك في كتابة الرواية؟
- هذا صحيح، لقد تناولَت رواية «زاجل» قضية الهوية من جانب مختلف، وبقصد طرح السؤال الماثل، هل الانتماء مرتبط بالتاريخ الشخصي أم الأصل الجيني؟ فالفتى بيشوي تربى عند شخص كويتي مسلم، وهو مصري مسيحي، وكانت حياته في شقة «العم» حياة رغيدة خالية من المتاعب، بينما كان الآخر يدفعه لزيارة الكنيسة أو حتى العودة إلى أسيوط للتعرف على نفسه، في المقابل وجد بيشوي صعوبة بالغة في مسايرة هذا العرض، رغم محاولته التوصل إلى والدته لأنه تركها حين كان صغيرًا جدًا ورحل مع والده إلى الكويت، والذي توفي فيها.
● إلحاح فني في توظيف الزمن، «بداية موفقة، سرد روائي جميل، لغة متمكنة. رواية مليئة بالغموض، والأحداث خلفت وراءها الكثير من الأسئلة». ربما راود البعض رأيًا كهذا حيال ما كتبته؟
- الرأي الأدبي خاضع لاعتبارات كثيرة «منها قدرة التلقي، مخزون وتنوع القراءات، الإلمام بالنقد، الانطباع العام، موضوع الرواية، لغة النص» وربما هناك عوامل أكثر، وكل ما سبق مرتبط ارتباطًا وثيقًا بالذوق الشخصي، وهناك عامل آخر مؤثر ومهم، مزاج وقت القراءة، بعض الكتب تقرأها، في وقت تكرهها وفي وقت آخر تحبها، يحدث هذا كثيرًا، لذا أنا لا أحب أن أبدي رأيي علنًا في عمل أدبي، لأن هذا الرأي يخصني فقط وغير ملزم لأي شخص آخر.
●  في عمل روائي ذكي استخدمت فيه أدوات وتلميحات إشارية، وفيه من الانتباه والمنطقية الكثير بشأن تضاد المثقف وسلطة الرقابة، وبخصوص ما يتعلق بالمسكوت عنه حول موضوع الكتب والمصادرة والحرق... ما الأسئلة التي راودت خالد النصر الله عند صعود «الخط الأبيض من الليل» إلى «قصيرة البوكر»؟
- تساءلتُ عن الطريقة المثلى للتعامل مع المرحلة المقبلة، أخشى كثيرًا من الارتباطات التي قد تأخذني عن أوقات الانكفاء على النفس والاشتغال في المشروع الأدبي المقبل، وكنت على يقين بأن هذه المرحلة المهمة ستأخذ حصتها من الوقت الذي لن أستطيع أن أمنح ولو جزءًا منه لغيرها. الجوائز مهمة وتخبر الكاتب بأشياء كثيرة وجميلة عن عمله، لكنها أيضًا تحملك ضريبة مقابلها.
● ضمن رواياتك القائمة القصيرة الخمس، كنت إلى جانب زميلك الروائي الليبي الشاب المتوج محمد النعاس من المحظوظين عمرًا قياسًا بمنجزكما الروائي الجديد، والذي استحقت من خلاله تجاربكما اللافتة كشابين تقديرًا واسع النطاق، هل توقعت مصادفة فوز روائي شاب في أول عمل له بالبوكر؟
- في الحقيقة لم تخطر ببالي أي احتمالات، لأن ما أعرفه أن الجائزة تتعاطى مع الرواية الماثلة وليس تاريخ الروائي، وقد وصلت أسماء مهمة كبيرة في القوائم القصيرة ولم تفز، وبعض الأسماء الأخرى لم تصل نهائيًا، ما يميز جائزة البوكر أنها تختار 16 عملًا مهمًا من بين الجموع المتقدمة، وهذا النظام يحسب لها لأن التحكيم الأدبي خاضع لاحتمالات كبيرة ومفتوحة، فمن الجيد أن نكشف عددًا من الأعمال التي لفتت انتباه اللجنة بدل أن نختزلها في عمل واحد توصلت إلى اختياره بعد نقاشات عديدة ومراحل تصفية كثيرة لا يعرف عنها المتلقي. 
● تشهد «بورصة الرواية» إن جاز التعبير زخمًا وطفرة في عرض الكتب والنشر والجوائز وتلقي «دروس خصوصية» في الكتابة أيضًا، برأيك، إلى أي مدى استطاعت رؤية البوكر الجائزة، وسط كل هذا العجيج السردي الحاصل، تحديث وتطوير معاييرها تجاه موجة الكتاب المبدعين الجدد في العالم العربي؟
- لا أعتقد أن الجائزة قد طورت معايير الاختيار الفني مع تقادم الزمن، أظنّها عدّلت بشروط تقديم الأعمال فقط، لأن اللجنة تتغير من عام إلى آخر، وكل لجنة تضع الأسس التي من خلالها تختار العمل، رغم التكهنات التي يضعها الناس حول أسباب اختيار الأعمال (الموضوعات، التجريب، المحاصصة، والأعمار المتقدمة) وكل هذا غير صحيح، في الدورة التي شاركت فيها على الأقل، ويبقى الجانب الفني بكل عناصره هو السبب الأصل.
● كسارد،  ما علاقتك بالتاريخ أو سياقاته، موقفك من التجريب، مدى أو حيز الجملة لديك، لغة السرد، فعل الكتابة، فضاء التخييل، التيمة كمعالجة داخل فكر الرواية ذاتها؟
- الروائي يجب أن يكون موسوعي الاطلاع، ويملك قدرة ملاحظة عالية، ويمنح نصه الديمقراطية الكافية لعرض القضية، فالتاريخ جزء من الحاضر، ويحمل مخزون المعرفة والتجربة الإنسانية، ومنها تُبنى عوالم الرواية، أما عن التجريب فأرى أن الترِكة الأدبية الثقيلة تحتاج إلى محاولات حثيثة من الأدباء للإضافة عليها، والبحث المثابِر عن قوالب مختلفة للتعبير عن الإنسان وقضاياه بشكل معاصر وقريب، وهذا يأتي من خلال التجريب، أما لغة السرد فأنا أميل إلى التكثيف والاقتصاد، وعدم التفريط في المعاني الكثيرة الكامنة داخل المفردة الواحدة، لأن الإسراف في الكلمات يفقدها قيمتها وزهوها، أما فضاء التخييل فأفضله أن يكون مطلقًا، متحررًا من قواعد الحياة الطبيعية، الفن الجيّد هو الذي يكسر المتعارف عليه، ويخلق للجديد منطقه الخاص الذي يقتنع فيه القارئ وفق الإطار الذي يحوّط المتن، وهذا نجده بوضوح في الأدب اللاتيني، وربما الآسيوي، أما التيمة والفكرة فهما جنسان متشابهان، يعمل صوت الروائي الخاص على إعطائهما الروح اللازمة التي تمنح العمل الفني خصوصيته بين الأعمال المشابهة.
● يبدو في ثنايا باكورتك الروائية «سمات من تأثير بول أوستر، هل تجد أن شغف التلقي لديك يشبه» دهشة القراءة الأولى لأعمال كاتب روائي عرف بـ(كتاب الأوهام) وتقنية الإغماض ولغة الاقتصاد رغم طول الجملة أحيانًا؟
- تأثرت بإحدى تقنيات بول أوستر الكتابية فقط، بالتحديد في روايته «ليلة التنبؤ»، وهو كاتب كبير بلا شك يجيد خلق رواية ممتعة من قصة عادية جدًا، لكنني كما جاء في السؤال، شغوف بالبحث عن رواية تمنحني شعور تلقٍ يشبه القراءات الأولى، وأنا مؤمن ما حييت، سأجد كل مرة نصًا بإمكانه أن يزودني بمشاعر الغبطة التي هي المحرك الأساسي للبحث عن جديد في كل كتابة.
● صناعة التيه و(اختراع العزلة)... عناصر وظفها أوستر أيضًا في كثير من أعماله، هل تعمدت في روايتك أن تكون كاتبًا يشرك قارئه في تفاعل المعنى المضمر أو جعله يذهب بعيدًا في تأويلاته الخاصة والمتعددة؟
- النص الجيد هو ذاك الذي يُتعدد تأويله، والعمل الأدبي عمل فني يشبه اللوحة، كل شخص يراها يكنّ حيالها مشاعر خاصة، وربما لا نحمل لها أي مشاعر، هكذا يجب أن نتقبل الآراء، وعلى هذه الفكرة يجب أن أشرك القارئ في كتابة الرواية، وإلا أصبح النص الإبداعي أشبه بالوعظ والتربية. وأنا لا أتفق تمامًا مع مقولة أن العمل الأدبي يجب أن يوصل رسالة، أو حين يتساءل السائل عما يريد أن يقول الكاتب. الرواية تقدم أفكارها عبر المشاعر، والكاتب لا يريد أن يقول، إنه فقط يعبر عن شيء آخر لا علاقة شخصية به.
● الحياة رواية لم تكتب بعد، قد يعن لنا قول ذلك، أم إن المواضيع برأيك قد تشابهت والتبست على الروائيين والقرّاء معًا؟
- نعم، الالتباس من صميم العمل الإبداعي، فنحن نستمد ما نكتبه في الرواية من الحياة التي تحاذيها - وليست التي توازيها - لأننا مهما اختلقنا القصص واعتبرناها لا تشبه حياتنا الخاصة، فهي تشبه حياة أخرى في مكان آخر، فهذه الحياة مصنوعة من قصص تشبه في عددها وتكوينها خلايا جسم الإنسان.
● تيمة الحرب في الرواية العربية، هل تراها على قدر من القوة، أو من الإسهاب وترهل بنى السرد وعناصره، أم إن الحال يوثق لمرحلة فرز هذا وذاك؟
- لا أستطيع أن أعطي حكمًا مطلقًا، ولم أقرأ كل قصص الحرب في الأدب العربي، لكن الحق... الرواية العربية زاخرة بها، وهذا أمر طبيعي لما تعيشه الأمة من أزمات متوالية، ربما لم ننجح بعد في كتابة أنشودة تولستوي الخالدة، لكن، من خلال اطلاعي المتواضع، تيمة الحرب متينة في النصوص العربية.
 ● كيف تنظر إلى فعل النشر اليوم ولك تجربة كناشر ومهتم بالترجمة في نشر إبداعات عالمية، في ظل هوجة التكاثر السردي في صحراء الإنسان والمدينة، هل يمكن عدّ ذلك حالة صحية، أم إن رحبة الرواية قد أصيبت هي الأخرى بما يسميه البعض «لوثة الشعر» كتراث على الرف؟
- الكثرة إن لم تنفع لا تضر، وعلى الجميع المحاولة والإصرار، ونحن متخلفون عن ركب النشر خارج العالم العربي، ورغم النشاط الزاخر في العقد الأخير، إلا أننا لا نزال بحاجة إلى المزيد، وتكثيف عمل الترجمة. إننا لا نعرف من الأدب والفكر الغربي سوى القليل، هناك أسماء كثيرة وكتب مهمة لم تترجم بعد، ولك أن ترى كم العناوين المترجمة المتشابهة لدى الناشرين في معارض الكتب، هذه حالة غير صحية، فالبحث عن الجديد والتنوع هو الذي يجعلنا نتقدم ■