تنمية الباطن قبل الظاهر
في محاول لتعجيل تحقيق أهداف التنمية المستدامة الـ 17 التي صدرت عن الأمم المتحدة في 2015، والتي من المفترض أن تتحقق مع حلول 2030، تأسست مبادرة أهداف التنمية الباطنية - Inner Development Goals (IDGs) - في يناير 2020 من جانب تحالف من مؤسسات K29، ونيو ديفيجشن، ومؤسسة إكسكاريت السويدية غير الهادفة للربح، وبرئاسة يان آرتم هينركسون - مدرب قيادة ومحاضر في كلية الاقتصاد بجامعة ستوكهولم. وتنطلق المبادرة من الإيمان بضرورة إحداث تحويل باطني يتعلق بجوانب متعددة من وجود الإنسان وتفاعله، كالوعي، وطريقة التفكير، والقيم، ورؤية العالم، والمعتقدات، والنمو الروحي المتجسد في صفات كالتعاطف، وأنماط السلوك والاتجاهات والتواصل مع الطبيعة.
وبهدف تثقيف الناس وإلهامهم وتمكينهم ليكونوا قوة إيجابية تعمل على تغيير المجتمع، والنظر إلى حياتهم وحيوات المحيطين بهم بصورة هادفة، قدمت المبادرة مخططًا مفصلًا للقدرات والصفات والمهارات المطلوبة لتحقيق أهداف التنمية المستدامة وبناء مستقبل زاهر للبشرية. كما وفرت حقائب وأدوات ومصادر مجانية للعمل الميداني. ونجحت في جذب عدد من الكيانات الكبرى كبرنامج الأمم المتحدة الإنمائي، وجامعتي ستوكهولم ولوند. ورحبت المبادرة بضم مناصرين من كل أنحاء العالم ودعوتها لحضور مؤتمرات قمة سنوية كالذي يعقد هذا العام في ستوكهولم.
نقطة البداية
كانت نقطة البداية عام 2019 من عاصمة السويد، حيث تجمع عدد من قادة الفكر في مجال تنمية الكبار، واتفقوا على وجود أمر مهمل في الجهود المبذولة لخلق مجتمع عالمي مستدام، وقاموا بإعداد وثيقة تحت عنوان «النمو المهم» التي وضحت أسباب عدم القدرة على مواجهة التحديات، وطالبت بالعمل على تحقيق التنمية الشخصية بصورة منظمة. كما قاموا بحصر أوجه القصور في المهارات الباطنية والقدرات المطلوبة لمخاطبة تحديات التنمية المستدامة، لاسيما ما ينقص الساسة ممن لم يحصلوا على تدريب على القيادة، أو بناء القدرات المطلوبة للتعامل الناجح مع مسؤوليتهم؛ وهو ما يجعل معظمهم يتجهون إلى مخاطبة قضايا الاستدامة من مدخل مادي علمي - تكنولوجي، بينما يحتاج الأمر إلى خلق دوافع وإكساب مهارات وتعزيز التعاون لإحداث التغيير المنشود.
وبعد نشر الوثيقة المذكورة في صحيفة سويدية، انطلق نقاش واسع حول الموضوع. وتساءل الناس عن نوع التنمية الباطنية المطلوبة بشكل محدد. ونظرًا لكون نظريات تنمية الكبار غير معروفة لغير المتخصصين، ولدت فكرة وضع إطار عمل يبسط مفهوم التنمية الباطنية ويسهل فهمه، ويحدّ من فوضى الأفكار والمشاعر فيما يتعلق بهذا النوع من التنمية.
وضعت الأهداف المذكورة عبر مراحل متعددة من العمل الدؤوب الذي بدأ بإعداد قوائم من القدرات والصفات الباطنية الضرورية للتنمية المستدامة، وتحديد المهارات المطلوبة لتحقيق أهداف الأمم المتحدة، وتبسيط تعقيد المفهوم - كما بسطت الأمم المتحدة مفهوم التنمية المستدامة بترجمته إلى سبعة عشر هدفًا - بمشاركة أكثر من ألف شخص من الباحثين والمديرين وقادة التنمية وخبراء الاستدامة، وسواهم، حيث ساهم الجميع بتقديم الاستشارات وتنفيذ مسحين لاستطلاع الآراء وجمع المعلومات، على أن تتضمن المرحلة المقبلة لعامي 2022 و2023 التحقق من صلاحية الأهداف بصورة ميدانية في أربعة عشر بلد، بالتعاون مع الشركاء المحليين، وبشكل يستوعب الاختلافات الثقافية بين الأفراد والمنظمات حول العالم. ومن بين المبادرين بتطبيق هذه الأهداف بحماس حكومة كوستاريكا التي أطلقت برامج تدريب وتوعية لقادتها في هذا الصدد.
23 مهارة في 5 مجموعات
أثمرت الجهود إعداد إطار عمل يتضمن خمس مجموعات تندرج تحتها صفات ومهارات فرعية أكدت عليها المبادرة كالتالي:
أولًا: مجموعة الوجود - العلاقة بالذات: وهي المجموعة التي تعمل على تنمية حياتنا الباطنية وتعميق علاقاتنا بأفكارنا ومشاعرنا وأجسادنا، وتعزز قدراتنا على مواجهة التعقيد. وتندرج تحت هذه المجموعة المهارات الآتية:
● البوصلة الباطنية: وهي التمتع بشعور عميق بالمسؤولية، والالتزام بالقيم وأهداف الصالح العام.
● الاستقامة والأصالة: التي تتمثل في الالتزام والقدرة على العمل بإخلاص وأمانة واستقامة.
● العقلية المنفتحة والمحبة للتعلم: التي تتضمن امتلاك قدر أساسي من الفضول، والاستعداد للاعتراف بالقصور وتقدير التغيير والنمو.
● الوعي بالذات: ويعني القدرة على البقاء في تواصل متأمل مع الأفكار والمشاعر والرغبات، وامتلاك صورة واقعية للذات، مع القدرة على تنظيم الذات.
● الحضور: وهو القدرة على أن يكون المرء في «هنا والآن» بدون إطلاق أحكام، وبصورة منفتحة.
ثانيًا: مجموعة التفكير- المهارات الإدراكية: التي تعنى بتنمية مهاراتنا الإدراكية بتبني منظورات مختلفة، وتقييم المعلومات، وفهم العالم ككل متشابك ومتداخل، للتمكن من اتخاذ قرارات حكيمة. وتتضمن المهارات الآتية:
● التفكير النقدي: وتعني مهارة المراجعة النقدية لمدى صلاحية وجهات النظر والخطط والأدلة الراهنة.
● الوعي بالتعقيد: وتتعلق هذه المهارة بفهم التعقيد والشروط المنهجية، والأسباب ذات العلاقة بقضايا التنمية المستدامة.
● مهارات المنظور: التي تسعى إلى فهم الاستبصارات من المنظورات المعاكسة واستخدامها بفاعلية.
● صنع المعنى: التي تساعد على رؤية الأنماط، وبناء هياكل للمجهول والقدرة على صياغة قصص حوله بصورة واعية.
● التوجيه والرؤية: بعيدة المدى والقدرة على صياغة التزام مستدام بالرؤى المتعلقة بالسياق الأكبر.
ثالثًا: مجموعة العلاقات - الاهتمام بالآخرين وبالعالم: حيث تعزز مهاراتنا المتعلقة بتقدير الآخرين ورعايتهم والشعور بالتواصل معهم، كالاهتمام بالجيران، وبأجيال المستقبل، والمحيط الحيوي وغير ذلك مما يساعد على خلق نظم أكثر عدالة واستدامة ومجتمعات تحتوي كل شخص. وتتضمن المهارات الآتية:
● التقدير: عقد علاقة مع الآخرين، ومع العالم، والتمتع بشعور مهم بالتقدير والامتنان والفرح.
● التواصل: امتلاك إحساس حريص على التواصل، وأن يكون الإنسان جزءًا من كل أكبر مثل المجتمع، أو البشرية، او العالم.
● التواضع: القدرة على العمل وفقًا لمقتضى الحال والموقف دون المبالغة في الاهتمام بالذات .
● التعاطف والتقمص العاطفي: وهو القدرة على عقد علاقات مع الآخرين، ومع الذات، ومع الطبيعية بصورة تشملها الطيبة والتعاطف، والسعي إلى تخفيف معاناة الآخرين.
رابعا: مجموعة التعاون - المهارات الاجتماعية: وتتعلق هذه المجموعة بتطوير القدرة على الاندماج وإتاحة الفرصة والتواصل مع أصحاب المصلحة على اختلاف قيمهم ومهاراتهم وقدراتهم، وتتضمن المهارات الآتية:
● التواصل: ويعني القدرة على الاستماع للآخرين بصورة حقيقية، وتشجيع الحوار الصادق لمناصرة وجهات النظر بمهارة، وإدارة الصراعات بصورة بناءة، وتبني التواصل مع مجموعات متنوعة.
● الإبداع المشترك: وهي الدافعية للبناء والتطوير والتي تيسر عقد العلاقات التعاونية مع أصحاب مصلحة متنوعين ممن يتمتعون بالسلامة النفسية والإبداع المشترك الحقيقي.
● العقلية المندمجة، وقدرة التقاطع الثقافي: وهي الاستعداد والقدرة على تقدير التنوع والاندماج مع الناس من أصحاب الرؤى والخلفيات المختلفة.
● الثقة: القدرة على إظهار الثقة وخلق علاقات تتمتع بالثقة والاستدامة.
● الحراك: وهي المهارة المتعلقة بإلهام الآخرين ودفعهم نحو الحراك من أجل المشاركة في تحقيق أهداف مشتركة.
خامسًا: مجموعة العمل - قيادة التغيير: وتتضمن صفات كالشجاعة، والتفاؤل وسواها، مما يعين على اكتساب عوامل مساعدة وكسر الأنماط القديمة، وتوليد أفكار تتميز بالأصالة، والعمل بإصرار في أوقات عدم اليقين، وتندرج تحتها المهارات الآتية:
● الشجاعة: وهي القدرة على الدفاع عن القيم، واتخاذ القرارات، والفعل الحازم إذا تطلب الأمر ذلك، والتحدي، وهز الهياكل ووجهات النظر القائمة.
● الإبداع: الذي يعني القدرة على توليد أفكار أصيلة ومتطورة، والتجديد والاستعداد لهز الأنماط التقليدية.
● التفاؤل: الذي يمثل القدرة على الاستدامة ومواصلة الشعور بالأمل، إلى جانب اتجاه إيجابي وثقة في إمكانية إحداث تغيير ذي معنى.
● الإصرار: الذي يعني القدرة على الاستمرار في المشاركة والصبر حتى عندما تستغرق الجهود وقتًا طويلًا كي تثمر.
ويأمل المهتمون بالمستقبل في خاتمة المطاف، أن تنجح مثل هذه المبادرة وغيرها في نقل الاهتمام من التركيز على العوامل الخارجية لتحقيق الاستدامة، إلى تشكيل قوة باطنية مؤثرة على المستويين الفردي والجماعي لمواجهة الأنانية والطمع، واللامبالاة، وتسليح الإنسان بالوعي والحضور والقدرة على تحمل مسؤولية التغيير وتحقيق الاستدامة الشخصية قبل الجماعية ■