قراءة في اتجاهات ديوان الشوقيّات

قراءة في اتجاهات  ديوان الشوقيّات

أحمد شوقي(1868-1932م) شاعر رائد من شعراء النهضة العربية. تربّع على إمارة الشعر دون منازع في عصره. كثر دارسوه ومحبّوه، فدخل القلوب والأذهان دون إذن أو استئذان، حتى ردّد الناس كلمات أشعاره عن ظهر قلب، وتحولت كالشهد يذوب على ألسنتهم، وأتحفتهم بسلاستها وعذوبتها ورقّتها وفخامتها وحكمتها... غنّى له كبار المطربين أمثال أم كلثوم ومحمد عبدالوهاب وفيروز وغيرهم، فساهموا في تضوّع عطر قصائده بين المستمعين، وزادوها حلاوة في سكب عذب الألحان وجمال الأصوات، فارتقت بالذائقة العربية، وكتب لها المجد والخلود.

 

من يقرأ ديوان الشوقيّات يشعر بأن الشاعر امتلك رؤية خصوصية، وأمداء فكرية وفنية ساهمت في تطوير الشعر العربي، ومنحته دلالات جديدة، تبلورت في إلقاء الأضواء على الاتجاهات السياسية والدينية والاجتماعية السائدة في عصره، هذا بالإضافة إلى تصويره الحالات العاطفية وما يعتمل في القلوب من شوق وحنين وحزن وأنين، وإقبال وود وهجر وصد.

الاتجاه السياسي:
لا أحد ينكر أن أحمد شوقي ربي وعاش في بلاط الخديو، فتأثر بالحوادث التي عصفت في عصره، والتي ألقت بظلّها على شعره الذي انعكس صدى عميقًا «لمختلف السياسات التي تتجاذب القطر المصري والأقطار العربية»، وكرّسه في بداية الأمر لخدمة الخلافة العثمانية، حيث وجد في «انتصار الأتراك نصرة للإسلام وفي ضعفهم ضعفا له، لأنهم ممثلو الجامعة الإسلامية في ذلك الوقت»، وراح يمدح مصطفى كمال أتاتورك ولقّبه بخالد بن الوليد بعد موقعة سقاريا سنة 1921م التي هزم فيها اليونانيين وردّ قوات الحلفاء على أعقابهم، فعاد بالعرب إلى أيام بطولات العـرب المسلمين وأمجادهم، وحفّـزهم على مدّ يد العون للأتراك ضدّ أعدائهم، فقال:
الله أكبر، كم في الفتح من عجب
    يا خالدَ التركِ جـدّد خالدَ العربِ 
صلحٌ عزيزٌ على حرب مظفّرة
    فالسيف في غمده، والحق في النصُبِ
يا حُسنَ أمنية في السيف ما كذبت 
    وطيبَ أمنية فـي الرأي لم تخِـبِ

منذ سنة 1923م التي ارتبطت بإعلان مصطفى كمال أتاتورك تركيا دولة علمانية، وبعد ظهور التغيرات والتجاذبات السياسية في المنطقة، راح يتبلور الوعي القومي عند شوقي، فشعر بالمسؤولية تجاه أبناء أمته، وكرّس شعره لخدمة القضية العربية؛ ففي أواخر سنة 1925م تعرّضت دمشق لقصف فرنسي أدّى إلى القتل والدمار، ما جعل الشاعر يتوجّع لأوجاع السوريين، وعبّر عن ذلك في احتفال حديقة الأزبكية في القاهرة سنة 1926م:
ســـــلامٌ مــن صبـا بــردى أرقّ
    ودمـــــعٌ لا يُكـفـكـف يـا دمشــــقُ
ومعـذرةُ اليـراعــةِ والقـــــوافـي 
    جــلالُ الـــرزءِ عـن وصـفٍ يــدقُّ
وذكــرى عـن خـواطـرها لقلــبي 
    إلــيـــكِ تـلــفُّــتٌ أبـــــــدًا وخـفــقُ
وبــي ممّــا رمتــــكِ به الليــالــي 
    جراحاتٌ لهـــا فــي القلــب عمـــقُ 

الاتجاه الديني:
 كان لشوقي مواقف داعمة للدين الإسلامي؛ لأنه شعر بالتفكك والترهل الحاصلين بين أبناء الأمة في عصره، وبمدى خطورة المرحلة التي تداهمهم، فعاد بهم إلى التذكير بصفات النبي محمد  «التي كانت له أكبر عون على تحقيق دعوته، والتي مكّنته من أن يحوّل أمة جاهلة متفرّقة إلى دولة إسلامية عزيزة الجانب»، واستهل إحدى قصائده بولادة الرسول ، التي ربطها بالضياء والثناء للدلالة على الأمل والإرشاد والتصويب والإبانة والمعرفة... ليحثّ الناس في عصره على الالتفاف حول الدين، فقال:
وُلد الهـــدى، فالكـائنـاتُ ضيـــاءُ 
    وفــــم الزمـــان تـبسّمٌ وثنــــاءُ
الروحُ والمــلأُ المــلائـــكُ حــولهُ 
    للدّيـــن والدنيـــا بــه بُشَــــراء
والعرش يزهو، والحظيرةُ تزدهي 
    والمنتهى، والســدرةُ العصمـاءُ
وحديقة الفُرقــان ضاحكـة الرُّبا 
    بالتُّرجُمــان، شــذيّةٌ، غنــّـاءُ
والوحي يقطُر سلسلًا من سَلسَل 
    واللوحُ والقـلمُ البديـــعُ رُواءُ

وفي قصيدة «ذكرى المولد» يؤكد الشاعر على مدى أهمية رسالة النبي محمد  التي شاعت في المدن والصحاري، والتي صارت بمنزلة النور الذي أضاء عتمة جهل الناس فاهتدوا بها، ووجدوا فيها ضالّتهم، كما تركت ارتياحًا في قلوبهم، وتصاعد صيتها مسكًا متضوعًا يتنشّق رائحته كل مؤمن، ويتلمّس من بلاغتها كل عالم مهما بلغت وارتقت درجته العلمية، فقال:
تجلّى مولــــدُ الهــــادي، 
    وعمّت بشــائُره البــوادي والقصابا
وأسـدت للبــريــةِ بنتُ وهـب 
              يدًا بيضاء، طوّقت الرقابا
لقــد وضعتْهُ وهّـاجــا منــيرًا 
             كما تلد الســـماواتُ الشهابا
فقام على سماء البيت نـورًا 
              يضيء جبـــالَ مكّةَ والنقابا
وضاعت يثربُ الفيحـاءُ مســـكا 
          وفاحَ القـــاعُ أرجـــاءً وطـابا
أبا الزهــراءِ، قد جاوزتُ قـدري 
    بمدحـِـــكَ بيدَ أنّ لي انتســابا
فمــا عرف البــلاغــةَ ذو بيـــانٍ 
       إذا لــــم يتخــــذك لــه كتــــابا 

الاتجاه الاجتماعي:
تجلّت نزعة شوقي الإنسانية، فامتدح الهلال الأحمر والأزهر والصليب الأحمر، وكرّم السجناء، ورثى الزعماء... وحثّ العمّال على العمل والتطور والإبداع من أجل مواكبة العصر، وراح يذكّرهم بتاريخ العرب المجيد الذي بني على الجهد والبذل والعطاء والفناء في سبيل الإتقان والإبداع والخلود: 
أيهـا العمال، أفنـوا الــ 
         عمـرَ كـدّا واكتسابا 
واعمـروا الأرضَ، فلـولا 
    سعيُكُــم أمســـت يَبـابا
إنّ لي نصحـًـا إليكم 
          إن أذنْـتــم وعِتابا
في زمان غَبِـي النـا 
      صحُ فيـه، أو تغابى
أين أنتـم مـــن جــدود 
    خلّدوا هــذا الترابا؟

شدّد الشاعر على أهمية ودور المعلم الريادي والرسالي في المجتمع، وعلى لزوم الناس احترامه والالتزام بتوجيهاته وإرشاداته؛ لأنه يحمل رسالة مقدسة، تفرض عليه إتقانها وصقلها وتطويرها كي لا تصدأ ويلفّها الإحباط والتراجع، فتصير عبئًا ثقيلًا عليه وعلى المتعلم والأمة:
قُم للمعلّـمِ وفّـــهِ التبجيلا 
        كاد المعلّمُ أن يكونَ رسولا
أعلمتَ أشرفَ، أو أجلّ من الذي 
      يبني ويُنشئُ أنفسًا وعقـــولا
سبحانك اللهـم خيـرَ معلَّـم 
    علّمتَ بالقلـــــمِ القـرونَ الأولى
أخرجتَ هذا العقلَ من ظلماتهِ 
        وهديتَهُ النورَ المبينَ سبيلا 
وطبعتَـــهُ بيَــــدِ المعلّم تارةً 
    صَدئ الحديدُ، وتارةً مصقولا

الاتجاه العاطفي:
لم تذكر لأحمد شوقي قصة حب واحدة، ولم يعان كغيره من الشعراء عذابات الحب، لكنه على الرغم من ذلك خصّ المرأة بثلّة من القصائد، تخللها الانسجام والعذوبة والرقّة وانسياب الأنغام، حيث أخرج الكلمات من معانيها المعجمية وأكسبها دلالات فنية تعلّقت بالنفس بأدق إحساساتها، فقدّم لنا صورة في إحدى قصائده عن مدى محبة النساء للثناء والمدح والإطراء، كما أنه أسّس لأسلوب جديد في العلاقات الغرامية، ووضع لها أسسها ومراحل تطويرها، فقال:
خدعـوها بقولِهــم حسـناءُ 
      والغـواني يغـــرُّهُنَّ الـثنـــاءُ
أتُراهـا تناسَـت اسـمي لمّا 
    كثرت في غرامها الأســـمـاءُ
إن رأتنــي تميلُ عنّي، كـــأن لم 
          تكُ بيني وبينها أشـياءُ
نظرةٌ فابتسامةٌ، فسـلامٌ 
              فكلامٌ فموعدٌ فلقاءُ

وفي قصيدة أخرى أكسب الشاعر عيني العاشقين دلالة جديدة في التعبير عن الشوق والتوق والمحبة والمعاتبة والتسامح والغفران... كما أنه أعطى المعنى بعدًا فنيًا في آخر بيت، عندما صوّر لنا مدى أهمية تلك الحبيبة التي اختصرت العمر والمسافات والأوقات بحلاوة اللقاء الذي أخذ بأحمد شوقي للاعتراف بأنه يعيش أجمل وأسعد لحظة في حياته، فاعترف قائلًا:
وتعطّلت لغةُ الكلامِ وخاطبتْ 
     عينـيَّ في لغة الهوى عيناك 
ومحوت كل لبانـة من خاطري 
       ونسـيت كل تعاتب وتشـــاكـي
لا أمسِ من عمرِ الزمان ولا غـدٌ 
    جُمِـــعَ الزمانُ فكان يومَ رِضاك

أخيرًا، يمكن القول إن ديوان الشوقيات هو نتيجة انفعال الشاعر مع المناخات السياسية والدينية والاجتماعية والنفسية السائدة في عصره ، وصدى لخياله الواسع وإحساسه المرهف، ما جعله ينفذ الأشياء بعين سينمائية خاصة وخيال مجنّح، ويبدع صورًا شعرية أخّاذة، تكلّلت بفخامة الكلمة وجزالة التعبير وسعة الثقافة والهموم والاهتمامات، ومنحته وهجًا خاصًا بشاعريته، تجلّى بدلالات جديدة وأبعاد فنية متعددة الاحتمالات، ساهمت في توسيع مخيلة القارئ، وفي تطوير الشعر العربي ■