تأملات في ديوان «الرقص على الرماد» للشاعر الأمريكي مايكل مارش

تأملات في ديوان  «الرقص على الرماد» للشاعر الأمريكي مايكل مارش

مساري كمترجم حافل بجولات بين النصوص الفلسفية (نيتشه على الخصوص)، والأدبية، والسياسية التاريخية، وهي رحلة ابتدأت قبل ثلاثة عقود، لكن القدر  شاء هذه المرة أن يحدثني صديقي عبدالرحيم العلام، رئيس اتحاد كتاب المغرب، عن شاعر أمريكي متميز ويمدّني بأحد دواوينه ألفيته بعد قراءته متميزًا ويستحق أن نقدمه للقارئ العربي. والشكر موصول لأشقائنا في اتحاد أدباء فلسطين على إصدار هذه الترجمة. مايكل مارش شاعر أمريكي وفاعل ثقافي عالمي سهر طوال ثلاثة عقود على تنظيم فعاليات مهرجان براغ الأدبي، أحد أهم المهرجانات الأدبية عبر العالم.  يتميز أسلوبه بالكثافة، الشفافة أحيانًا والغامضة أحيانًا أخرى، والغوص في أعماق المعاني الإنسانية والكونية.  وهو يصوغ شعره في شذرات ورباعيات تذكرنا برباعيات الخيام وشذرات نيتشه. وقد ربطته علاقات قوية بمحمود درويش وسميح القاسم. والشعر عنده هو ما يضفي المعنى ويرتب الأشياء، و«من دون الشعر تسود الفوضى».

 

يطوف بنا مايكل مارش من خلال قصائده القصيرة، وذات الكثافة الشديدة والبعد الفلسفي العميق، عبر انتكاسات الإنسان في القرنين العشرين والحادي والعشرين، مصورًا خيبة المغلوبين، وتجبر الطغاة الظالمين، وجشع المؤسسات والناهبين. يصور لنا اللامبالاة بمعاناة اليونانيين إبان الأزمة وكيف تم سحقهم تحت آلة جهنمية لا تبقي ولا تذر ولا تعرف للرحمة والإنسانية سبيلًا، متسائلًا «ما الذي أصاب هذا القرن الموبوء؟»، ويجيبنا إجابة تدعو للتفكير والتأمل بقوله: ذبابة طارت بعيدًا.
بفساد الرجال يفسد الحس السليم
تهوي مادية الحس السليم
بقيمة العالم إلى الحضيض
واأسفى على رجال هذا الزمان

بين الحب وانزياح القيم
كما يغني للحب الذي من دونه يصير هذا العالم/ البيت خرابًا، ويصبح فيه للفجر غسق له صوت أجشّ، يبدع صورًا قوية موحية تحكي لنا تمزق العالم وانزياح المعاني نتيجة انزياح القيم وتحوُّل الإنسان إلى كائن مرعب يقتات على آلام أخيه الإنسان؛ وهو بهذا يذكرنا بتحولات كافكا. 
إنه يدعو الإنسان إلى الاستمتاع بتفاصيل الحياة والعض على لحظاتها الإيجابية بالنواجذ، فما مضى لا يعود، وإن كان لا يموت لأن ماضينا يحكمنا، وما بداخلنا قد يفارقنا إلى غير رجعة.
«نشاهد عالما يحتضر» غير مصغٍ لنا
إبحار للوجهة الخطأ «وفق قانونه الخاص»
عالم منفلت وإن كان له قانونه الخاص لا يقيم لنا وزنًا ولا يعيرنا أذنًا صاغية، يطلقون على الرؤوس بضع رصاصات، نبكي حزنًا وكمدًا حتى يهد التعب قوانا فنعود للأكل من أجل البقاء، ونضع جانبًا كل معرفتنا التي لم تُجْدِ في تلوين المزهرية بما نشاء من ألوان.
يظن المهاجر، وكلنا مهاجرون نحو عالم ما، أن الطريق يصعد من الأسفل، لكن الشاعر الذي يبصر بعين أخرى يقول إن الأمر ليس كذلك:
«من الأسفل. تنجرف الأرض نحو الداخل
تعلمنا أن ننسى ما لم نعلم
الرأسمال الخطَر النهم الذي لا ينام. 
سم لا تغفلن عنه العين برهة»
شراهة الرأسمال تمنع الإنسان من تحديد لون الأيام، تلتهم حلمه وترقب غفلته، وما أشد ما يغفل الإنسان.
نحاول بما أوتينا من أفكار أن نعيد صياغة العالم من أجلنا، لكن هيهات هيهات، فالصراع غير متكافئ، وبالتالي «يموت الواحد منا دون أن ينقذ العالم».
«كل إنسان جزيرة منفردة»، هكذا صرنا في هذا العالم المتشظي. «لقد استنزفونا ثم لفظونا». يصبح الإنسان شيئًا بلا قيمة بعد الاستعمال، ينتهي تاريخ صلاحيته فيصبح مهملًا، ويُترَك لمواجهة مصيره وحيدًا.

جدلية الحياة والموت
جدلية الموت والحياة حاضرة بقوة في ديوان مارش هذا، «في حضور الحياة، في حضور الموت، تقيم عذوبة اللامرئي»، وكذلك جدلية الماضي والحاضر، والتفرد والمحاكاة. يئن العالم تحت الاتجاهات المادية المتقاربة الرؤى والأهداف، ويريد الكل التحرر من الماضي واستنبات بشرية جديدة زائفة من فراغ،
بلا جذور ولا أصول.
«يتم نفي الماضي إلى الماضي،
وتحظى المحاكاة بالتتويج».

أصبح الفرد منفردًا لا متفردًا لا يلمس من الآخرين اهتمامًا ولا مشاركة، ولا يجد فيهم صدى.
«لظلي وحده أكتب أشعاري 
لأكتسي رداء الشهرة»

أصبحت الشهرة هي المبتغى، وأصبحت «عارية مضروبة معتلة، وأصبح كل شيء يقوم على لا شيء».
أصبح الصدأ يعلو جواهر الحكمة وشظايا السلام. 
أصبحت البراءة شيئا نتصوره فقط ولا نعيشه، وأصبحت سطور هويتنا (عالمنا الداخلي) مشطوبة، وتحتاج إلى إعادة كتابة.
أصبح العالم ساحة للوغى، الكل يقاتل الكل ويقاتل نفسه في الوقت.ذاته فهل هي النهاية؟

«الزمن الذي شربت فيه السمَّ كلُّ الأطرافِ
زمنُ الغش زمنُ الكذب
زمنُ إدراك نهاية العبث».

هذا الزمان الذي يتهمه الكل، ويسبّه الكل، ويلعنه الكل، بريء وجميل وعادل.
«لا يعرف الزمن شيئًا
لكنه يحوي كل شيء
ولكنه يظل ثابتًا
يترافع دون جدوى».

نلمس في هذا الديوان جمال الشعر، وصدق العاطفة، ونصاعة الحقيقة، وحب الإنسانية الجارف والرغبة الجموحة في إعادة أمجادها. 
تأمل معي جمال هذه الأبيات، وامتلاء الحياة فيها، وجمالية السكون، والطهارة والخصوبة، ومداعبة الرواية للأذن المنصتة للحكاية، وما الحياة إلا حكاية:
«سابحًا في كأس ماء،
قريبًا جدًا بحيث أسمع كلماتك.
كالخمر أنا وكماء المطر أنت
أنصِتْ أروي لك حكاياتٍ غريبة».

وقد ذكرني هذا بشيء كتبته ذات يوم وأنا أتأمل الحياة:
«أيامنا حكاية،
نكتبها عرَقًا ومدادًا؛
فأحيانًا تُقرأ الحكاية،
وأحيانًا تمضي رمادا».
في النهاية تظل حقيقة الموت شاخصة، فالموت لا يخلف وعده، بخلاف كل الوعود التي يتم نقضها أو إخلافها، وتظل القبور ضيقة، بخلاف سعة الدنيا وأحلامها وامتداد شهواتها، والشاعر يرجو «لعل القلب لا ينجرف بعيدًا»، ويواسي النفس أمام هذا المصير، الذي أصاب الكثيرين باليأس والحيرة، بنعمة النسيان، فكم هو «مفيد خفر النسيان».

قصيدته في محمود درويش
وأجمل ما أختم به تأملاتي في هذا الديوان هذه القصيدة المهداة إلى محمود درويش، والتي كتبها مارش بمدينة براغ في أكتوبر سنة 2009:
بيت ضيافة في البحر - الزيارة قصيرة.
شيئان فقط لا ريب فيهما - الموت - والقهوة. 
قال نابليون: «الحرب فن الإعدام البسيط».
 قال سميح القاسم: «من نافذة زنزانتي الصغيرة
 أرى زنزانتكم الكبيرة». 
«يلتفت المنفى حواليه - ليهتدي إلى طريق». عند محمود درويش - «نسافر مثل غيرنا - 
سفرًا بلا عودة. كأن السفر طريق الغيوم». 
عند درويش: «في كل شعر جميل شموخ المقاومة 
الليل تاريخ شوق – وأنت ليلي».
 
 كل الشعراء منافي. الماهر يسطر معاني الكلمات. 
عندما تشبه المُسَلَّمات السياسة – يغطي الذباب شفاهنا. 
هل تعرف الموتى؟ 
أعرف الذين لم يولدوا 
سيولدون تحت الشجر 
سيولدون تحت المطر  
سيولدون من حجر  
سيولدون من زجاج قد انكسر 
سيولدون في الزوايا  
من الهزائم من المرايا 
سيولدون من الشظايا 
من الأساور، من الأزهار 
من تفاصيل القصص 
سيولدون ويكبرون 
سيولدون ويُقتَلون، 
سيولدون ويولدون ويولدون».
ما أكثر ما يغرينا لنحيا للبحث عن هوية.
نعيش على الموتى «رفقاء بنا هم الموتى».
 
طبيعي عند اليونان ألا تكون في أي مكان.
على الأقل عند الفلاسفة والشعراء الذين كانوا «خارج السيطرة».
عند القديس أوغسطين - «نحن هنا - لنبدأ من جديد».
عند درويش - «أنا هنا.  وما عدا ذلك - إشاعة وافتراء». 
«أين أنا؟» «أنت في رام الله». «متى جئت هنا؟». 
«اليوم». «لماذا لا أتذكر؟ هل أنا مريض؟». 
«ليس المرض الذي تفكر فيه. إنه الشوق للنسيان!»
درويش.
 أنيق غير عنيف مدرك للعطش .
يطارد حقيقة غير مسلحة، حيث الصوت الخاص.
يشبه الصوت العام. ضحية خريطةٍ - حيث يموت النهر من العطش.
ما ينفع الشعر ما ينفع إذا ما الحرب
 وضعت أوزارها؟
 سجل في ديوانك: أنا عربي إنا نحب الحياة 
ما استطعنا لذاك سبيلًا ■