أيام في سراييفو: الشعر لغة لحوار الحضارات والسلام

  أيام في سراييفو: الشعر لغة لحوار الحضارات والسلام
        

          «تحية من القلب أبعثها إليكم من الكويت، البلد الذي وجد نفسه في مرآة أمته ووجد أمته في مرآة الإنسانية، البلد الذي عاش على ضفتين ممتدتين: البحر والصحراء».

          «الكويت لم تعرف الانغلاق على نفسها، فهي ذاقت مرارة العيش وطراوة النعيم فلم تهن عليها نفسها في الأولى، ولم يهن الآخرون عليها في الأخرى، بل ظلت في الحالتين تشارك الآخرين في سرائها ويشاركها الآخرون في ضرائها».

          إنها سطور سمو الشيخ ناصر المحمد الأحمد الجابر الصباح، رئيس مجلس الوزراء بدولة الكويت، ألقاها نيابة عنه المستشار راشد الحماد، نائب رئيس مجلس الوزراء للشئون القانونية ووزير العدل ووزير الأوقاف والشئون الإسلامية في دولة الكويت، إيمانًا من سمو رئيس مجلس الوزراء  بهذه المناسبة التي بادرت مؤسسة جائزة عبدالعزيز سعود البابطين للإبداع الشعري بعقدها على أرض سراييفو حاضرة البوسنة والهرسك.

          أنصت الحضور إلى تحية سموه التي يصف فيها التعايش بين الديانات بأنه السبيل الوحيد للحياة:

          «تحية طيبة إلى هذا البلد العريق الذي تجتمعون في رحابه ضيوفاً على جميع مواطنيه والذي كان قدره أن توجد على أرضه كوكبة من الديانات والقوميات، أراد البعض أن يعاند هذا القدر فلم يجن من ذلك إلا الدمار، وخرج الجميع من المحنة بقناعة أن التعايش بين كل أبنائه واحترام تنوعهم وألوانهم هو السبيل الوحيد للبقاء وللازدهار».

          ويضيف: «تجتمعون في هذا اليوم للاحتفاء بشاعرين كرّسا شعرهما للدعوة إلى الحرية وكرامة الإنسان، ولتجاوز كل الحواجز التي تُفرّق إنساناً عن آخر، ولتؤكدوا أن الحوار بين المختلفين من منطلق الاحترام والتكافؤ هو السبيل الوحيد للحفاظ على الحق بالاختلاف».

          وينصت الحضور لكلمة سمو رئيس الوزراء الكويتي وفي مقدمتهم: رئيس مجلس الرئاسة البوسني الدكتور حارث سيلاجيتش، وعمرو موسى، الأمين العام لجامعة الدول العربية، والدكتور أحمد عمر هاشم، ممثل الإمام الأكبر الدكتور أحمد الطيب شيخ الأزهر، والشيخ يوسف القرضاوي، والرئيس السوداني الأسبق عبدالرحمن سوار الذهب، والدكتور فاروق تشاكلوفيتسا، رئيس جامعة سراييفو، وسينيسا سيسم، ممثل إيرينا بوكوفا، مدير عام اليونسكو، والخوري عبده أبوكسم، مدير المركز الإعلامي الكاثوليكي الممثل الشخصي لنيافة الكاردينال مار نصر الله بطرس صفير، وعمار الحكيم، رئيس المجلس الأعلى الإسلامي بالعراق، وجوزي أوغسطو ليند غرين ألفيس، ممثل حكومة البرازيل، فضلاً عن سفراء الدول العربية والإسلامية لدى البوسنة.

المشترك الثقافي والحضاري

          وقد استهل حارث سيلاجيتش، رئيس مجلس الرئاسة البوسني، كلمته بتحية الشاعر الكويتي عبدالعزيز سعود البابطين ومؤسسة جائزته الخيرية، التي قصدت بلاده سعياً وراء اكتشاف المشترك الثقافي والحضاري بين البوسنة ومختلف الشعوب العربية والإسلامية. ثم وجه التحية لعمرو موسى، الأمين العام لجامعة الدول العربية، لمشاركته في هذا الحدث الثقافي العربي - البوسني غير المسبوق، مشيرًا إلى أن هذه المناسبة حققت عهداً قطعه عمرو موسى على نفسه لزيارة البوسنة والهرسك التي ساندها بنبل رائع في أزمتها خلال السنوات من 1992 إلى 1995.

          وحيا كذلك المستشار راشد الحماد، ممثل سمو رئيس مجلس الوزراء الكويتي الشيخ ناصر المحمد، والوفد البرلماني الكويتي الممثل للمرأة الكويتية في البرلمان، الذي يحل ضيفًا على البرلمان في سراييفو. ونبَّه سيلاجيتش إلى أهمية الثقافة في تحقيق التفاهم المشترك بين القوميات والعرقيات، لاسيما في زمن الصراع والصدام الذى يعصف بعالمنا المعاصر دون استثناء.

          وهنا يستأنف رئيس مجلس الرئاسة البوسني حديثه إلى ضيوفه، ولكن  مستخدمًا اللغة العربية التي يتقنها تمامًا، فيقول: «فى ظل العولمة يصبح لقاء الثقافات أمرًا بالغ الأهمية». مشيرًا إلى ما أحدثته العولمة من تغيرات متسارعة قد لا يستوعبها البشر في كثير من بلدان العالم، مطالباً بضرورة العودة إلى الوراء، أو الاهتمام بالإرث الثقافي الخاص بكل أمة، قائلاً: «عندما نعود إلى التراث هل نجد شيئًا جامدًا، أو متحجرًا يمنعنا من لقاء الثقافات الأخرى؟، أم نجد أرضية للانطلاق إلى المستقبل؟».

          ويختتم سيلاجيتش كلمته بتوجيه الشكر إلى الجميع لاهتمامهم بالمشاركة في هذا الملتقى الذي تستضيفه بلاده، وخص بالذكر كل من ساند البوسنة والهرسك في أزمتها.

أحسنتم اختيار سراييفو

          ويستهل عمرو موسى كلمته بقوله: «يسعدني كثيرًا أن أشارك في افتتاح دورة خليل مطران ومحمد علي ماك دزدار، التي تنعقد على هذه الأرض الطيبة أرض البوسنة والهرسك، وفي عاصمتها الجميلة سراييفو وبحضور هذا الجمع الكبير من المفكرين والمتخصصين من أهل الشعر والأدب والتأليف وكذلك السياسة في العالم العربي وفيما حوله وما يرتبط به».

          ويقول: «أحسنتم اختيار سراييفو مقراً لهذا اللقاء، ولا تخفى عبقرية المكان عندما  نتحدث عن العلاقة بين الحضارات، فسراييفو تمثل نقطة التقاء بين ثقافتي الشرق والغرب.. موقع جد حيوي، وخاصة في عصرنا الذي يغطيه ضباب العلاقة المهتزة بين الحضارات، والتعصب المتنامى ضد المسلمين في أجزاء شتى من العالم الغربي. إن سراييفو حاضرة البوسنة محك لحالة العلاقة بين الثقافات والأديان في أوربا، وعلينا أن نجعلها نموذجاً».

          ويضيف عمرو موسى: «إن الجامعة العربية في طور الإعداد لقمة ثقافية عربية يجري التحضير لها حاليا بالتشاور مع عدد من العاملين في الحقل الثقافي، وهي تدرس إطلاق مبادرة السوق الثقافية العربية المشتركة على ضوء ما تسفر عنه هذه القمة».

          ويذكر أن جامعة الدول العربية ستكون لها مشاركة ثقافية خلال دورة الألعاب الأولمبية التي تستضيفها لندن بعد عامين من خلال المهرجان الثقافي والفني الذي تنظمه الهيئة البريطانية للأولمبياد الثقافية، ودعا الشخصيات والمؤسسات الثقافية المعنية إلى المشاركة فيها.

أوربا ثالثًا

          وفى كلمته قال الأستاذ عبدالعزيز سعود البابطين: «ها نحن نجتمع  للمرة الثالثة في القارة الأوربية، القارة التي لاتزال تلهم الكثير من الشعوب والبلدان كيف تكون الإرادة الشعبية تمثل القانون الوحيد المشروع، وكيف يكون الإنسان قيمة عليا لا يجوز المساس بها، وكيف تساعد الأجواء السياسية والاجتماعية المنفتحة على تفتح قدرات الإنسان ليزدهر الإبداع في جميع المجالات، وكيف تحقق الشعوب بالعمل المنظم والفكر المتنور الرفاهية والقدرة وتجاوز الممكن إلى ضفاف المستحيل.

          جئنا اليوم إلى هذا البلد لنتعلم درساً جديداً، نحن بحاجة ماسة إليه، هذا البلد الذي يتجاور ويتداخل فيه الكثير من الأديان والعرقيات في إطار واحد، والذى دخل في تجربة مريرة وخرج منها ليعلم أن لا أحد بمقدوره أن يلغي طرفاً آخر، وأن القوة التي تتباهى بقدرتها على إخضاع الآخرين واستئصالهم، هي قوة عمياء لابد أن تسير إلى الهاوية، وأن تستأصل نفسها، وأن القوة الخلاقة هي التي تسعى إلى حماية الآخرين والدفاع عنهم بالدرجة نفسها التي تدافع بها عن حقوقها ووجودها».

          وموجهاً كلامه إلى الشعب البوسني قال البابطين: «خرجتم من هذه التجربة المريرة وتعلمتم منها أن بلدكم هو لجميع أبنائه، وأن التنوع يحقق الثراء عندما تسود العقلانية والتسامح، وأن لا شيء سوى السلم الأهلي هو الذي يضمن للجميع حقوقهم وكرامتهم وازدهارهم».

          ويستطرد قائلاً: «أيها الأصدقاء في مدينة سراييفو الباسلة، جئنا إليكم من أنحاء الأرض لنتعلم منكم كيف يكون المختلفون عرقاً وديانة نسيجاً رائعاً موحّداً، وكيف تكون الكلمة الطيبة الصادرة من القلب أقوى في تأثيرها من قذيفة المدفع، جئنا لنحيي هذا البلد بجميع قومياته الصرب والكروات والبشناق، وبجميع دياناته: الإسلام والنصرانية واليهودية، ولنقول للجميع أنتم أمام امتحان لابد أن تنجحوا فيه لتكونوا عنواناً لمستقبل جديد للبشرية».

          وفي نهاية كلمته يعلن البابطين أن مؤسسته، وإيماناً منها بأهمية الحوار الحضاري في نزع الألغام من دروب البشرية، استحدثت تكريماً خاصاً في كل دورة لإحدى الشخصيات المميزة التي أسهمت في تحقيق التقارب بين الثقافات والأديان المختلفة وبذلت جهوداً مخلصة لحماية الأقليات، وتعزيز حقوق الإنسان في كل مكان، مضيفاً أن التكريم يتوجّه هذا العام إلى الأمير تشارلز، أمير ويلز وولي عهد بريطانيا، الذي عمل على تكريس الاحترام الواجب للتنوع الثقافى والديني ومساندة الأقليات في بلاده، وقد كلف سفير بريطانيا في سراييفو بالحضور نيابة عنه في هذه المناسبة.

لقاء عربي إسلامي عالمي

          أما السيد عمار الحكيم، رئيس المجلس الإسلامي الأعلى في العراق فقد استهل كلمته بقوله: «من دواعي سروري أن أقف بينكم اليوم في سراييفو، هنا في هذا المكان الحبيب إلى قلوبنا جميعًا، ليكون لقاءً عربيًا إسلامياً عالميًا، لنؤكد حاجتنا إلى الحوار الحضاري، ولغة الشعر التي لم تغب عن عالمنا منذ القدم، وأن يكون عنوان هذه الدورة «شاعران مبدعان»، عاش كل منهما في بيئة دينية تختلف عن عقيدته الدينية، فهذا أمر رأينا فيه شيئاً جديداً من الإبداع في الاختيار، يعود الفضل فيه إلى المؤسسة الراعية لهذا النشاط الإنسانى المتميز.

          وحين يكون الشعر مُعبّراً عن المشاعر الإنسانية، فإنه من الصعب أن توضع هذه المشاعر في الحدود الجغرافية بكل أشكالها، جغرافية المكان أو الزمان، أو الهوية القومية أو الدينية، لأن المشاعر الإنسانية تعبير ينطلق من جوهر الإنسان، يخاطب إنسانية الإنسان، إنها هوية الاتحاد وليست هوية الانفصال».

          ويضيف قائلاً: «إننا اليوم في عالمنا المعاصر نشعر قبل أي وقت مضى بحاجتنا الماسة إلى الحوار، حوار الحضارات والثقافات، حوار التعايش، فقد دخلت البشرية على طول تاريخها في صراعات مدمرة، فانهارت حضارات وقامت أخرى، ولكن البشرية كانت تفقد في الصراع شيئاً متميزاً لم تستطع الحضارة الناشئة الجديدة أن توفره.

          إن الصراع يقود إلى التدمير، إنه في أحسن حالاته يدمر جزءًا من العالم ويبني جزءًا جديدًا، وهذا ليس بناءً حقيقيًا، بل البناء الحقيقي هو أن نعزز ما هو موجود من أشياء خيّرة، ونضيف إليه شيئاً جديداً خيراً، وهذا يأتي عبر الحوار الحضاري، وعندما نتحدث عن الحوار، فإننا نتحدث عن حق الشعوب في الحياة الحرة الكريمة والتسامح، والاعتراف بالآخر، وحرية الاختلاف».

          إننا أيها الحضور الكريم، وحين يكون الحديث عن العراق، نؤمن بأن الحوار هو الطريق الوحيد لإخراجه من محنته الحالية، وأن الحوار يجب أن يقودنا إلى الإيمان بمبدأ الشراكة الوطنية الحقيقية، وإلى التداول السلمي للسلطة، وإلى احترام قيمة الإنسان وحقوقه».

          ويختتم كلمته قائلاً: «يمكننا أن نخرج من هذا الملتقى مسرورين، لأننا تعرفنا بعضنا على بعض في جو من الحوار الصميمي الحميم بدون شك، ولكننا سنكون أكثر سروراً إذا خرجنا من هنا ونحن مشتركون في انطلاق مبادرة إنسانية كبرى تجعل من «الشعر لغة لحوار الحضارات والسلام»، تتبناها مؤسسة جائزة عبدالعزيز سعود البابطين للإبداع الشعري، لدورتها القادمة، وهذا ما أدعو إليه من مبادرة في هذا اللقاء، متمنياً أن يُدرج العراق في جدول محطات عقد هذا الملتقى الإنسانى الكبير في دوراته القادمة».

الحوار في مصلحة البشرية جمعاء

          وتحدث رئيس جامعة سراييفو، الدكتور فاروق تشاكلوفيتسا، قائلاً: «أيها الجمع الكريم، يشرفني أن أرحّب بكم باسم جامعة سراييفو في الدورة الثانية عشرة لمؤسسة جائزة عبدالعزيز سعود البابطين للإبداع الشعري، وهى المؤسسة التي نقدّرها كثيرًا، لحرصها على مد الجسور بين الثقافات والحضارات المختلفة في العالم. ونحن نعتبر أن اختيار الشاعر عبدالعزيز البابطين للبوسنة والهرسك يُعدّ اختياراً مميزاً، فدولتنا تتمتع بخصوصية في مجال التنوع العرقي والثقافي. ونحن نتصوّر أن الحوار الذي ستتمخض عنه هذه الدورة سيكون في مصلحة البشرية جمعاء.

          وفى كلمته التي ألقاها باسم الإمام الأكبر شيخ الجامع الأزهر، الدكتور أحمد الطيب، قال الدكتور أحمد عمر هاشم: «أحمل لكم من الأزهر الشريف، ومن شيخه الجليل، الإمام الأكبر، ومن علمائه، تحية تقدير وإجلال ومحبة لهذا الملتقى الأدبي العلمي الذي جعل ضمن محاوره ومضامينه الحوار، الذي اتخذه المنهج الأصوب والطريق الأقرب، لتعانق الحضارات والأديان.

          وديننا الحنيف، حين جعل الناس وردّهم إلى أصل واحد، لأن أباهم واحد، دعاهم إلى التعارف والتآلف والتعاطف.

          وما كان الناس في اختلاف أديانهم وعقائدهم إلا بإرادة إلهية، وَلَوْ شَاء رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلاَ يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ * إِلاَّ مَن رَّحِمَ رَبُّكَ  صدق الله العظيم.

          ومن هنا كان منهاج الإسلام في الدعوة إليه بالحكمة والموعظة الحسنة.

          وكان للتاريخ ما كان من حفظه لأول وثيقة عرفتها البشرية لحقوق الإنسان، أبرمها سيدنا محمد، صلى الله عليه وسلم، إثر هجرته للمدينة المنورة وبنائه الدولة الإسلامية الحديثة، فكانت هذه الوثيقة التي جمعت بين المسلمين وغيرهم أول وثيقة عرفتها البشرية لحقوق الإنسان.

          ووعَى أصحابه صلى الله عليه وسلم ذلك، فما كان من عمرو بن العاص، حين فتح مصر، إلا أن نادى على بنيامين، الذي فر هارباً من عسف الرومان، «أن عد إلى مكانك آمناً لإدارة شئون أهل ملتك».

          وما كان أيضاً من موقف شيخ الإسلام، ابن تيمية، حين وقف لقائد التتار موقفه الشامخ البطولي، مطالبًا بعودة الأسرى، فحين أطلق أسرى المسلمين أصرّ قائلاً «لا أقوم حتى تطلق سراح جميع الأسرى من النصارى واليهود لأنهم أهل ذمتنا».

          هكذا وعى الإسلام ووعى تاريخ الأمة موقف الإسلام والمسلمين عبر عصور التاريخ لحياة الأمن والدعوة إلى الوحدة الوطنية وإلى الحوار، الذي اتخذته هذه الدورة الرائدة لغتها ومنهجها، لأننا جميعًا في عالمنا الإنساني، ركاب سفينة واحدة، لو تركنا بعضنا يخرقها، فلن يكون الغرق لمن باشر السبب، بل يكون للجميع.

          ومن هنا، فإننا حين ندعو إلى لغة الحوار فإننا ندعو أيضاً إلى المحبة والسلام الاجتماعي، الذي يعمّ العالم المكروب، المهدد بالحروب».

          كما وجه بابا روما بنديكت السادس عشر رسالة في هذه المناسبة تلاها اليساندرو بريكو، القاصد الرسولي بالبوسنة والهرسك كبير الأساقفة وفيها حيا الجهود المخلصة التي يبذلها عبدالعزيز سعود البابطين من خلال هذه المؤسسة الخيرية للإعلاء من قيمة العقل، ونشر ثقافة الحوار مع الآخر، وأثنى على هذه الدورة، وتأمل دلالة المكان الذى تعقد في رحابه.

          وأكد أن الحوار هو الذى يمكن أن يرد الإنسان إلى آدميته.

          أما سفير البرازيل في سراييفو فقد نقل في كلمته اعتذار وزير خارجيته لعدم تمكنه من تلبية هذه الدعوة لظروف قاهرة، وهو الذي كان حريصاً على التعرف بنفسه على الجهود التي تقوم بها مؤسسة البابطين الكويتية لتحقيق فكرة الحوار بين الثقافات والحضارات وأتباع الديانات والعقائد المختلفة في هذا العالم.

          وذكر أن ريودي جانيرو تولي قضية حوار الحضارات اهتماماً كبيراً في الوقت الراهن، وقد دعت إلى قيام تحالف لهذا الغرض، واعتبر أن لقاء سراييفو يدخل في هذا السياق.

هل يمكن للشعر أن يخلق عالماً جديدًا؟!

          ويأبى أنور ماك دزدار، نجل الشاعر المحتفى به أن تصل الاحتفالية إلى تسليم الجوائز إلى الفائزين بها في هذه الدورة دون أن يقوم بتحية الحضور فيقول: عندما كنت صغيراً كنت أدرس في إحدى مدارس سراييفو التي تعلم اللغة العربية لأبناء هذا الشعب، وقد تمنيت أن أخاطبكم الآن بالعربية، ولكني أخفقت.

          وبسرعة طرح على الحضور تساؤله المباغت: هل يمكن لسحر الشعر أن يغطي على جنون المدافع؟! هل يمكن للشعر أن يخلق عالمًا جديدًا؟!

          ويجيب: «إن شعر ماك دزدار فعل ذلك، فهو الذي أزال السواد من سماء البوسنة والهرسك ونجح في أن يمدّ جسرًا نحو الشمس.

          ولذا فليس من قبيل المصادفة أن يكون ماك دزدار رمزاً تدور حوله هذه الاحتفالية، فشعر والدي، هو في المقام الأول، دعوة إلى الحوار، ونبذ العنف، وهو يؤمن بأن جميع الحضارات تعود إلى أصل واحد، وأن الشواطئ المتباعدة ستتلاقى يوماً ما.

          وباسم عائلة ماك دزدار نتوجّه بالشكر من أعماق قلوبنا إلى مؤسسة البابطين التي نعتبرها قطرة ماء جاءت لتعانق بحراًعميقاً في البوسنة والهرسك، ونأمل أن تظل السفن التي ترسو على شواطئنا في المستقبل محمّلة بمثل هذه الخيرات».

          وتختتم الكلمات الافتتاحية لتبدأ وقائع التكريم، ويصعد إلى المنصة سفير المملكة المتحدة في سراييفو ليتسلم تكريم مؤسسة البابطين لسمو الأمير تشارلز، ولي عهد بريطانيا، وأمير ويلز تقديراً لجهوده المخلصة في نشر ثقافة التسامح وقبول الآخر المختلف.

          ويختتم حفل الافتتاح بتسليم الجوائز التكريمية لهذه الدورة إلى الشاعرة العراقية الكبيرة لميعة عباس عمارة، بينما يحصل الناقد المصري الدكتور صلاح رزق على جائزة «الإبداع في نقد الشعر» عن كتابه «كلاسيكيات الشعر العربي.. المعلقات العشر.. دراسة في التشكيل والتأويل»، وتتوجّه جائزة أفضل ديوان إلى الشاعر  المصري الشاب «أحمد حسن» عن مجموعته الشعرية «مدينة شرق الوريد»، أما جائزة أفضل قصيدة فكانت من نصيب الشاعر العراقي فارس حرّام، الذي حالت ظروفه دون حضوره لحظة تكريمه.

مجلس الأمن وحوار الحضارات

          وتبدأ جلسات الندوة، وفي محور «مجلس الأمن وحوار الحضارات» تجيء ورقتا: مازن غرايبة، وأفتب كمال باشا، وعن «البعد الثقافي في حوار الحضارات» يتحدث: مصطفى إماموفيتش، ونادية مصطفى. ويختتم اليوم الأول بأمسية تحييها المطربة اللبنانية غادة شبير من روائع الشعر العربي ومن قصائد البابطين.

          ويخصص اليوم الثاني  لتجربة ماك دزدار والثالث لمطران، فيرصد خليل الموسى ملامح تجربته الشعرية، ويحدد آلياتها ومقوماتها، ويتناول زكريا عناني الروافد الثقافية التي شكلت شاعريته، وتتأمل أمينة غصن قصائده بين الإحيائية والرومانسية.

          ليبدأ بعد ذلك محور يتصل بالمشترك الثقافي العربي - البوسنوي في العصر الحديث، فيتناول جمال الدين سيد، وزلهاد كلوتشانين المؤثرات العربية والإسلامية في الشعر البوسنوي الحديث، بينما يتوقف إسماعيل أبو البندورة، وفكرت كارتيتش أمام التواصل الثقافي للبوسنة مع الشرق في القرن العشرين من خلال القاهرة ودورها في رحلات البشانقة.

          وفي المقابل يتحدث محمد موفاكو، وأسعد دوراكوفيتش ـ مؤلف الكتاب المهم «علم الشرق» عن دور الاستشراق البوسنوي في التعريف بالأدب العربي، وتنفرد جنيتا كاريتش بتقديم جماليات الأدب البوسنوي المكتوب بالحرف العربي، بعد أن تعطي بيرين باريتش نبذة تاريخية عنهم، ويعقب ذلك تقديم عرض فولكلوري رائع من التراث البوسنوي.

          ويلفتنا بحث الدكتور جمال الدين سيد، أحد رواد الدراسات حول أدب البلقان، الذي يحمل عنوان «المؤثرات العربية الإسلامية في الشعر البوسنوي الحديث»، وفيه يذكر أن الإبداعات الشعرية بالبوسنة والهرسك حفلت بإيحاءات ونفحات عربية إسلامية، ظهرت بأساليب مختلفة ووسائل تعبيرية متباينة، وهي ظاهرة أدبية فريدة أسهم في حدوثها موقع البوسنة والهرسك المتميز المجاور للشرق، الأمر الذي سمح بحدوث العديد من الاتصالات على مدار التاريخ. 

خصوصية الاستشراق في البوسنة والهرسك

          وكذا بحث المستعرب الكبير الدكتور أسعد دوراكوفيتش، الذي يتناول خصوصية الاستشراق في البوسنة والهرسك وأثر هذه الخصوصية على التوجهات العلمية للاستشراق فيها، ويلفت النظر إلى الاختلاف بين الاستشراق بمفهومه الغربي القائم على النظرة المركزية الأوربية التي تنظر إلى الشرق نظرة أيديولوجية مسبقة وتراه آخر وموضوعًا للدراسة، وبين «علم الشرق» Orientology وهو الاسم الذي يعطيه البشناق للاستشراق للتفريق بين نظرتين وموقفين من دراسة فيها الشرق كموضوع آخر بعيدًا عن هذا التكوين، وإنما كسياق من سياقات هذه الثقافة وارتباطها بالشرق.

          ويذكر أنه في عصر الإدارة العثمانية ظهرت كتابات بوسنية في اللغات التركية والفارسية والعربية كانت تضاهي في مستواها ما كان يكتب في هذه اللغات في بلادها، وأسس البشناق بناء على ذلك تراثًا وتطورت هويتهم بانسجام مع التقاليد الإسلامية الشرقية وعلى أسس قيمها، كما أسسوا في الوقت نفسه تراثًا مرتبطًا بالدوائر الأوربية التي كانوا على تماس معها، ولم يكن بمقدورهم الانغلاق عليها.

          وتم الانتظار طويلاً حتى تم الاعتراف المؤسسي بعلم الشرق في البوسنة والهرسك، وحتى عندما أقيمت مؤسساته، فقد كان ينظر إليها على أنها شر لابد منه لأسباب عديدة.

          وكان العاملون في معهد الاستشراق الذي تأسس عام 1950 تحت رقابة معينة، ولا يطلب منهم سوى بعض المعلومات والمعارف المتعلقة ببعض الكتب والمخطوطات القديمة لخبرتهم بها.

          وفي مثل هذه الظروف كان الاهتمام والتعرف على الآداب الشرقية الإسلامية وخصوصًا العربية يأتي في الدرجة الثانية، على ذلك لم يصدر في تلك الفترة سوى قاموس عربي وحيد من إعداد «توفيق مفتش» بعد أن أمضى وقتًا طويلاً في البحث عن ناشر للقاموس.

          وندر في مثل هذه التراجيديا الثقافية التاريخية أن كان هناك اهتمام لدى البشناق بالأدب العربي والثقافة في البلاد العربية، ولم تكن هناك ولفترات طويلة دراسات عن الأدب العربي، واقتصر الاهتمام على الدراسات الدينية.

          وكان من النادر قبل الحرب العالمية الثانية وبعدها بقليل أن تجد من يترجم الإبداعات الأدبية العربية من اللغة العربية مباشرة إلا قلة مثل «محمد سباهو» و«بسيم كوركوت» و«علي بيتش» وهم الذين ترجموا بعض أجزاء من كتاب «ألف ليلة وليلة»، مع الأخذ في الاعتبار أن «سباهو وكوركو» كانا عالمين بوسنويين مشهورين ويعرفان اللغة العربية، لكن «كوركوت» كان ينشر ترجماته في بلجراد خارج البوسنة والهرسك.

          وأما أول ترجمة للقرآن الكريم فقد كانت من اللغة الفرنسية، وقام بها الراهب «ميشو ليو ببراتش» ونشرت في بلجراد ثم نشرت بعدها ترجمات كاملة للقرآن الكريم (بانجا - تشاوشيفتش) 1937، وظهرت في نفس العام ترجمة «كرابيق» أما أول ترجمة للقرآن من اللغة العربية، فقد قام بها «بسيم كوركوت» ونشرت في سراييفو عام 1973.

          وأعطى علم الشرق في البوسنة والهرسك في الثمانينيات والتسعينيات اهتماماً خاصاً لترجمة الأدب العربي تعويضًا عما فات من وقت، وتمت في تلك الفترة ترجمة عدد مهم من الأعمال الأدبية العربية لكل من نجيب محفوظ، وجبران، وبعض أعمال ميخائيل نعيمة، وتوفيق الحكيم، وطه حسين، ويوسف إدريس، وحسين هيكل، وإبراهيم المازني، ومحمد ديب، وأبوالقاسم الشابي، وآسيا حبار، وكاتب ياسين، ومحمود درويش، وجبرا إبراهيم جيرا، وغسان كنفاني، وعبدالوهاب البياتي، والطيب صالح، وحنان الشيخ» وآخرين.

          وفي مرحلة ما بعد الحرب على البوسنة والهرسك ظهرت ترجمة كاملة للقرآن الكريم من اللغة العربية عام 2004 و«ألف ليلة وليلة» 1999 والمعلقات السبع عام 2004، وهي من ترجمة كاتب هذه السطور، وتجدر الإشارة إلى أن ترجمة «ألف ليلة وليلة» هذه هي أول ترجمة من العربية في دول يوغسلافيا السابقة، وأن ترجمة المعلقات هي الترجمة الوحيدة لها إلى اللغات البوسنية والكرواتية والصربية. وقدمت هذه الترجمات لجمهور القراء في البوسنة والهرسك أهم الأعمال الكلاسيكية العربية.

          وقبل أن يغادر العرب حاضرة البوسنة يعلن الشاعر عبدالعزيز سعود البابطين قراره نشر خمسة كتب سنوياً للتعريف بالثقافة البوسنية، أو ترجمة الإبداعات العربية إلى هذه اللغة، وذلك بالتعاون مع جامعة سراييفو، وكذا تقديم عدة منح للطلاب البوسنيين للدراسة في الأزهر الشريف في مصر لامتلاك ناصية اللغة العربية والدين الإسلامى الحنيف.

          وكان قد أعلن في بداية الملتقى أن مؤسسته قررت إقامة الملتقى سنويًا بدلاً من كل سنتين، على أن يكون سنة في بلد عربي وأخرى في بلد أجنبي، نظرًا لما لهذه الملتقيات من فوائد جمّة على العلاقات بين الثقافة العربية والثقافات الأجنبية.

محمد علي / ماك دزدار

          وقع اختيار مؤسسة جائزة عبدالعزيز سعود البابطين للإبداع الشعري على الشاعر البوسنوي الكبير محمد علي دزدار/ماك دزدار (1917 - 1971) لتكريم اسمه مع الشاعر العربي خليل مطران، وقامت باختيار مجموعة من قصائده التي جاءت في أشهر كتبه «النائم الحجري» المترجم إلى اللغة الإنجليزية، ليترجمها إلى العربية الكاتب الأردني إلياس فركوح، وهي قصائد ومقطَّعات شعرية حملت صوت البوسنة والبوسنويين وآمالهم والتي كبتت قهرًا وظلمًا منذ مئات السنين.

          وقد عُرف الشاعر البوسنوي محمد علي بلقب «ماك»، وهو الاسم الذي استخدمه للتمويه ليتفادى المخاطر المحدقة به أثناء الغزو الذي تعرضت له بلاده، فكتب العديد من القصائد والمجموعات الشعرية التي ينادي فيها بحرّية وطنه المستباحة.

          ويوضح فركوح أن عنوان الديوان يشير إلى أن ضحايا الاضطهاد الديني الراقدين تحت شواهد القبور سوف يُبعثون من جديد هازئين بقاتليهم، قضاة محاكم التفتيش، وبالتالي فهم ليسوا نيامًا تحجَّروا (الحجارة ميتة إلى الأبد) بل النيام تحت الحجارة وبينها ينتظرون ساعة قيامهم ليستيقظوا.

          ويشكل ديوان «النائم الحجري» نقطة تحوّل في الشعر البوسنوي وجنوبي السلاف في القرن العشرين. وقد ظهرت الطبعة الأولى من هذا الديوان عام 1966، وأعيدت طباعته في عام 1973 بعد وفاة الشاعر.

          ويتحدث الديوان عن المسيحي المؤمن بالكنيسة البوسنوية المنشقَّة في العصور الوسطى، الذي استلقى منتظرًا يوم الحساب بين القبور الحجرية البيضاء. ويعود صوته ليتكلم من جديد بعد مئات من سنوات الصمت، إنه صوت البوسنة الذي حُجب في الرموز المقدسة المنحوتة والمدوَّنة في القرارات، وسجلات التاريخ، والتي نجت من جميع محاولات تدميرها.

          وقد احتوت الترجمة العربية على أكثر من خمسين قصيدة أو نصًا شعريًا، وتعقيب للمترجم إلى الإنجليزية فرانسيس ر. جونز.

خليل مطران

          خليل مطران (1872 - 1949) شاعر لبناني شهير عاش معظم حياته في مصر. عرف بغوصه في المعاني وجمعه بين الثقافتين العربية والأجنبية. كما عرف بغزارة علمه وإلمامه بالأدب الفرنسي والعربي، هذا بالإضافة إلى رقة طبعه ومسالمته وهو الشيء الذي انعكس على أشعاره، أُطلق عليه لقب «شاعر القطرين»، وبعد وفاة حافظ وشوقي أطلق عليه لقب «شاعر الأقطار العربية».

          دعا مطران إلى التجديد في الأدب والشعر العربي فكان أحد الرواد الذين أخرجوا الشعر العربي من أغراضه التقليدية والبدوية إلى أغراض حديثة تتناسب مع العصر، مع الحفاظ على أصول اللغة والتعبير، كما أدخل الشعر القصصي والتصويري للأدب العربي.

          عمل في جريدة «الأهرام» وهو في العشرين من عمره، وكانت تصدر من الإسكندرية، ثم تركها بعد سبع سنوات ليتفرَّغَ لشعره وأعماله الأدبية والترجمة والتأليف، إلى جانب بعض الأعمال التجارية والمالية. وفي عام 1900 أصدر مجلة أدبية نصف شهرية سمَّاها «المجلة المصرية»، ولكنها لم تستمر سوى سنتين. ثم أصدر جريدة يومية سمَّاها «الجوائب المصرية» عام 1903. 

من إصدارات الدورة الثانية عشرة (دورة خليل مطران  ومحمد علي/ماك دزدار):

  • مختارات من شعر مطران (باللغتين العربية والبوسنوية) اختيار وترجمة د. منير مويتش، ود. عمرة موليفيتش.
  • خليل مطران .. الوجه الآخر (الكتابات النقدية) د. محمد مصطفى أبوشوارب.
  • مطران في مرآة النقد الأدبي. د. نسيمة الغيث.
  • خليل مطران في المصادر العربية والمعرَّبة. د. صباح نوري المرزوك ود. محمد مصطفى أبوشوارب.
  • خليل مطران.. حياته وشعره للدكتور أحمد دوريش. ترجمة د. رشا صالح.
  • التجديد في شعر خليل مطران. د. سعيد منصور.
  • التسامح والانسجام في البوسنة (وثائق وصور) د. أنس كاريتش والسفير أدهم باشيتش.
  • مختارات من الشعر المعاصر في البوسنة (بالعربية) اختيار وترجمة إسماعيل أبوالبندورة.
  • مختارات من شعر محمد علي / ماك دزدار (بالعربية) اختيار وترجمة إلياس فركوح.
  • مختارات من الشعر العربي في الكويت في القرن العشرين (بالبوسنوية) اختيار د. محمد موفاكو وترجمة د. أسعد دوراكوفيتش.
  • البوسنة في الشعر العربي المعاصر. اختيار ودراسة محمد المشايخ وترجمة د. ألما دزدار.
  • الجوهر الأسنى في تراجم علماء وشعراء البوسنة لمحمد الخانجي. تقديم وتعليق د.محمد موفاكو.
  • علم الشرق للدكتور أسعد دوراكوفيتش. ترجمة عدنان حسن.
  • الأعمال الشعرية الكاملة لخليل مطران. إعداد د. أحمد درويش.
  • الإجماع النادر.. الشعراء ينشدون في تحية خليل مطران، جمعها د. محمد مصطفى أبوشوارب.

 

 

 

مصطفى عبدالله