فلسفة الحياة في شعر طرفة بن العبد

فلسفة الحياة  في شعر طرفة بن العبد

غموضُ فكرة الموت في شعر طرفة بن العبد جعله يعْبُرُ جسرَ الحياة غير مبالٍ بما وراءها، هو لا يدري ماذا يضمر له الموت، لذا فإنه يجادل من يخوِّفه بالموت، ويطلبُ منه الإقلاع عن كلّ ما تغريه به الحياة، وباستنكار لا يخلو من السخرية، يقول للائمِهِ: «ستعلمُ إنْ متنا غدًا أيّنا الصّدي» السؤال هنا يعني استنكار معرفة ماذا وراء الموت، والتي تُعيي كلّ من حاول الولوج إلى مكنوناتها، والتي كانت وستكون حتمية والِجِها أنْ «أقامه الفكر بين العجز والتعبِ» كما يقول المتنبي، كأن ضمور فكرة الموت في حياته وشعره جعلته مُلِحًا في الإقبال على الحياة، وغائصًا في ملذَّاتها ومعطياتها التي أقبل عليها غير ملومٍ، والتي تناديه مغريةً بغواياتها التي لا يُروى لها نهمٌ. لقد نذر طرفة بن العبد نفسه لتفرده الذاتي والجمعي في آنٍ.

 

حَمِيَّتُه وفتوَّته جعلتْاه جمعًا بصيغة المفرد، إنه كلُّ فتى ذي نجدةٍ وتَمَيُّز، ومفردٌ بحريته ومصيره. والذين يكونون هكذا يكونون أقلّةً في الوجود، لأنَّ تحوُّلَ الحياة إلى قيمةٍ ورسالة يجعل لها ثمنًا أكَّدَهُ المتنبي بقوله:  «الجودُ يُفْقِرُ والإقدامُ قتّالُ». الحياة هي كلّ ما يريده طرفة بن العبد بلذائذها ولوازم فتوّتِه العليا فيما يراه منسجمًا مع تكوينه وتفرده في مجتمع يُلغى فيه الفرد وفق رغبات القبيلة. ولولا هذه اللذائذ والقيم التي يؤمن بها: «وجَدِّكَ لم أحفِلْ متى قام عُوَّدي». إذن للحياة معنى يستحقُ أن يَعْبُرَ به الإنسان ولو إلى الموت. لقد لامه الناس على تعرُّضِهِ للحروب وممارسة اللذات، لكنه لم يكن مقتنعًا بلوم لائميه ولا بحكمتهم لإدراكه أن للحياة نهاية، طالتْ أم قصرتْ: 
ألا أيّهذا اللائمي أحضرَ الوغى 
    وأن أشهدَ اللذات هل أنت مخلدي 
فإن كنتَ لا تسطيعُ دفعَ منيّتي 
    فدعني أبادرْها بما ملكت يدي

هذا المنطق أخذ به الجميع: «ستموتُ إنْ تشربْ وإن لم تشربِ». لم يكن طرفة بن العبد يخاف من خوض المنايا، إنه ابن بيئةٍ «لا ترى القتلَ سُبّةً». وربما يأنف أحدهم الموت على فراشه. والنتيجة في رأي طرفة أنّ حتمية الموت تدعوه إلى اقتناص اللذات قبل قدوم الموت «فذرني أبادرْها بما ملكت يدي». وربما كان هناك اندفاع أعلى عند طرفة في قضية ملاقاة الموت وخوض غماره بسبب عمره اليافع. وهذا الاندفاع، ورغم حتمية الموت، لا نجده في شعر زهير بن أبي سلمى الذي سئم الحياة وتكاليفها. إن خلايا العمر الشبابي تختلف بتوتراتها عن مرحلة الشيخوخة والكهولة.
إن الخصائص الذاتية التي كوّنت شخصية طرفة بن العبد جعلته يعشق حريته ووجوده المتمرد والثائر على وقار القبيلة حدٍّ بعيد، وهذا العشق الوجودي هو إرادة تحقيق الأنا الفردية والاجتماعية بسمو حالة الرغبة وحسيَّتها وسمو القيمة التي تؤكد أناه وتفرده، يقول طرفة:

ولولا ثلاثٌ هنَّ من عيشة الفتى    
    وجدِّكَ لم أحفلْ متى قامَ عُوَّدي
فمنهنَّ سبقي العاذلاتِ بشَرْبَةٍ    
    كُمَيْتٍ متى ما تُعلَ بالماءِ تُزبِدِ
وكَرّي إذا نادى المضافُ مُحَنَّبًا
    كسِيدِ الغضا ذي السَوْرةِ المُتَوَرِّدِ
وتقصيرُ يومِ الدَجْنِ والدجنُ مُعجَبٌ
    ببَهْكَنَةٍ تحت الطِرافِ المعمَّدِ

هذا ما تستدعيه أيام الشباب والفتوة والمكرمات التي كانت سائدة في عصر طرفة بن العبد، واللافت أنه صبَّ وجوده كله وبلا استثناء على تبرير فتوته هذه الممزوجة بنزوات عصر الشباب ومكارم النخوة التي كانت أصيلة كالحياة نفسها في النفوس المنتمية إلى ذلك العصر. والتبرير هنا ينحو منحى فرديًا ومنحى اجتماعيًا على الرغم من الخصوصيات التي كانت تتميز بها شخصية الشاعر طرفة بن العبد. ومع غوصه في غواياته كان «فتًى» يرفع من معنى وجوده في الحياة بخوض غمارها:
إذا القومُ قالوا من فتى خلتُ أنني
                عُنِيتُ فلم أكسلْ ولم أتَبَلَّدِ
فإنْ تبغِني في حلقة القوم تلقني
    وإنْ تلتمسْني في الحوانيتِ تصطدِ
وَإِنْ يَلْتَـقِ الحَيُّ الجَمِيْـعُ تُلاقِنِـي  
    إِلَى ذِرْوَةِ البَيْتِ الشَّرِيْفِ المُصَمَّـدِ

في هذه الأبيات لم تمت القبيلة بل استيقظت بفرديته دون أن تلغيها، وظلت مفاهيم القبيلة وعاداتها تشدّها إليها حرًا ومُقيّدا. لقد ظلّ ضمير المتكلم مسيطرًا على معلقته كلها، وضمير المتكلم يدعو القبيلة إليه:

أنا الرجلُ الضربُ الذي تعرفونه   
           خَشاشٌ كرأسِ الحيّة المتوقّدِ

ومن أبرز الخصائص التي تمتاز بها شخصية طرفة بن العبد مفهومه الوجودي لحريته، ولعل عمره القصير والذي لم يتجاوز ستًا وعشرين سنة من أهم صفات شبابه المتمرد، وقد أشارت أخته الخرنق إلى عمره القصير في رثائه: 

عددْنا له ستًا وعشرين حجةً
    فلما توفّاها استوى سيدًا ضخما
فُجِعْنا به لما رجوْنا إيابَه
    على كلّ حالٍ لا وليدًا ولا قحْما

عمره القصير جعل نزواته مبرر استمراره في الحياة، لقد أطلق لرغباته العنان حتى التخمة، وهذه التخمة تحولت إلى تهمة في رأي عشيرته كلها بسبب الإفراط في ممارسته إياها:
وما زال تشرابي الخمورَ ولذّتي  
    وبيعي وإنفاقي طريفي ومُتْلدي
إلى أنْ تحامتني العشيرةُ كلُّها      
    وأُفرِدْتُ إفرادَ البعيرِ المُعبَّدِ

حياته العابثة والمنهمكة في اقتناص لذاتها عرّضتْه للنقد القاسي، وجعلت أدنى أقربائه يصب عليه جام غضبه:
فمالي أراني وابنَ عمّيَ مالكًا
    متى أدْنُ منه ينأَ عني ويبعدِ
وظلمُ ذوي القربى أشدُّ مضاضةً
    على النفس من وقعِ الحسام المهنّدِ

لذا جاءت حكمته حادة، وصارت مضرب المثل بسيرورتها عبر الأجيال، إنها معبرة عن تمرد النفوس الكبيرة، ونزعتها للتفرد والتعالي. إنّ حكمته «وظلمُ ذوي القربى...» حادة وعميقة التأثر والتأثير؛ لأنها خرجت من نفسٍ تأنف حصار سلوكها، وترى أن حريتها أبعد من كل القيود الاجتماعية الرتيبة. لقد ضاقت نفسه ذرعًا بهيمنة العشيرة على عالمه الخاص، وكانت ترى في ذاتها تفردًا عاليًا لا يحيط به قيد ولا يردعه حصار، لقد كانت روح طرفة وعقله أعلى من رتابة عادات القبيلة؛ لذا كان غضبه حادًا ومعلنًا العصيان في مجتمع كان فيه الخروج على وقار العشيرة وعاداتها صعبًا، وتجاوز هذا الوقار كان يؤدي إلى الصعلكة والعزلة، وكان يخاطب ابن عمه مالكًا بصيغة الغائب منعًا لحضوره في ذاته المتمردة واحتقارًا لأوامره:
يلومُ ولا أدري علامَ يلومني
    كما لامني في الحي قرطُ بنُ أعبدِ

قَدَرِيَّةٌ مَشوبةٌ بالحزن
وفي شعر طرفة تبدو قَدَرِيَّةٌ مَشوبةٌ بالحزن، وكأنه يحتج على ما كُتِبَ له. إنها قدريةٌ منعتْه من أن يكون ذا مال وذا ثراء، ويعبر عنها بقوله محتجًا على ظلم القدر الذي أغنى قيس بن خالد وعمرو بن مرثد، وأفقرَ طرفة بن العبد: 
فذرْني وخلقي إنني لك شاكرٌ
    ولو حلَّ  بيتي نائيًا عندَ ضرغدِ
فلو شاء ربّي كنت قيسَ بن خالدٍ 
    ولو شاء ربي كنتُ قيسَ بن مرثدِ

ولا بدّ هنا من الإشارة إلى تناول حتمية الموت في شعر طرفة بن العبد، فالموت حتمية لا بد من الانصياع لها، وهذه الحتمية تعيش معنا حتى ولو كنا نمارس العبث في المقصف أو نحتسي الخمر في الحانة والحانوت، والتصدي لها فعل مستحيل، والجديد في مفهوم طرفة للموت أنه يجب ألا يقف حاجزًا بين الإنسان وممارسة دنياه كما يحلو له، إنّ جفافَ الحياة من اللذات في رأي طرفة يجعلها غير مختلفة كثيرًا عن الموت إذا لم نعاقر فيها كل ما تصبو إليه نفوسنا، وبما أن الحياة ستنتهي، ولا ندري هل نروي ظمأنا بعد الموت، أم سنكون ظماء فإن طرفة يرى أنّ على المرء ألا يغادر الحياة صاديًا: «ستعلم إن متنا غدًا أيّنا الصدي»،. إن طرفة هنا يحرِّض لائمه على الارتواء من الحياة قبل مغادرتها، فالكريم في رأي طرفة هو من لا يبخل على نفسه بمتع الحياة الدنيا:
كريمٌ يروّي نفسه في حياتهِ
    سَتَعلَمُ إِن مُتنا صدى أَيُّنا الصَدي
فَذَرْنِي أُرَوِّي هَامَتِي في حَيَاتِها
    مخافةَ شربٍ في المماتِ مُصَرَّدِ
ويستعير طرفة بن العبد صورة معبِّرة للموت من عالم الصحراء وصورها المادية، وعلى الرغم من مادية الصورة إلّا أنها معبرة ونافذة، إن الموت حبلٌ مُرخى لكنه ممسوك بقدرية بيدٍ لا نستطيع مقاومتها:
لعمرُكَ إنّ الموتَ ما أخطأ الفتى 
    لَكالطِوَلِ المُرخى وثِنْياه باليد

وفي الموت موعظة عالية الأداء والدلالة؛ إنه يلغي الفوارق ويجمع البشر في قبور مغطاة بتراب وصخور، وفي الموت لا يوجد سيدٌ ومسُود، فالناس سواسية عند الموت، وسيجعلهم الموت متشابهين في قبور موحشة، تغطيها كآبة الزمن، وستزول الفوارق والمراتب في بلاد الموت، فالبخيل لن يأخذ معه شيئًا مما بخل به، والكريم المتلاف سوف يدع خلفه كل شيء وسيواجه الموت كما واجهه البخيل المقتر. يقول طرفة بن العبد:
أرى قبرَ نَحّامٍ بخيلٍ بمالهِ
    كقبرِ غَوِيٍّ في البطالة مفسِدِ
ترى جَثْوَتيْنِ من ترابٍ عليهما
    صفائحُ صُمٌّ من صفيحٍ مُنَضَّدِ
أرى العيشَ كنزًا ناقصًا كلَّ ليلةٍ
    وما تنقصِ الأيامُ والدهرُ ينفَدِ

ولأن الموت في النهاية هو رحلة إلى عالم لا نحيط به علما فعلينا ألا نغادر دنيانا ظامئين كما يرى طرفة بن العبد، علينا أن نروي أنفسنا، وهذا هو الذي نكسبه في رحلتنا بين الحياة والموت، وقد تناول هذا المعنى - أي ربط العمر الزائل باللذات- شعراءُ كُثْرٌ، ومنهم الخيّام الذي يقول في رباعيّاتهِ: 
أطفئْ لظى العمر بشهْدِ الرضابْ
           فإنّما الأيام مثلُ السرابْ ■