العلامة والشاعر التركي الهندي العربي (1912-1971 م)

العلامة والشاعر التركي الهندي العربي (1912-1971 م)

وُلد العلامة الشاعر وشيخ الدين التركي الهندي العربي عبد الرحمن الكاشغري في 15 سبتمبر سنة 1912م في كاشغر، عاصمة تركستان الصينية (سينكيانغ)، التي سيطرت عليها الصين سنة 1949م، ومنذ ذلك التاريخ أخذت تُدعى تركستان الصينية، تمييزًا عن تركستان الروسية، وقد تعلم عبدالرحمن في بداية حياته في بلده، وحفظ القرآن الكريم صغيرًا، لكن شوقه للتعلم أدى به إلى طلب العلم في الهند، وكانت شهرة علماء الهند قد انتشرت في الآفاق، مع وجود مراكز متعددة للعلم والعلماء.

 

لم يبلغ عبدالرحمن الحادية عشرة من عمره حين سعى لطلب العلم، فأعد العدة للذهاب إلى الهند، لكن الطريق إليها كان وعرًا بين الجبال العالية التي تغطيها الثلوج أغلب أيام السنة، لكنه غامر وترك أهله وبلاده وخرج مشيًا على الأقدام، متتبعًا القوافل، وبعد عناء ومشقة ومن بلد وسط الجبال إلى بلد آخر وصل إلى «بامير»، ومنها إلى «وخان»، التي تقع في أفغانستان، وهناك مكث شهرين حتى انحسرت الثلوج، وبدأت القوافل في المسير، سار معها عبدالرحمن إلى أن وصل إلى «بدخشان»، فمكث بها ستة أشهر، وبعدها وصل إلى «دركني» ماشيًا على أقدامه، وهناك ركب القطار إلى «أمرتسر» في الهند. 

رحلته في الهند
في أمرتسر كان في خدمة الشيخ عبدالله المنهاز، الذي توسط له عند الشيخ عبدالحي، الأمين العام لندوة العلماء في ذلك الوقت، وبدأت دراسته العلمية في ندوة العلماء، وكان بارعًا في الدراسة، ومكث فيها من1922م إلى 1930م. تلقى جميع العلوم الإسلامية؛ من اللغة العربية، والتفسير، والحديث، والفقه، والبلاغة وقرض الشعر، وحصل على شهادة ندوة العلماء سنة 1931م. 
بعد أن فاز بشهادة الفضيلة، والتي تعادل الليسانس في الأدب من جامعة لكناو، حصل على شهادة القراءات السبعة من المدرسة الفرقانية، وبعدها عيّن في قسم الفقه وأصوله في المدرسة العالية في كلكتا، وكان ذلك سنة 1938م، ثم نزح إلى دكا بعد انفصال باكستان، ومارس التدريس في المدرسة العالية في دكا سنة 1956م، وأتقن اللغات التركية والأوردو والعربية. 
قرأ الشيخ عبدالرحمن دواوين الشعر العربي، ومجموعات أدبية أخرى، وتفسير الكشاف للزمخشري، ومن الملاحظ أن الشاعر الدكتور عبدالعزيز الميمني الراجكوتي كان يثق به، وبإتقانه للغة العربية، لذا دفع إليه مخطوطة «سمط اللآلي» قبل طباعة المخطوط، ويقول عنه تلميذه أبو محفوظ الكريم المعصومي: «شيخي وأستاذي اللغوي الأديب عبدالرحمن الكاشغري بن المولوي عبدالهادي، المولود في كاشغر عاصمة بلاد الترك، المتاخمة للصين، وكما قال شيخي الكاشغري في مطلع قصيدة له: 
أمن خدِّها الوردي هل أنت آبقُ أم
    البرق من تلقاء كشغر بأرق
 وبعد وفاة الشيخ نظم المعصومي قصيدة رثاء في شيخه يقول فيها: 
يقولون مات الكشغري فقلت: 
    لا أصدقكم يومًا وإن لم أكذب 
فحرصي على بقياء غير مصدق
    وعلمي بأمر الله غير مكذب 
وما النفس إلا للمنايا فريسة
    وإن هي كانت نفسُ حرٍّ مهذب 

شعره عن آلام وطنه
ذاع صيته في بلاد الهند كأفضل من يتحدث بالعربية، ويتقنها كتابة وتحدثًا، لكن لم ينسَ مسقط رأسه تركستان وما يحل بها من حوادث إثر احتلال الصين لها، فينظم قصيدة يعبر بها عما يشعر به تجاه تلك البلاد، على الرغم من كونه هندي الجنسية، يقول فيها: 

فرقت ما بين جفني والكرى
    نبأة تقرع أذني بالصـــفا
عن أباة الضيم أبطال الوغى
             مستنير الفكر أرباب الحجى 
إنَّ تركستان أمست مهبطًا 
            للدَّواهي الدهم من كرِّ العدى 
يا حمام الأيك زدني رافعًا 
           صوتكَ المبكي أناشيد الجوى 
يا إله الأرض يا ربِّ السما 
          يا من استعلى وأسمى من سما 
يا بديع الأنجم الزهر وما     
      في العلى من شمسها حتى السها
عونك اللهم عونًا كافلًا
        ذائدًا عنها البلايا والأذى

هكذا الشاعر العربي التركي يدعو الله أن يكون في عون أهله وأقربائه في تركستان، وهو شاعر نظم في معظم موضوعات الشعر العربي، فهو تركي الأصل هندي البلد والجنسية، لكنه عربي الثقافة والفكر. 
قال عنه الشيخ مسعود عالم الندوي، مدير تحرير مجلة « الضياء» العربية: 
«من أعيان هذه الطبقة صديقنا الأستاذ عبدالرحمن الكاشغري الندوي، إن له شعرًا رصينًا في العربية، نزَّاعًا إلى القومية، طموحًا إلى المجد، وذلك مما ينبئ عن مستقبل حسن للغة القرآن الكريم في الهند، وإنما عددناه من بين شعراء الهند، مع كونه تركيَّ المنبت». 
هذا الإطراء من عالم متبحر باللغة العربية، ويرأس تحرير مجلة عربية لهو في محله، فقد اعترف العلماء بمقدرة الشيخ عبدالرحمن اللغوية، وتمكنه منها نظمًا ونثرًا، لذا كان تخصصه في الأدب العربي، تدريسًا ودراسة، وهذا الأمر قد أدى به إلى أن يصدر ديوانين من الشعر العربي: ديوان «الشذرات» وديوان «العبرات»، لكنهما غير مطبوعين. 
نظم قصيدة في جبال هيمالايا، يقول فيها: 
أخالُ أيها الساري ضلولًا
      تركت سبيلك الوسطى شمالا 
شمالًا قد حوى عِيرًا ونصحًا 
    وفيهِ من العُجابِ ذُرى هُمالا 
همالًا أيها الحصن المعلى 
          لأرض الهندِ من تســــتنالا
كفى بك عزّةً وفخار نفس 
    تبارى في العلى السبع الطوالا
بل السبعُ الطوال تخرُّ عجزًا
       وتلثم صلت واضحك ابتهالا
خلت من هذه الدنيا عصورٌ 
              وأحقابٌ يفتتـــنَّ الجبـالا
فما أثرن فيك وظللن قدمًا
            تذودُ أزامع الدهرِ الثقالا
مرور الأبردين على التوالي 
      أشاب المُرد واختلس الرجالا 
فيـــا للهِ أنت على شــباب     
    رطيب الغصن ما غيرت حالا 
إله الخلق إذ نادى كليمًا 
      تلقى من مناديه الكمالا 
فكان الطور مهبطَ كلِّ سرٍّ 
         خفيّ من تجليه تعالى 
لعمر الله أنت بلا امتراء     
    بصائر للتي طابت خصالا 
فلا يرمى بك الرجوان واثبت 
     ثبات مفدم يبغي النضالا

 على أن الصورة لا تكتمل عن هذا الشاعر دون قراءة كل ما نظمه من قصائد، وبخاصة أن ديوانيه لم يطبعا، لذا كانت مقدرته الفنية يعتريها شيء من النقص، فلا يكون الحكم عدلًا، لكن ما تم نشره ينم عن المقدرة الفنية من حيث توظيف الألفاظ العربية التي تخدم غرضه في النظم، واتّباعه بحور الشعر العربي. 

من مؤلفاته
كان الشيخ الكاشغري محبًا للغة العربية، ويخطب بها بكل طلاقة ومقدرة، كما كان يخطب أيضًا بلغة الأوردو، ويتحدث باللغة التركية أيضًا، فهو ملم وبارع في اللغات الثلاث، نشر بعض قصائده باللغة العربية في مجلات عربية تصدر في الهند، مثل «الضياء» وغيرها، وله مؤلفات أخرى منها: 

1- محكم النقد في تحقيق نقد الشعر لقدامة بن جعفر. 

2- المحبر في المؤنث والمذكر. 

3- كتاب الأسد وكناه، نقّحه وهذّبه، بعد حصوله على كتاب «الذئب» للصاغاني. 

4- جمع وتخريج ابن معقل العجلاني. 

5- قاموس في اللغة العربية والأردو. 

6- له رسائل متعددة، لكنها لم تطبع. 

7- له ديوانان في الشعر العربي. 

درس اللغة العربية صغيرًا، وحصل على شهادات فيها، واعترف له أصدقاؤه بالنبوغ فيها، وشهدوا له بالتضلع في اللغة ومبانيها وبلاغتها، فكان عندما يكتب باللغة العربية أو ينظم بها كأنه أحد أبنائها، لذا يلجأ إليه طلاب العربية ليفك طلاسم بعض المفردات العربية، أو شرح أبيات غمضت عليهم. وقد حفظ مفردات المعجم العربي حتى الألفاظ الحوشية والنادرة، وتظهر مقدرته باللغة وتمكّنه منها من خلال أشعاره ومؤلفاته. 
والهند، تلك البلاد البعيدة عن قلب الوطن العربي، تحتوي على كثير من شعراء العربية غير المعروفين عند العرب، وقد أجملهم الكاتب في مجلدات ثلاثةً تضم 300 شاعر، وتمت طباعتها من قبل مؤسسة عبدالعزيز سعود البابطين الثقافية، ومن أمثال هؤلاء: صديق حسن خان القنوجي، والعلامة شبلي النعماني، والسيد سليمان الندوي، وعبدالمقتدر الدهلوي، وغلام علي آزاد البلغرامي، وغيرهم كثير، وشاعرنا هذا من بينهم. 
والشاعر العربي الكاشغري، الذي ترك بلاده وهو في الحادية عشرة من عمره، وأخذ منه الطريق نحو سنة مشيًا على الأقدام، وارتقى بتعليمه حتى أصبح علمًا في العربية، وكان شديد الإعجاب باللغة العربية، نظمًا ونثرًا، حفظ دواوين الشعر العربي، وتأثر بأسلوبهم وطريقة عرضهم لخلجات صدورهم، ففاضت قريحته بعشرات القصائد. وكان مبدعًا، أسر قلوب طلابه ومريديه، وكان مرجعًا لهم في اللغة التي يدرسونها. انتقل العلامة الكاشغري إلى رحمة الله تعالى سنة 1971م في دكا، عاصمة بنغلاديش بعد انفصالها عن باكستان ■