ثورة المحاكاة الفن والعمارة في زمن «الميتافيرس»
تعتبر الفترة الممتدة من نهاية الحرب العالمية الثانية إلى يومنا الحالي أحد أكثر الأزمنة غِنًى وتنوعًا، من حيث الحركات الفكرية والفنية، حيث إن الأدب، الرسم، السينما، العمارة، وغيرها من الفنون التعبيرية جميعها عايش تيارات وتوجهات متعددة، اختلفت حسب السياق العام لزمنها، متأثرة بالظروف والتطورات الاقتصادية والثقافية والتقنية التي يعرفها المجتمع. من بين هذه التطورات يعتبر «الميتافيرس» أحد أحدث المصطلحات وأكثرها صخبًا في الآونة الأخيرة، فهل صحيح إنه الخطوة القادمة لتغيير ملامح العالم؟
بدأ كل شيء قبل بضعة أشهر، حين أعلن عملاق شركات التواصل الاجتماعي فيسبوك عن تغيير اسم شركته إلى «ميتا»، هذا اللقب الجديد المبني على مصطلح الخيال العلمي «ميتافيرس»(Metaverse)، هو أكثر من مجرد تغيير للعلامة التجارية، بل تعبير لرؤية شمولية جديدة، يتصور فيها مارك زوكربرج عالمًا رقميًا سوف يصير خليفة للإنترنت الحالي.
مثلما تنبأ أدب جول فيرن بالصعود إلى القمر، وأدب آرثر كلارك بظهور شبكة الإنترنت، يعود أصل كلمة «الميتافيرس» إلى رواية الخيال العلمي «تحطم الثلج»(Snowcrash) للكاتب الأمريكي نيل ستيفنسون، الصادرة عام 1992، وهي اقتران بين ميتا (بمعنى ما وراء) والكون. يصف الكتاب رؤية ديستوبية لكيفية تطور التكنولوجيا والعالم الرقمي مستقبلًا. سوف تتطور هذه الفكرة فيما بعد في كتب وأفلام سينمائية أهمها فيلم «الماتريكس» الشهير، وصفًا لطفرة رقمية مستقبلية سوف تغير الحياة البشرية بشكل جذري.
في السنوات الأخيرة، عوّضت «نتفليكس» الذهاب إلى السينما، كما عوض «أمازون» اقتناء الكتب من المكتبة، بينما تحل «الإنفتيز» (NFTs) شيئًا فشيئًا محل الأعمال الفنية المادية. «الميتافيرس» يأتي في السياق نفسه، ليقترح بديلاً شاملًا للحياة العامة. ماذا لو صار بإمكاننا العيش في عالم موازٍ شبيه بعالمنا الحالي، لكن باحتمالات وقُدرات أكثر انفتاحًا؟ «الميتافيرس» عبارة على إنترنت متجسد، مساحة تجمع بين الإنترنت والحياة الواقعية، بدلًا من عرض المحتوى على المتلقي من خلال شاشة هاتف أو حاسوب، كما هو الحال الآن مع شبكة الإنترنيت، «الميتافيرس» يكسر هذا الحاجز الملموس بين العالم الافتراضي والمتلقي، ويضع المستخدم مباشرة في قلب العالم الرقمي.
تشريح «الميتافيرس»
تساءل الكثيرون عن سبب إطلاق المنصة في هذا الوقت بالتحديد، والحقيقة أن الاختيار الزمني الذي تم بشكل استراتيجي قد ساهم في الاهتمام والشهرة التي لاقاها هذا العالم الافتراضي، إذ إن التعوُّد في الآونة الأخيرة على الانغماس في العالم الرقمي أكثر من السابق هو ما قد يفسر سبب اختيار هذا الوقت بالتحديد، حيث إنه منذ انطلاق جائحة كورونا وانتشارها في شتى أقطار العالم صار استعمال التكنولوجيا ضروريًا أكثر من أي وقت مضى، فجرى الانتقال من المكتب إلى المنزل، ومن الرياضة إلى ألعاب الفيديو، ومن الأصدقاء إلى المتابعين على مواقع التواصل الاجتماعي، وهو ما قد يسهل الانتقال السلس إلى عالم افتراضي بشكل كامل.
منذ الإعلان عنه صار الجميع يتحدث عن هذا العالم الافتراضي وما يطرحه من اقتراحات بديلة للحياة العامة، وجميع الصحف العالمية والقنوات الإخبارية تصفه كمستقبل هذا العالم، ابحث عن كلمة ميتافيرس في غوغل ستجد أكثر من 51 مليون عنوان يتطرق إليه، في حين تقول الصحفية «لورن جاكسون» في مقالها الأخير على النيويورك تايمز، إن كل هذا الصخب الإعلامي حول «الميتافيرس» هو مجرد خطة تسويقية تهدف إلى جلب أكبر عدد من المستثمرين ورؤوس الأموال.
هذا الضجيج والاهتمام المتزايد بـ «الميتافيرس» قد يذكرنا بما عُرف بفترة «هوس التوليب»(Tulip mania)، في القرن السابع عشر بهولندا، حين ارتفع سعر أزهار التوليب الهولندية، فتزايد الاهتمام بها حتى تجاوز سعر الواحدة منها قيمة بيت كامل. خلال تلك الحقبة أصبح شراء زهور التوليب وبيعها صفقة استثمارية واعدة، ما أدى بالكثيرين ممن يطمحون إلى الربح السريع، إلى بيع كل ما لديهم من أجل شراء أكبر عدد ممكن منها، قبل أن ينهار ثمنها بشكل كامل في فبراير 1637، مُفضية إلى إفلاس الآلاف من الأشخاص في أوربا.
يقول مارك زوكربرج إن «الميتافيرس» هو أكثر من مكان افتراضي للمتعة والدردشة، وأنه سوف يُشكل فرصة لخلق مناصب شغل جديدة في كل أقطار العالم، فقد تمت الاستعانة بنحو عشرة آلاف مصمم تقني فقط من أجل الإطلاق الأولي للمنصة، في حين يرجَّح أن يتيح فرصًا لمهن وقدرات أخرى من قبيل مصممي الأزياء، والفنانين، ومصممي الألعاب، والمدرسين، وبخاصة المعماريين ومصممي الديكور.
باستخدام نظارات الواقع الافتراضي، يمكن للمرء ابتكار شخصية افتراضية بالمواصفات التي يريدها، تمامًا مثل ألعاب الفيديو، عبرها سوف يعيش في عالم رقمي مواز، شبيه بالعالم الواقعي. وتكمن أهمية «الميتافيرس» فيما سوف يطرحه من اقتراحات بديلة للحياة العامة، مثل إقامة حفلات موسيقية بحضور جماهيري لا محدود، وتنظيم معارض لمصممين وشركات عالمية، نخص بالذكر هنا شركتي نايك وغوتشي اللتين دخلتا هذا العالم بهدف بيع أزياء افتراضية للمستخدمين بأثمان لا تقل عن أثمان منتجاتهما في الحياة الواقعية، كما أنه من المتوقع أن يتمكن المستخدم من الحصول على امتيازات أخرى ذات أهمية محورية في الحياة العامة، من تشخيص طبي عن بُعد، وكذا الحضور إلى قاعات الدرس.
المعمار الافتراضي
بعدما بدأ مستخدمو «الميتافيرس» شراء مساحات أرضية افتراضية تحاكي المواقع الحقيقية على أرض الواقع سوف يتعين عليهم فيما بعد توظيف مصمم للإشراف وتصميم ما يبتغونه على قطعتهم الأرضية، تمامًا مثلما يحصل في الواقع، وقد تم بيع أول بيت افتراضي ثلاثي الأبعاد قبل بضعة أشهر بمبلغ 500 ألف دولار، من تصميم المصممة الآسيوية «كريستا كيم» المعروفة بأفكارها التصميمية التي تجمع بين الفن والتكنولوجيا.
فهل يكون «الميتافيرس»، أي الجيل الجديد من الإنترنت، شيئًا جيدًا للعالم؟ للأدب والفن والعمارة؟ فنحن ما زلنا نتكلم عن العمارة الافتراضية كاتجاه فقط وليس كتيار، أي تريند (Trend)، وهو شيء وُلد وتطور في العالم الرقمي محيلًا للأشياء الأكثر شيوعًا بين عامة المستعملين. في حين أننا قبل كنا نتحدث عن «التيارات» القائمة على أساس فكري وثقافي صلب. يجب ألا ننسى أن التريندات تنتشر بسرعة لكنها تختفي بسرعة أيضًا لتحل محلها أخرى، فهل ولدت العمارة الافتراضية لتدوم وتتطور لتصير ميدانًا قائمًا بذاته؟ أم إنها ستكون مجرد محاكاة مصورة للعمارة الحقيقية؟ بعد «نتفليكس» وأمازون، هل حان الدور على العمارة الافتراضية لتعوض ما هو مادي وملموس؟
في عالمنا الواقعي يقتصر دور المعماري على خدمة المجتمع بمختلف نشاطاته الحيوية، من سكن وعمل ووسائل ترفيهية وتنقل، لكن في العالم الافتراضي ستتغير احتياجات المجتمع، إذ لن يحتاج الناس إلى ضرورات مثل الأكل والنوم، كما لن يشعر المستعمل بالتعب أو الإعياء، فوظيفة البناء المعماري كما نعرفها سوف تتغير، وكل ما يحتويه من أثاث سوف يكون ذا طابع جمالي فقط، بهدف توفير تجربة واقعية للمستخدم لكي يشعر بأنه في عالم مواز للعالم الحقيقي، تحقيقًا للأهداف الأولى للميتافيرس في محاكاته للواقع. الشيء نفسه فيما يخص محتويات المقاهي والمطاعم، والساحات العامة، كلها سوف تفقد طابعها الوظيفي لتصبح مجرد ديكور يؤثث المشهد الافتراضي.
في الواقع الرقمي لا وجود لقوانين الجاذبية، أو عملية أو تكلفة أو حتى قابلية البناء، مما قد يعطي حرية كبيرة للمعماريين في أعمالهم التصميمية، متخلصين من كل المعوقات التي تواجه العمارة. قد يشهد «الميتافيرس» تحقيق أعمال ما كنا لنراها من قبل، نستحضر في هذا السياق كل مشاريع يوتوبيا العمارة التي تم تخيلها عبر التاريخ دون أن تفارق الورق.
لا أحد يمكنه إنكار حقيقة أننا نعيش في عصر «الصورة»، وهو ما قد يفسر قلة نسبة المقروئية في أوساط الجيل الحالي، حتى الجرائد الورقية والمجلات انتقلت لتصير بشكل إلكتروني، الأخبار صارت لا تتجاوز سطرين على بوست بالإنستغرام، فقد جعلت الإنترنت المرء يستهلك الصور ويتجاوب معها أكثر من غيرها من الأشكال التعبيرية، في شيء من الإدمان الإلكتروني، في حين أن «الميتافيرس» يزيد من حدة هذه الثقافة، حيث تتطور الصور لتصير ثلاثية الأبعاد، مما قد يفسر حقيقة أن الأعمال المعمارية والفنية الافتراضية لا تتعدى كونها مجرد صور خالية من أي معنى أو أساس فكري.
يُؤكد ابن خلدون، في كتابه «المُقدمة» على الصِلة الوطيدة القائمة بين المعرفة الثقافية والعِمارة، لطالما كانت هذه الأخيرة وليدة التيارات الفكرية والاجتماعية والفلسفية لعصرها. على سبيل المثال انطلق تيار التفكيكية من أعمال الفيلسوف الفرنسي جاكي دريدا ليتحول إلى تيار معماري قائم بذاته، وهي الحال ذاتها بالنسبة لجميع التيارات التصميمية، لها أساس صلب من المعرفة، فما خلفية هذا المعمار الافتراضي؟ أيكون إنتاج الصور وثقافة الاستهلاك الثقافي هما رسالة عصرنا الحالي؟ ألا يبخس ذلك من قيمة المعمار كفن رافق الإنسان منذ الأزل، ليصبح اليوم مجرد منتج استهلاكي يباع على الإنترنت؟
يجب ألا ننسى أن المعمار عدا عن كونه أحد أساسيات الحضارة، مثل الفن والآداب، فهو قبل كل شيء أكثر من «شكل»، بل تجربة إنسانية مكونة من تراكمات معرفية وثقافية تضرب في شتى الميادين والاتجاهات، يمكن للفضاءات أن تجعلنا نشعر بالسعادة أو الحزن، النوستالجيا، الخوف والرهبة، الفضاءات تلعب دورًا أساسيًا في الحياة اليومية للأفراد، أيمكننا أن نشعر بهذا في المعمار الافتراضي، أيمكن مشاطرة أشياء حسية فقط باستعمال نظارة افتراضية؟
مستقبل هذا العالم
يقول مارك زوكربرج: إن «الميتافيرس» سيوفر فرصة هائلة للمبدعين والفنانين، الذين يرغبون في العمل وامتلاك منازل بعيدًا عن المراكز الحضرية الحالية، وللأشخاص الذين يعيشون في أماكن تنعدم فيها فرص التعليم والترفيه. في حين عارض الكثيرون المنصة، حيث يقول الخبير التقني جايمس بلو إن زوكربرج رسم للعالم صورة جميلة عن «الميتافيرس»، وأن الأمر ليس أكثر من رؤية تسويقية لشركته، للانتقال إلى اقتصاد آخر، خاصة بعد سلسلة الفضائح والأزمات التي عرفتها شركته في السنوات الأخيرة.
قد يحتار الإنسان العادي في محاولة للفهم بشكل كلي لماهية «الميتافيرس»، لكن بالنسبة لعمالقة التكنولوجيا الذين يقفون وراء هذه الفكرة، يمكن أن يكون الأمر شيئًا ملموسًا أكثر: «الطريقة الأسهل لكسب أكوام من المال»، لأنه بعد حوالي 30 سنة من ظهور الإنترنت، الذي حول أكبر شركات التكنولوجيا إلى عمالقة تبلغ قيمتها تريليونات الدولارات، يبدو أن هذا الواقع الافتراضي يمكن أن يشكّل حجر الزاوية في الاقتصاد الضخم القادم.
يرجح البعض أن هذا العالم الافتراضي هو السلاح التكنولوجي القادم للتحكم في العالم. تجدر الإشارة إلى أنه في بيئة رقمية، حيث يمكن تمثيل الأفراد بواسطة صور وأسماء مستعارة، سوف يصعب على المرء معرفة من يثق به، ما قد يمهد الطريق لعصر جديد من التجسس أكثر مما تعرفه الشبكة العنكبوتية اليوم، فقد تم استخدام التجسس الرقمي بالفعل من قبل عشرات الدول بهدف اختراق الملكية الفكرية، التجارية، التكنولوجية، العسكرية، وكذا المعلومات الشخصية والمالية لدول ومنظمات أخرى. قد تخدم التقنية أنظمة محددة، كوسيلة للبروباغندا والدعاية الكاذبة، كما قد تقدم هذه البيئة الافتراضية طرقًا جديدة لبث محتوى مضلل ومتطرف.
قد يشكل «الميتافيرس» ثورة في العمل والحياة اليومية، لكنه مثل كل الابتكارات التكنولوجية، يجلب فرصًا جديدة ومخاطر جديدة أيضًا. هذا «الترند» الحديث يرجح كفّة الفن والعمارة والحياة العامة بشكل عام صوب كل ما هو استهلاكي، اقتصادي، سياسي ومتحكم به، فصار الإنسان هو المنتج الحقيقي لهذه التكنولوجيا. ولطالما كان العالم مكانا للخير والشر، للجمال والقبح، والحروب والآفات التي واجهها منذ الأزل مازال يواجهها اليوم، بل هناك مخاطر جديدة تلوح في الأفق، فهل يساعد العالم الافتراضي على حلها؟ عدا التهرب منها وتجاهلها، ليس هذا فقط، بل يقضي أيضًا على الجانب الجيد الأخير، الذي واجه قُبح العالم منذ الأزل، من فن وأدب وعلوم إنسانية، لتصبح أيضًا مواد استهلاكية، أو أسلحة حرب.
صحيح إن الاشتراك على منصة نتفليكس، أو شراء كتاب مع شركة أمازون، أسهل بكثير وأقل ثمنًا وجهدًا من الذهاب إلى السينما أو المكتبة فالإنترنت بسّط الحياة اليومية، بحيث بدا كل شيء سهلاً وموحدًا، لكن ألا نفقد شيئًا ما هنا؟ هل كنا نذهب إلى السينما فقط من أجل مشاهدة الفيلم؟ الحقيقة أن الانتقال صوب كل ما هو افتراضي جعلنا نفقد جوهر الأشياء، كما لو تحول الإنسان إلى آلة، صارت تجارب مشاهدة فيلم، وقراءة كتاب، ولقاء صديق، والذهاب إلى العمل، أو حتى تصميم عمل فني، جميعها متشابهة، بعدما كانت قبل تجارب متفردة، لكل منها طابعها الخاص، أما اليوم فقد تم اختزالها في مكان واحد: خلف شاشة الحاسوب. ربما ولد عالم «الميتافيرس» في كتاب للخيال العلمي، لكن الأمر سيظل متروكًا لنا لكتابة مستقبله، ما سيحدث خلال السنوات القادمة سيساعد في تحديد ما إذا كان سوف يأخذنا إلى مستقبل رقمي جريء ومثير، أم سوف يضعنا في ديستوبيا رقمية لم يشهدها العالم من قبل ■