الفارابي «المعلّم الثاني»

الفارابي  «المعلّم الثاني»

 على الرّغم من اختلاف روايات المؤرّخين في أصل الفارابي وبلده ونشأته وشؤون أخرى تتعلّق به، فإنّ معظم الروايات تُجمع على أنّ اسمه محمد وكنيته أبو نصر ولقبه «المعلم الثاني»، وأنّه وُلِد في مدينة فاراب التركية فيما وراء النهر أو بعض ضواحيها سنة 259هـ/ 872 م ومات في دمشق سنة 339 هـ 950 /م، وفيما عدا ذلك ثمّة روايات مختلفة يتنازعها المؤرّخون، ويأتي التدقيق العلمي التاريخي لِيُرجّح إحداها على الأخرى.

 

 اسمه ونَسَبه 
 هو أبو نصر محمد بن محمد بن أوزلغ بن طرّخان الفارابي، تبعًا ليوحنا قمير، وهو موضع اختلاف المؤرّخين في آبائه، تبعًا لمصطفى عبدالرازق وعباس محمود العقاد، وهو أبو نصر محمد بن طرّخان المعروف بالفارابي نسبة إلى مدينة فاراب التركية، تبعًا لمحمد شيّا. وقد وُلِد لأبٍ هو قائد جيش، فارسي النسب، وفق ابن أبي أُصيبعة، وأمٍّ لم تأت المصادر التاريخية على ذكرها. وسواء أصحّت هذه النسبة أم لا، وعلى الرّغم من عمله في بداية أمره ناطورًا في بستان دمشقي تبعًا للآمدي، فإنّ مصطفى عبدالرازق يرجّح تحدّره من سلالة كريمة، ويعلّل ترجيحه «بما امتاز به الفارابي من الشجاعة والصبر على احتمال متاعب الدرس ومشاقّ السفر وشظف العيش» (فيلسوف العرب والمعلم الثاني، ص 41).

 تأثر وتأثير 
على الرّغم من أنّ المصادر التاريخية لا تذكر على وجه التحديد تاريخ خروجه من بلده ودخوله إلى بغداد، يستنبط عبدالرازق من كلام المترجمين للفارابي أنّه دخل إليها نحو310هـ، وله من العمر خمسون عامًا. ويشير إلى أنّه درس الفلسفة فيها على أبي بشر متى بن يونس، ودرس النحو على أبي بكر بن السرّاج، ودرس المنطق في حرّان على يوحنا بن عيلان. ورغم براعته في الرياضيات والموسيقى ومعرفته بالطب وإلمامه بالعديد من اللغات، لا تذكر المصادر أسماء الأساتذة الذين درس عليهم هذه الحقول المعرفية. ويتقاطع معه في ذلك عباس محمود العقاد (الفارابي، ص27 و28). ويشفع ذلك بذكر الفلاسفة القدماء الذين تأثر الفارابي بهم وتقاطع معهم، في هذه المسألة أو تلك، ومنهم: أفلاطون، أرسطاطاليس، أفلوطين، الإسكندر الأفروديسي، وغيرهم. ويشفعه بذكر التيارات الفكرية والدينية المعاصرة له التي تأثر بها وتقلّب بينها، بشكل أو بآخر، ومنها: الأشعرية والباطنية والتصوّف والمعتزلة، ويستنتج أن فلسفة الفارابي تكاد تكون صورة صادقة لتيارات التفكير في عصره (الفارابي، ص 71). أمّا الذين أثّر فيهم فلا يقلّون عن أولئك الذين تأثّر بهم وإن كان بعضهم لا يرقى إلى هؤلاء في الأهمّية، ومنهم: يحيى بن عدي، محمد بن طاهر السجستاني، أبو حيّان التوحيدي، ابن سينا، أبو الفرج بن الطيّب الجاثليق، ابن رشد، وفلاسفة مصريون ويهود (الفارابي، من 71 إلى 80).
 
حياته وصفاته
لعل حياة الفارابي وصفاته الشخصية هي التي منحته فاعليته الثقافية، مؤثّرًا أو متأثّرًا، وجعلته يعكف على أمّهات كتب المنطق شارحًا ومعلّقًا، ويُقبل على الوضع والتأليف، ما جعله يتبوّأ مكانته العلمية في تاريخ الفلسفة العربية. وفي هذا السياق يشير عبدالرازق إلى أنّه «عاش عيشة الزهّاد حياته كلّها، فلم يقتنِ مالًا ولا اتّخذ صاحبة ولا ولدًا»، وأنّه كان «يعتزل الناس ويؤثر الوحدة»، مع العلم أنّه «لم يكن ضجِرًا بالحياة ولا متبرّمًا بالناس». وينقل عن ابن أبي أُصيبعة أنّه «كان يتغذّى بماء قلوب الحملان مع الخمر الريحاني فقط»، وعن ابن خلّكان وطاش كبرى زادة أنّه «كان منفردًا بنفسه لا يكون إلّا عند مجتمع ماء أو مشتبك رياض، ويؤلّف كتبه هناك...» (فيلسوف العرب والمعلم الثاني، ص 47 و48). ويضيف العقاد إلى هذه الصفات أنّه كان «عزيز النفس موفور الكرامة لا يخضع لأرستقراطية المولد ولا يعبأ لأرستقراطية المال بل يضع فوقهما أرستقراطية العلم، ويقرّر أنّ أحرى الناس بالرئاسة هو الفيلسوف الكامل» (الفارابي، ص 33). ويرجّح خالد حربي «أنّ نمط الحياة الفارابي كان له الأثر في نبوغه العلمي، فقد ألف الوحدة، وآثر الكفاف في العيش»، وينقل عن ابن خلّكان والشهرزوري أنّه «كان مجتنبًا الدنيا، مقتنعًا بالقليل منها، يسير سيرة المتقدّمين»، وينقل عن آخرين أنّه «كان في أوّل أمره ناطورًا بدمشق، دائم الاشتغال بالحكمة والنظر فيها، والتطلّع إلى آراء المتقدّمين، وكان ضعيف الحال حتى إنّه كان بالليل يسهر للمطالعة والتصنيف ويستضيء بقنديل الحارس ولم يعتنِ بمسكن ولا بهيمة، ولا بشيء من أمور الدنيا، ما ساعده على التعمّق في دراسة والتوسّع في التأليف» (الكندي والفارابي / رؤية جديدة، ص 58 و59).
 
 مؤلّفاته ومكانته العلمية
من الطبيعي أن تصدر عمّن يعيش مثل هذه الحياة ويتحلّى بمثل هذه الصفات مؤلّفات كثيرة، وفي حقول معرفية متنوّعة. وهذا ما ينطبق على الفارابي الذي ألّف في مختلف فروع الفلسفة، ووضع شروحًا على كتب المنطق، ولأنّ هذا الأخير هو الأحبّ إلى قلبه، فقد أقبل عليه بشغف دارسًا ومؤلّفًا، ويعود شغفه به إلى «أنّ رجلًا أودع عنده جملة من كتب أرسطاطاليس، فاتفق أن ينظر فيها فوافقت منه قبولًا وتحرّك إلى قراءتها، ولم يزل إلى أن أتقن فهمها وصار فيلسوفًا بالحقيقة»، على حدّ ما ينقله العقاد عن ابن أبي أصيبعة (ص 22). وبلغ من شغفه بهذا الفرع الفلسفي أن قرأ كتاب «النفس» لأرسطاطاليس مائة مرة، وقرأ كتاب «السماع الطبيعي» أربعين مرة وأحسّ أنه بحاجة إلى المزيد، على حدّ ما نُسِبَ إليه. 
انسجامًا مع مذهب الفارابي في تصنيف العلوم، يصنّف العقاد مؤلفاته في ستة أبواب، هي: كتب في المنطق، كتب في علوم التعاليم، كتب في العلم الطبيعي، كتب في العلم الإلهي، كتب في العلم المدني، والشروح والرسائل. ويذكر له 117عنوانًا تتوزّع على هذه الأبواب، وتتراوح بين الوضع والتأليف والشرح والاختصار والأجوبة والرسالة والمقالة والتجميع والتعليق والرد والمقارنة والإحصاء والتصنيف (الفارابي، ص 38 و39). وفي السياق نفسه، يشير يوحنا قمير، إلى أن «للفارابي مؤلفات عديدة ضاع أكثرها» (الفارابي، ص 8). يذكر منها: إحصاء العلوم، تحصيل السعادة، الجمع بين رأيي الحكيمين، فصوص الحكم، رسالة في السياسة، والمدينة الفاضلة، الكتاب الأشهر له، على سبيل المثال لا الحصر، فضلًا عن شروح له على: أرسطو، فرفوريوس، الأفروديسي، بطليموس وغيرهم. لكن الكتاب الآخر الذي يضارع المدينة الفاضلة شهرة هو كتاب الموسيقى الكبير، الذي دفع بالمستشرق جي. فارمر إلى القول: «إذا كان معلّمًا ثانيًا في الفلسفة، فهو المعلّم الأول في الموسيقى» (الفارابي، ص 69).
هذا النتاج المتنوّع الغزير جعل الفارابي يتبوّأ مكانة لا تُدانى عند العرب حتى لقّبوه بالمعلّم الثاني، ويعزو العقاد ذلك إلى «عنايته بالمنطق واهتمامه بشرح آراء المعلّم الأول وبيان فلسفته وتقريب فهمه إلى معاصريه» (الفارابي، ص 66). ويؤكّد عبدالرازق هذه المكانة بما ينقله عن الأقدمين من شهادات فيه؛ فالفارابي «فيلسوف المسلمين غير مدافع»، على ما ينقل عن القفطي. و«أكبر فلاسفة المسلمين»، على حدّ تعبير ابن خلّكان. و«أفهم فلاسفة الإسلام، وأذكرهم للعلوم القديمة، وهو الفيلسوف فيها لا غير»، على ما يرى ابن سبعين. و«مذهب الفارابي هو مذهب الفلاسفة»، على ما يذهب إليه كارا دوفو (فيلسوف العرب والمعلّم الثاني، ص 50 و51).

محاور  فلسفته
تدور فلسفة الفارابي حول عدد من المحاور، حيث يتناول يوحنا قمير، في كتابه «الفارابي» الصادر في سلسلة «فلاسفة العرب»، أربعة منها، هي: المنطق، الله، الفيض، والنفس. ويستخلص ما يتعلّق بكل محور، بالاستناد إلى المصادر القليلة التي أُتيح له الاطلاع عليها، ويخلص إلى النتائج الآتية:
-  في المنطق: يتوقف قمير عند ماهيته ووظيفته وعلاقته بالعقل وأجزائه وأنواع بعضها. ويخلص إلى أن المنطق عند الفارابي صناعة فكرية ذات قوانين. يقوم بتقويم العقل وتسديده نحو الصواب. وهو منه بمنزلة النحو من اللسان، والعروض من أوزان الشعر، والموازين والمكاييل من الأجسام. ويتألف من ثمانية أجزاء هي: المقولات، العبارة، القياس، البرهان، الجدل، الحكمة المموّهة، الخطابة والشعر. ويقسم القياس فيه إلى: البرهاني، الجدلي، السفسطائي، الخطابي والشعري (ص 12).
-  في الله: يتوقف قمير عند وجوده وصفاته؛ فالفارابي يضرب برهانين اثنين على وجود الله تعالى: الأول هو وجوب وجوده بذاته وحاجة الممكنات إلى علّة توجدها، والثاني هو حاجة المتحرّكات التي لا تتحرّك بذاتها إلى محرّك أوّل غير متحرّك يحرّكها من جهة، ويصفه بالكمال والوحدانية والعلم وصفات أخرى من جهة ثانية. (ص 14 و15).
-  في الفيض: يخلص قمير إلى أنه يتمظهر في صدور العقل الأول عن الله، وصدور حلقات أخرى من العقول، في سلسلة مترابطة، تصدر اللاحقة منها عن السابقة، على شكل عقل وجسم سماوي، من الأفضل إلى الأخس. أمّا الأجسام الأرضية فتصدر عن العقل الفعال بوساطة الأفلاك/ الأجسام السماوية، من الأخس إلى الأفضل. (ص 17 و18).
-  في النفس: يدرسها قمير عند الفارابي في مصدرها وقواها ومعرفتها وطبيعتها ومآلها. ويخلص إلى أنّ النفس تفيض عن العقل الفعال حين تصبح مادّة في رحم مستعدّة لاستقبالها، وأنّ قواها ثلاث: نباتية تقوم بوظائف التغذية والتنمية والتوالد، حيوانية تقسم إلى قوى تحريك وقوى إدراك، وإنسانية هي قوى العقل، بشقّيه النظري والعملي، ولكل منهما وظائفه المختلفة عن الآخر. ويخلص أيضًا إلى أن معرفة النفس حسية لا تدرك المعنى صرفًا ويشترك فيها الإنسان والحيوان، وعقلية تدرك المعنى صرفًا وينفرد بها الإنسان عن الحيوان. وأن النفس روحانية باعتبارها جوهرًا بسيطًا وخالدة باعتبارها روحانية. وأن السعادة مآل النفوس الفاضلة، والعذاب مآل النفوس الشرّيرة، ما يشكّل تنويعًا على ثنائية: النعيم / الجحيم.  إلّا أن قمير لا يقرّ الفارابي على رأيه حين يعود في كتاب «المدينة الفاضلة» ليجعل الخلود مقتصرًا على النفس العالمة، ما يتناقض مع آراء أخرى له، ويرى في هذا القصر دليلًا على ضعف الرأي وخطأ الاستنتاج (ص 19 و20 و21 و26 و27).
وعودٌ على بدء، يظل الفارابي واحة فلسفية عربية وارفة على مرّ القرون، تُشكّل الإفاءة إليها واجبًا معرفيًا، ومصدرًا للمعرفة والمتعة والفائدة والرياضة العقلية ■