هل الفلسفة علم؟

هل الفلسفة علم؟

 يذهب البعض إلى تصنيف الفلسفة كعلم من العلوم، حيث لا يرون أي اختلاف بينها وبين هذه العلوم، فهناك العديد من خارج تخصص الفلسفة ومن غير المطلعين عليها بشكل كاف يرون ذلك، كما يوجد نفر قليل جدًا من المختصين في الوقت الحالي يذهبون إلى اعتبارها علمًا، مع العلم أنه كان هناك عدد لا يستهان به من المختصين بها في الماضي يرون أنها علم، فهل الفلسفة علم؟

 

إذا عدنا إلى نشأة الفلسفة عند اليونان في القرن السادس قبل الميلاد وتحديدًا المدرسة الأيونية فسنجد أن ما طرحه فلاسفتها طاليس وأناكسيماندر وأنكسيمانس ومن تلاهم من فلاسفة اليونان قبل سقراط  كان بمنزلة محاولات لتقديم تفسيرات لأصل الوجود والإنسان والحياة كما جمع معظم الفلاسفة آنذاك بين الفلسفة والعلم، أي كانوا فلاسفة وعلماء. والتفسير بالطبع هو إحدى الوظائف الرئيسة التي قاموا بها، فتفسير العالم والظواهر ومحاولة فهم الأسباب يأتي في سياق فهم طبيعة العالم والتعامل مع ظواهره وحل المشكلات أيّا كان نوعها. كما قام فلاسفة المدرسة الأيونية بمحاولة تقديم الأدلة والبراهين على صدق ادّعاءاتهم وهذا شبيه بالعلم، فعندما نسب طاليس أصل الحياة إلى الماء فذلك جاء نتيجة مشاهداته حيث وجد أن الإنسان والحيوان والنبات لا يمكن أن يعيشوا من دون ماء، وكذلك الأمر بالنسبة إلى أنكسيمنس الذي ذهب إلى أن أصل العالم هو الهواء لأنه لا الإنسان والحيوان والنبات يستطيعون العيش من دونه. وتوالت بعد ذلك تفسيرات عدة للوجود والعالم في الفلسفة اليونانية وتأصل التفسير كأداة للفلسفة، وهو أيضًا أداة العلماء، وهذا ما يذكرنا بالمصطلح الذي أطلقه اليونان على الفلسفة حين وصفوها بـ «أم العلوم».

النهضة وعودة الفلسفة
ومع نهايات العصور الوسطى ودخول عصر النهضة والعصر الحديث عادت الفلسفة مرة أخرى إلى التراث الفلسفي الكلاسيكي اليوناني بعد ألف عام من هيمنة الكنيسة المسيحية عليها، واستمرت في مسألة تفسير العالم والإنسان وقضاياه إلى أن جاء القرن التاسع عشر وحدثت الهزة الكبرى للفلسفة التقليدية بنصفه الثاني نتيجة لظهور العلوم التجريبية في العصر الحديث وكذلك العلوم الإنسانية والاجتماعية فيه. وعلى الرغم من أن ظهور العلوم بشقيها السابقين قد حدّ بشكل كبير من الوظيفة التفسيرية للفلسفة إلا أنه ظهرت في نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين اتجاهات فلسفية جعلت من العلم ركيزة للفلسفة، فلو نظرنا إلى الماركسية التي تنقسم إلى قسمين رئيسين هما المادية التاريخية والمادية الجدلية، والتسميتان كلتاهما ترتكزان على المادة التي هي محور البحث العلمي التجريبي، فسنجد في الشق الفلسفي المتعلق بالمادية الجدلية توصف الفلسفة الماركسية بالفلسفة العلمية، إذ يزعم أصحابها أنها احتوت على قوانين علمية اجتماعية موضوعية ومستقلة عن الإنسان وهي: التراكم الكمي يؤدي إلى تغير نوعي، وحدة صراع الأضداد وقانون نفي النفي، وانتهت إلى الحتمية التاريخية التي تفسر تطور المجتمع الإنساني بطريقة آلية كما هو حال التفسيرات العلمية الصرفة للكثير من الظواهر الطبيعية. واستمرت هذه الفلسفة حتى العقد الأخير من القرن العشرين حيث ارتبطت بالمعسكر الاشتراكي الذي انهار في ذلك العقد.
أما الاتجاه الفلسفي الثاني فقد ظهر في بداية القرن العشرين وأطلق عليه جماعة أو حلقة فيينا واشتهر باسم الوضعية المنطقية الذي ذهب مؤسسوه، وأغلبهم من علماء الفيزياء والرياضيات، إلى محاولة الربط التام بين الفلسفة والعلم، أي محاولة تحويل الفلسفة إلى علم، لأن ذلك سيقود إلى حل المشكلات التقليدية في الفلسفة بشكل نهائي بسبب الدقة الموجودة في العلم التجريبي. وقد تم تحديد مهمة الفلسفة في: تحليل بنية العلم واللغة العلمية وتبني المنهج التجريبي والرفض التام للميتافيزيقا وعدم الاكتراث على الإطلاق للقيم والجوانب الذاتية للإنسان، لكن ما لبثت هي الأخرى أن تراجعت عن أطروحاتها الأولية ثم تفككت وتلاشى إلى حد كبير جدًا الاهتمام بأفكارها.
يتضح من المسيرة التاريخية للفلسفة أن بداياتها ارتبطت بالتفسير الذي يأخذ الطابع العلمي فضلًا عن الآثار التي تركها التطور العلمي عليها في العصر الحديث ومطلع القرن العشرين بعد تبني نفر من الفلاسفة العلم كأساس لأفكارهم الفلسفية ومحاولة تحويل الفلسفة إلى علم، لكن جميع هذه المحاولات لم يكتب لها النجاح.

الفلسفة ليست علمًا
الفلسفة ليست علمًا لأنها لا تحقق جملة من الشروط الأساسية لأي علم؛ فإذا نظرنا لأي علم، سواء من العلوم التجريبية أو الإنسانية أو الاجتماعية فسنجد أن له مجالًا تخصصيًا معينًا يحمل في تكوينه عدة موضوعات رئيسة لا تدخل في تكوين أي علم آخر، فعلى سبيل المثال علم الجيولوجيا يختص بنشأة الأرض ومكوناتها من أنماط الصخور المختلفة ويدرس الظواهر الطبيعية مثل الزلازل والبراكين وغيرها. وإذا نظرنا إلى علم الاجتماع نجده يدرس الإنسان كظاهرة اجتماعية وكذلك المجتمع ومشكلاته الرئيسة. هذا التخصص الدقيق غير موجود في الفلسفة، فالفلسفة تدخل في كل مجالات الحياة، ولكل علم فلسفة خاصة به وفلاسفة يحللون أسسه وبنيته وتأثير نتائجه ونظرياته على تفكير الإنسان والمجتمع؛ فهناك كما هو معروف فلسفة اللغة والدين والعلوم والتاريخ والتكنولوجيا والأخلاق والفن وغيرها، هذا يعني أن الفلسفة ليست محددة بإطار علمي معين لا تتجاوزه إلى علوم أخرى.
ومن التخصص ننتقل إلى الأدلة والبراهين المادية، إذ تقوم العلوم كافة على إجراء التجارب أو الدراسات على موضوعات فعلية وتقدم أدلة وبراهين على النتائج التي تصل إليها، وفي الأغلب تكون قطعية ولا مجال للشك فيها خصوصًا العلوم التجريبية بينما يبقى قدر من النسبية في الأدلة التي تقدمها العلوم الاجتماعية والإنسانية.
وكون الفلسفة ليست علمًا متخصصًا لا يعني ذلك أنها ليست لديها موضوعات تبحث فيها لكن لا تنطبق شروط العلم عليها، فهناك موضوعات لا يمكن للعلوم المختلفة أن تبحث فيها أو على الأقل يبحث بعضها في تلك الموضوعات كما تبحث الفلسفة في الأفكار المجردة، وطرق التفكير، المنطق، المفاهيم، التصورات، المعتقدات، القيم، طبيعة الحقيقة ومعنى الحياة وغيرها، فما تم ذكره كله موضوعات لا حضور ماديًا لها، بل ذهنية الطابع وتشكل وعي الإنسان وتفكيره ورؤيته للعالم وهي محط الاختلاف بين الأفراد والمجاميع الإنسانية والشعوب المختلفة. لقد أصبح تحليل ونقد ما يجري في ذهن الإنسان الشغل الرئيس لغالبية الفلاسفة في عالم اليوم، وعلى الرغم من محاولات العلم مؤخرًا فك طلاسم العقل فإن الخطوات تسير ببطء شديد ولا يزال الكثير من العمليات الذهنية عصيّة على البحث العلمي التجريبي.
وقد نتج عن ذلك مسألة مهمة، وهي: إذا كانت العلوم تقدم الأدلة والبراهين ذات الطابع المادي على صحة نتائجها وحقائقها المختلفة، فإن الفلسفة تقدم الحجج المنطقية والجدال الفكري والأدلة ذات الطابع العقلي المنطقي لا المادي لأن موضوعاتها غير ملموسة ويتعذر تقديم أدلة مادية عليها. أما في حال تم تقديم أدلة موضوعية، فذلك سيعني نهاية الفلسفة التي نعرفها وستتحول إلى علم من العلوم، وهذا أمر لا يمكن أن يحدث إلا في حال تحول الإنسان برمته إلى ظاهرة مادية صرفة.

العلم والتراكمية
تتميز المعرفة العلمية بالتراكمية، أي إن الحقائق العلمية منذ أن بدأ تدوين العلوم، كما أشار د. فؤاد زكريا، أشبه بالبنيان الذي تعلو فيه المعرفة العلمية طابقًا فوق طابق، فالحقائق تتراكم لكنها لا تلغى، والحقيقة المدعمة بالأدلة والبراهين تؤسس لحقائق جديدة تتراكم عبر التاريخ، والعالم لا يبدأ بحثه العلمي من الصفر، بل يبدأ من أين انتهى من سبقه من العلماء، والحقائق العلمية لا تتغير، بل يتم استيعابها عبر حقائق جديدة في المجال نفسه أو تطويرها. وتتميز الحقائق العلمية بالموضوعية والاستقلالية، فالبعد التراكمي للعلم يأتي من موضوعية حقائقه التي لا تتشكل حسب الأهواء أو التطلعات الذاتية، بل لها بنيتها الخاصة ونظامها الذي تفرضه طبيعتها المادية والمتحكم في دخولها بتفاعلات وروابط مع غيرها، وهذا ما يساعد على تراكمها الرأسي. وتساهم استقلالية الحقائق العلمية عن أية أفكار ذاتية الطابع كالأيديولوجيا والمعتقدات وعن الأهواء والتطلعات والتفسيرات الذاتية والثقافية، وحتى عن العلماء الذين يأتون بها في تدعيم طابع الحقيقة العلمية اللاذاتي واللاشخصي، فساهم ذلك في تعميم نتائجها وأرسى دعائم البناء التراكمي لها.
في مقابل، ذلك نجد المعرفة الفلسفية تختلف عن المعرفة العلمية، فهذا النمط من المعرفة لا يتميز بكونه بنيانًا من الحقائق والمعارف يعلو طابقًا فوق طابق، بل تتميز المعرفة والاتجاهات والمعارف الفلسفية بطابعها الأفقي، بمعنى أن أفكار الفلاسفة اليونانيين الأوائل لا تزال متداولة وبعضها بقوة وهناك من يؤمن بها ويتبناها، فهناك من الفلاسفة المعاصرين منهم أفلاطونيون وأرسطيون ورواقيون وأبيقوريين وغيرهم، كما أن من يدرس أو يتبنى أفكارًا أو يبحث في الفلسفة لا يحتاج أن يبدأ من أين انتهى غيره ضمن سياق تاريخي متصل ومتطور كما هو حال العلم، فالمعرفة الفلسفية لا تقتصر على مكان وزمان معينين فقط ثم تصبح تاريخًا، بل هناك فلسفات وفلاسفة اختفوا لفترات تاريخية ثم عادوا للظهور والتأثير الفاعل جدًا على فترات تاريخية أخرى. فما حدث مثلًا في العصور الوسطى، التي امتدت لأكثر من ألف عام، عندما تمت أدلجة جوانب عدة من الفلسفة اليونانية والتحيز لبعض الفلاسفة والاتجاهات الفلسفية واستبعاد غيرها، لكن مع نهاية العصور الوسطى والدخول بعصر النهضة تمت إعادة إحياء التراث اليوناني من جديد وتخليصه من الأدلجة وإعادة البحث بمعظم موضوعاته وفلاسفته.
ولا يقتصر الأمر على ما سبق، بل يتجاوزه إلى تأسيس اتجاهات وتيارات فلسفية جديدة وغير مسبوقة من الصفر، إن جاز التعبير، فلو نظرنا إلى الفلسفة البراجماتية والوجودية والتحليلية وفلسفة التكنولوجيا وغيرها من الاتجاهات الفلسفية المعاصرة سنجدها تحتوي على تيارات واتجاهات جديدة تعكس السمات المستجدة على طابع الفلسفة بعد التحول الذي طرأ على سماتها التقليدية في النصف الثاني من القرن التاسع عشر وتعبر عن الواقع المتقدم الذي وصلت إليه الحضارة الإنسانية.
وافتقار المعرفة الفلسفية إلى التراكمية يعود جانب أساسي منه إلى كونها معرفة ذات طابع نظري عقلي مجرد وأفكارًا ذاتية مصدرها وحاملها هو الذات الإنسانية، فهي لا تعبر عن موضوعات متعينة مباشرة يمكن إقامة الدليل والبرهان المادي عليها، فموضوعاتها تعتمد على ما هو موجود في العقل، وقد تمت الإشارة لهذه الموضوعات سابقًا، كما تفتقر إلى الموضوعية والاستقلال عن الذات، بمعنى أن الأفكار والرؤى الفلسفية ذاتية الطابع وغير مستقلة عن الذات التي تتبناها وتطورها، بل يتم التنازل أحيانًا عنها لصالح أفكار فلسفية أخرى ولا يغير ذلك من عدم موضوعيتها أو استقلاليتها في شيء، كما أن الكثير من الأفكار والرؤى الفلسفية تموت مع أصحابها عند وفاتهم.

فيلسوف وعالم
مصطلحا الفيلسوف والعالم يطلقان على أفراد يقومون بوظائف مختلفة، فلو كانت الفلسفة علمًا، فما الحاجة إذن إلى إطلاق مصطلح الفيلسوف على من يمارس الفعل الفلسفي ويصيغ أفكارًا فلسفية أو يحلل العالم والواقع والمشكلات من زاوية فلسفية؟ ووظيفة الفيلسوف تختلف عن وظيفة العالم، فالفيلسوف يعتمد بالدرجة الأولى على التأمل العقلي ذي الطابع النظري للواقع وقضاياه ويحلل تلك القضايا عن طريق العقل فقط لا عن طريق التجربة والبرهان، ويضع تصورات ونظامًا فكريًا عقليًا يرى من خلاله الواقع والعالم من منظور معين، أي يرى العالم بأفكار ذاتية خارج إطار العالم المادي، والتي تكون في الأغلب عامة وتمثل أي حقيقة العالم الشاملة، إما من خلال مناهج فلسفية عقلية الطابع أو الغوص في تجربة ذاتية باطنية أشبه بالتجربة الصوفية. ويلعب تصور الفيلسوف وطبيعة الأفكار التي يتبناها، والقائمة على منطق معين، دورًا في تحليل المشكلات والموضوعات وتوصيف الحلول لها، معتمدًا على الحجج المنطقية في تحديد صحة وخطأ الأفكار أو الآراء التي تتناول موضوعات وقضايا وقيمًا من رؤى وتصورات معينة، كما أنه يعمل على ربط المشكلات بالفكر أو تحليلها من منظور فكري.
في مقابل ذلك نجد أن وظيفة العالم، كما هو معروف، تقوم على دراسة وتحليل الظواهر والمشكلات المتعلقة بالطبيعة والمجتمع والإنسان ويسعى إلى البحث عن الأسباب التي تقف وراءها والعمل على تقديم الحلول لها. كما أن العلماء مسؤولون عن تراكم المعرفة العلمية بحكم التجارب التي يقومون بها عبر المنهج التجريبي والمدعمة بالأدلة والبراهين المادية وتتميز هذه المعرفة بالموضوعية والابتعاد عن العوامل الشخصية والذاتية والأيديولوجية في الوصول إلى الحقائق العلمية التي تتميز بطابعها اللاشخصي، وتعتمد على طبيعة المادة وتفاعلاتها وتركيبها الذري. ولا يقتصر الأمر على العلماء في حقل العلوم التجريبية المادية، بل ينسحب ذلك أيضًا على العلماء في العلوم الإنسانية والاجتماعية الذين يسترشدون بالأساليب العلمية والموضوعية في تناول المشكلات والقضايا محط بحثهم.
خلاصة الأمر، الاعتقاد أن الفلسفة علم هو أمر يجانب الصواب، فالفلسفة التي كان يطلق عليها  «أم العلوم» بدأت مسيرتها بوظيفة العلم، وهي تفسير العالم، لكن مع التقدم العلمي الكبير صادرت العلوم وظيفة التفسير الشاملة من الفلسفة وحصرتها تقريبًا في موضوعات العقل الإنساني بالدرجة الأولى، واستطاعت الفلسفة عبر جهود الفلاسفة تجديد نفسها بما يتماشى مع تطورات الحضارة الإنسانية التي تدخل اليوم ثورتها الصناعية الرابعة وتشهد ولادة علوم جديدة تضاف إلى العلوم الحالية التي مهما توسعت لن تزاحم الفلسفة ووظيفتها، أو تقضي عليها مثلما يعتقد بعض العلماء، بل ستقوم بفلسفة تلك العلوم وموضوعاتها ولن تكون يومًا ما علمًا يصنف معها ■