رحلة نغم بعمق التاريخ في عشرية رحيل «فنان إفريقيا الأول» محمد وردي

 رحلة نغم بعمق التاريخ  في عشرية رحيل  «فنان إفريقيا الأول» محمد وردي

  رغم مرور عشر سنوات على رحيل المطرب الجماهيري  السوداني محمد وردي، إلا أن الذاكرة الجمعية ما زالت تحتفظ بقيمته الإبداعية ومواقفه النضالية، وحقه في تعميق وتجديد مسار الأغنية في مجرى نهر الغناء السوداني، بل أضحى رافدًا أساسيًا مهمًا وفريدًا من روافده المتعددة، ومكونًا رئيسا من مكونات تاريخه وتراثه وثقافته وهويته، لكونه قيمة تراثية وثقافية وجمالية وشعورية، فيما ظل منتوجه الفني يمثل واسطة العقد التي تربط الأجيال السابقة واللاحقة.

 

عاش الفنان محمد وردي أقدر ما يغني لمشاعره بمشاعره، ولشعبه بشعبه، ولوطنه بوطنه، وهو دائمًا مبهر، تشرئب له الأعناق عندما يعتلي خشبة المسرح، وتتجلى هيبته وهو يقود الفرقة الموسيقية (مايسترو) وكل آلة تفصح عن لونيتها ومكنوناتها بنغمة، تراه يتلفت يمنة ويسرة، ينظر بأذن واعية، ويسمع بعين مفتوحة، كمن يبحث عن نشاز بين ألوان الطيف، مع سيطرة تامة على المنصة، وأخرى عفوية على الأسماع والقلوب، حالة من النشوى، وانجذاب صوفي تأملي لا حد له، وهو يصدح، مثالًا:
معاك بحلم كأني على فرس طاير 
بغـني على وتر مشدود
وأطير عبر السما المدود
سما الوطن اللي مالو حدود
حمامة جناها لا خائف ولا مفقود

هكذا عرف الناس وردي من بداية عهده بالغناء حتى رحيله الأبدي في 18 فبراير 2012م، ولا غرو إن خلع عليه في أزمنة متفاوتة ألقاب عدة، كـ (الأسطورة، الإمبراطور، الهرم الفني، فرعون أفريقيا، الهرم النوبي، والفرعون)، وهي ألقاب سامية تتصل بملوك النوبة مما يشي بأنهم أودعوا فيه قدرًا مما كان فيهم. ألم يذكر هذا الأرث ، مغنيًا، « نحن أبناء ملوك في الشمال»؟.
ورغم أن تجربته في مضمار الغناء سبقتها تجارب متميزة عديدة لمطربين من مختلف المشارب والتيارات أظهروا خلالها فرائد باذخة، إلا أن مسيرته التي امتدت لأكثر من نصف قرن تعد الأكثر غنى والأوفر خصوبة وتميزًا وعطاءً، انفردت عن غيرها بكونها حفلت بأكثر من 300 أغنية عاطفية ووطنية وثورية وحماسية، متنوعة الكلمات والألحان والموسيقى، وذات إيقاعات أفروعربية متقنة، كلها من تلحينه عدا(4)، وأنها لما يزيد على (30) شاعرًا غالبيتهم من أطراف السودان المختلفة فيهم (6) من ذوي الألسنة الراطنة، سلط بها الضوء على المغمورين، وأضفى على غيرهم مزيدًا من الألق والشهرة، واستطاع من خلالها أن يحفر رافدًا رئيسًا مغذيًا لنهر الغناء السوداني، ويسجل اسمه في بطون تاريخه الغنائي. 

شخصية تاريخية
كان المطرب وردي محظوظًا للغاية، إذ عاش عصرًا شهد ابتكارات ومنجزات عظيمة في الثقافة والأدب والفنون، عصر وفرة غنائية متميزة في سائر البلدان العربية، حيث كان الفن في قمة توهجه، وكان النشاط الغنائي رائجًا، والتنافس بين المطربين في ذروته، وهم يقومون بدورهم الطليعي والوطني في ترسيخ معالم الأغنية السودانية الحديثة، ومكوناتها الشعرية، واللحنية والموسيقية على السلم الخماسي، وإيقاعاته المتباينة، بما يتواءم مع أذواق وأمزجة العامة، فيما كتب الشعراء بمختلف أطيافهم شعرًا جديدًا مواكبًا، مرتبطين بالأحداث والقضايا المنهمرة التي تلاحق الإنسان العربي والإفريقي في النصف الثاني من القرن العشرين، ليلتقط كثير من المبدعين منها في إعمال إبداعهم الغنائي.
لم يتوان وردي منذ بداياته الأولى في الالتفات إلى القضايا الكبرى، بتلحينه وأدائه نشيد «أنا إفريقي حر» للشاعر إسماعيل حسن في 1960م، محييًا نضالات الكيني جومو كينياتا، والمصري جمال عبدالناصر، والكونغولي پاتريس لومومبا:
أنا إفريقي حر... والحرية في دمي
ولسوف أحطم الأغلال مهما كمموا فمي
أرض جومو يا بلادي... أرض ناصر...
أرض لومومبا العريقة... يا بلادي

ولعل النقلة الكبرى التي أبرزته كشخصية غنائية تاريخية حقيقية تمتلك حساسية إبداعية مفرطة تمجيده أرض بلاده، عقب إطلاق سراحه من السجن إثر مشاركته في تظاهرات شعبية احتجاجية مع سكان وادي حلفا، حيث صدح في 1961م بـ(نشيد الاستقلال) للشاعر عبدالواحد عبدالله يوسف... (وليذكر التاريخ أبطالًا لنا/عبداللطيف وصحبه/ غرسوا النواة الطاهرة/ ونفوسهم فاضت حماسًا/ كالبحار الزاخرة). ليكون هذا النشيد أشهر الأغاني الوطنية التي تردد بين الأجيال وخاصة التلامذة في المدارس مطلع كل عام.
لما جاء عام 1963م قدم من تلحينه ملحمة «يقظة شعب» «للشاعر النوبي مرسي صالح سراج»، تعبيرًا الوحدة التاريخية والحضارية لشعب السودان.. (أنا أعتبر هذا النشيد إحدى نقلاتي في رحاب الأغنية الوطنية بعد نشيد الاستقلال)...:
وحين خط المجد في الأرض دروبه
عزم ترهاقا وإيمان العروبة
عربًا نحن حملناها ونوبة

في أبهاء الإذاعة
ليست مصادفة أن يحقق محمد عثمان حسن صالح وردي المعروف بـ(محمد وردي) ذاك النجاح والمجد، وهو الذي نشأ منذ مولده في 19 يوليو 1932م في بيئة حضارية على شط نهر النيل، في قرية «صواردة» جنوب وادي حلفا أقصى شمال السودان، وشاءت الأقدار أن يعيش اليتم ومرارة الفراق في طفولته، لينتقل للعيش في رعاية عمه وأسرته التي تهتم بالشعر والطرب والغناء بآلة الطمبور، (آلة موسيقية وترية شعبية تتواجد في السودان خاصة عند أهل الشمال) فتعلم الضرب عليه وفهم أصول الغناء النوبي قبل أن يلتحق بالمدرسة.
وما إن بلغ سن الدراسة حتى ألحق بالمراحل التعليمية الأولى، ثم التحق بمعهد تدريب المعلمين في مدينة شندي، وتخرج في نهاية الأربعينيات مدرسًا ليعمل بالمدارس الأولية في منطقته، وهي الفرصة  السانحة التي مكنته من إتقان العربية الفصحى وإجادتها، إلى جانب اللغة النوبية التي تسود المنطقة.
من خلال التعليم، برع وردي في تلحين الأناشيد المدرسية لتلاميذه، وتحقق له في عام 1953م أن يزور العاصمة الخرطوم لأول مرة، وأن يسجل للإذاعة السودانية في برنامج (من ربوع السودان) من كلماته وألحانه بالطمبور عددًا من الأغنيات النوبية، فأثارت الاهتمام، وضمنت له لاحقًا مقعدًا وثيرًا في أبهاء الإذاعة... (قبل حضوري إلى الخرطوم كنت مغنيًا معروفًا من حلفا إلى دنقلا، وكنت معلمًا تميز بتلحين الأناشيد المدرسية، وألحاني تلك كانت مشربة بالتراث النوبي، وكنت أيضًا متأثرًا بالقدرة التصويرية في التعبير الموسيقي لدى محمد عبدالوهاب وفريد الأطرش وعبدالحليم حافظ).
بعدما أظهر وردي إمكاناته اللحنية والأدائية سعى لتعلم العزف على آلة العود مقلدًا للمطرب الشهير إبراهيم عوض، (قبل ذلك لم أرَ العود سوى مرة واحدة في الخرطوم عام 1953م)، فيما سعى بعض مسؤولي الثقافة إلى نقله إلى الخرطوم عام 1957م معلمًا ليواصل عطاءه الفني، وفيها قدم له الملحن خليل أحمد أغنية «يا طير يا طاير» للشاعر إسماعيل حسن:
يا طير يا طاير من بعيد فوق الغمام
من ربوعي أحمل الشوق يا حمام
وسرعان ما أتبعها بأغنية «يا سمرا» (التي ظل يغنيها باللغة النوبية - هكذا كتب الموسيقار أنس العاقب بتاريخ 24/7/2014 - وقام إسماعيل حسن بتعريبها شعرًا لتتماشى مع السياق اللحني، وقدمها بعد أغنية «يا طير يا طاير» أو «الحب والورود» وهو يطل على المستمعين في أمسية يوم 19 يوليو من عام 1957 م، والشاهد أن هذه الأغنية هي التي قدمت صوت وردي الحقيقي، فوق ما تميزت به من حيوية إيقاعية وأداء لحني تجاوبي بين وردي المغني وكورس البنات). وعلى النسق نفسه ظل يغني من ألحانه أغنية «يا سلام منك» إلى أن عرّب كلماتها النوبية الشاعر نفسه، ثم انطلق بعد أشهر قلائل يغني بالعامية الرصينة من كلماته وألحانه «أول غرام»...:
نسيت ضو القمر في أجمل ليالي
وشعاع النجوم يبهر كاللآلي
كيف تنسى النسائم وأنا حبي المثالي

هذه الأغنية بلحنها الحالم كانت أولى فلتاته الغنائية، (الحقيقة كانت أول أغنية من كلماتي من غير لغتي الأم – النوبية - وإطلاقًا لم أدخل فيها أي موروث نوبي)، ثم لحن وغنى للعازف علي ميرغني قصيدة «ليه نسيت أيامنا»، وبعدها توالت الأغاني ترسم سمات تميزه كملحن بارع في خلق نغمات وألوان لحنية متعددة جديدة، ومغنٍ قادر على إمتاع الأسماع، تجلى في تلحينه وتغنيه عام 1958م بقصيدة «جمال الدنيا» للشاعر كمال محيسي... (رياض وزهور على خديك/ بديعـة بتخلب الأنظار/تزيد فـوق الجمال الفيك/ معالـم كلها أسـرار).
لم تمض فترة طويلة حتى بدأت جذوره في الرسوخ، خاصة بعد تقديمه أغنيتي «الوصية» للشاعر حسن، وتلحين برعي دفع الله، و«يا ناسينا»، من تلحينه وكلمات حسن عبدالوهاب، وكانت الأغنيتان شهادة على نضجه المتنامي كمغنٍ فذ، و(بعدما سجلت هاتين الأغنيتين قرر مدير الإذاعة الأستاذ متولي عيد ترقيتي إلى الدرجة الأولى)... وحدثه أمام لفيف من مبدعي تلك الفترة (أنا أقول لك أمام إخوانك الكبار هؤلاء أنت حالة شاذة واستثنائية)، ثم سجل للإذاعة من كلمات وألحان الشاعر المخضرم عبدالرحمن الريح «أسعد الأيام»، وآنئذٍ بدأ إبداعه يحفر مجرى رحلته في عمق نهر الغناء بالسودان بطموح متعطش للانطلاق نحو آفاق بعيدة.

الوعي السياسي
ما كاد العام ينقضي حتى ظهر وردي بنسخة جديدة، فلما حدث أول انقلاب عسكري في السودان بزعامة الفريق إبراهيم عبود في17 نوفمبر 1958م كتب ولحن وغنى نشيد «في 17 نوفمبر هب الشعب طرد جلاده» مؤيدًا للانقلاب العسكري (المقاطع الأربعة الأولى من النشيد كتبتها بنفسي وأكمل النظم الشاعر إسماعيل حسن)، لكنه عاد بعد حين متأسفًا يقول: (غير أني مدين لهذا النشيد بشيء مهم جدًا، فقد تعلمت منه درسًا في الوعي السياسي، خصوصًا من اليسار السوداني)، وكانت بداية مرحلة لها ما بعدها.
ومع مرور الزمن ظلت صلته بالفن تزداد رسوخًا واتساعًا، وفي كل مرة يحاول الاقتراب من الجماهير بأغنيات كبيرة مثل «الحب والريدة» كلمات ولحن الطاهر إبراهيم، وأخرى عديدة لإسماعيل حسن مثل «قصة حب» و «نور العين»، و«صدفة»، «لو بهمسة» وغيرها، فيما كشف اختياره للنص الشعري وتلحينه بجلاء عن عمق الصلة والأبعاد المختلفة العظيمة لكيمياء الروح حينما تسعى بثبات وثقة نحو القمة، الأمر الذي دعاه إلى ترك التدريس في عام 1959م ليتفرغ للفن تمامًا.

شواهد ودلالات  
مع إطلالة عام 1960م ظهر وردي بأغان تمثل شواهد ودلالات تبرهن على التنوع الفني والشعوري الذي تغذى به منذ اليفاعة، يقينًا بأن البيئة هي التي غرست نواته الأولى في الألحان والأنغام المتنوعة، تنوع الثقافات والحضارات التي تزخر بها البلاد، بدءًا بالحضارة النوبية، (كنت مستوعبًا أصلًا إيقاعات جمة، وكنت قادرًا على التلحين في أصعب الإيقاعات السودانية غير الموجودة في منطقتنا، ومنها التم تم، والدلوكة، والمردوم. والإيقاع السائد في منطقتنا هو إيقاع «الريقي» الذي لم نتعلمه من بوب مارلي، بل تصفيقنا (صفقتنا) - ريقي - وليس إيقاعًا مكررًا مثل إيقاع الطار في حلفا) مثبتًا مدى عمق ثقافته الغنائية وأثرها الفاعل في مسار الغناء الحديث، سواء على صعيد المضامين الشعرية، بأدائه تلك القصائد الوطنية أو قصائد تشكل نمطًا جديدًا، لم يألفه السودانيون في السابق، بعيدة عن الغزل واستعطاف واستجداء المحبوب، وإعلان الانصياع والتذلل له، نلتقطها في «المستحيل» و«خاف من الله» و«بعد إيه» للشاعر حسن:
اعتذارك ما بيفيدك و دموعك ما بتعيدك
العملتو كان بإيدك... ما لي ذنب فيه
ليه جيت تبكى؟...! ليه جيت تشكى؟!

لما كانت هذه الأغاني تمثل وقتذاك تمردًا على المحبوب، وخروجًا على مألوف الغناء قوبلت بالنقد والاستهجان خاصة من جماعة الرومانسيين، لكن وردي لم يكترث لذلك، بل كان يراها قصائد قوية معبرة في محتواها، ومخاض تجارب حية تستثير المشاعر، وكان من أبرز تجلياته في هذا النمط أغنية «غلطة»...(كان طلعت القمرة وجيت/ ولو حلفت برب البيت/ ما بريدك مهما بقيت/ غلطة كانت وتاني ابيت).
أما على صعيد الألحان والموسيقى، فقد قدم وردي منذ البدء إنجازات عظيمة في مجال التلحين والموسيقى والأداء تدل على نضجه المتنامي، وأن أفكاره الإبداعية والتطورية بغير حدود، يقول (كنت أحرص على تعزيز الفرقة التي تصاحبني بآلات جديدة، وكنت أول من أدخل الأورغ الهوائي الكنسي عام 1960م، عندما سجلت أغنية «بعد إيه»، وأول من أدخل القيثارة في الفرقة الوترية الحديثة، وذلك عندما سجلت أغنية «الحبيب العائد»، وعزفه عثمان ألمو، وأول من أدخل البيزغيتار على الفرقة الوترية، وذلك في تسجيل أغنية «قلت أرحل»  عام 1971م)، إلى جانب تلحينه للمطربين عثمان مصطفى «الغروب»، وصلاح بن البادية «أيامك».

باعث نهضة 
ظل وردي على الدوام يكشف عن توجه روحي وإبداعي جديد، وهو ينظر إلى فنه ليس بمنظار المنجز، بل بمنظار التخلق والكيف والإنجاز المدهش، مبرهنًا أن الإبداع فيه فطرة، وتحدي الذات لديه عزم، حتى في اختيار نصوصه يدل عليه تغنيه في النصف الأول من ستينيات القرن العشرين للشاعر البجاوي محمد عثمان كجري، ( ارتعاشاتك بتحكي/ قصة أحلامك معايا/ وكل خفقة في قلبي نغمة / تحكي ليك شوقي وهوايا/ أنتِ في بهجة شبابك/ وحبي ليك من غير نهاية/ ما في داعي)، وتخليه متعمدًا عن أشعار حسن بعد أكثر من (20) أغنية، ليرتوي من ينابيع شعرية جديدة غنية بالعربية الفصحى، كـ«الحبيب العائد» للشاعر صديق مدثر:
عـاد الحبـيب فأهـدى
لكــل قلـــب ســـلاما
أهــدى العـيون بريقًا
أهدى الثغور ابتساما
فكــيف ينسى فــؤادًا
أهـدى إليه الغراما

وهكذا تفوق على مجايليه لكونه أول لسان راطن يتغنى بأغاني الفصحى بطلاقة وأناقة ... «مرحبًا يا شوق» للشاعر الجيلي عبدالمنعم:
يا لقلبي عاد من بعد النوى يطوي شراعا
بالهوى يبعث في الروح حنيـنا واندفاعــا
مرحبا يا شوق أغمـرني شجونا والتياعـا
فوداعًا للذي شيدته بين الضلـوع فتداعى

شكلت هذه الأغاني انعطافة كبيرة في مسيرة وردي الفنية، وأثبتت حرصه على ألا يكون فنه لازمة فنية طارئة، وإنما سمة رئيسة لثقافة عصر، ورحلة نغم ممتدة في عمق تاريخنا الغنائي، وأنه هو نسيج وحده، ولنسمعه في «الطير المهاجر» للشاعر صلاح أحمد إبراهيم :
وان جيت بلاد تلقى فيها النيل بلمع في الظلام
زي سيف مجوهر بالنجوم من غير نظام
تنزل هناك وتحيي يا طير باحترام
تقول سلام وتعيد سلام
على نيل بلادنا سلام...
وشباب بلادنا...
ونخيل بلادنا...

وما كان مستغربًا أن يبرز كشخصية مؤثرة لامعة دفاقة، ضاربًا كل الأرقام القياسية في النجاح الفني والمادي والشهرة، والتبشير بالغناء السوداني خارج الحدود، مما صيّره معلمًا من نوع آخر وباعث نهضة حقيقيًا (أعتقد أننا نجحنا بغنائنا في التقريب والتأليف بين القلوب من الأجيال المختلفة، بل نشرنا بالغناء اللغة العربية في منطقة القرن الإفريقي وفي جنوب السودان أكثر مما قام به المعلمون، حتى أصبحت العربية لغة قومية سودانية، لها الفضل الأكبر في تشكيل وجدان سوداني موحد، وذلك هو منطلقنا إلى أداء مهمتنا).

الغناء الثوري
في غمرة هذه النجاحات اندلعت في السودان ثورة أكتوبر عام 1964م، التي أطاحت بحكومة الفريق عبود، وكان وردي أول من أطلق حنجرته ثائرًا مغنيًا للشعب بنشيد الشاعر الكبير محمد الفيتوري «أصبح الصبح»... (أبدًا ما هنت يا سوداننا يومًا علينا/ بالذي أصبح شمسًا في يدينا).
ورغم أن ثورة أكتوبر لم تحقق غاياتها - فيما أرى -، إلا أنها خلّفت ثروة أدبية وفنية وشعرية غنائية أكثر من كل شيء، وكان للمطربين محمد وردي ومحمد الأمين اليد الطولى في إلهاب مشاعر الثوار، وتغنيا بأغنيات تؤكد عظم ارتباطهما الوثيق بشؤون وطنهما، ودامت علامة في تاريخ الغناء الوطني والثوري، ما فتئت ترددها الأجيال في المناسبات التاريخية وعند الثورة على الطغاة، الشيء الذي أوجب لهم الخلود جميعًا، منها «أكتوبر الأخضر»، «إنني أؤمن بالشعب حبيبي وأبي»، لمحمد المكي إبراهيم، «ثوار أكتوبر» لصلاح أحمد إبراهيم، «حنيـن» للفيتوري، و«شعبك يا بلادي» للطاهر إبراهيم، بينما استطاع وردي بعبقريته الفنية أن يجعلها رديفةً للأغاني العاطفية، تُغنى في حفلات الأعراس والمناسبات الاجتماعية:
من أقصى شمال بلادي
 لأقصى جنوب الوادي 
نعمل للوطن الواحد
 أيادي إخلاص ومبادي

غير هذا فقد كان وردي يتطلع دائمًا لإيجاد فلسفة للتجديد كمحور لتحقيق الهوية الثقافية، (أعتقد أن تجربتي في الإيقاع تؤكد قومية الفنون السودانية، ودورها كعنصر توحيدي وتكاملي)، أنصع شواهده (يا بلدي يا حبوب ... يا أب جلابية وتوب) للشاعر سيد أحمد الحاردلو.  كذلك لجأ إلى أصوات شعرية شبابية جديدة من مختلف القوميات أكثر جاذبية وزهاءً، فقدم من خلالها نماذج غنائية ناضجة مثلت في مساره نقطة تحول جديدة، حيث كانت كل أغنية لديه تمثل عمارة فنية سودانية قائمة بذاتها، تتيح للمرء أن يتلمس الرؤية الفنية والجمالية لديه وللعصر الذي عاشه، والذي أطلق عليه «العصر الذهبي للأغنية السودانية».
وهنا يجدر بنا أن نذكر أن من غنى لهم وردي من الشعراء الصاوي عبد الكافي، السر دوليب، التجاني سعيد، عمر الدوش «الـود» وهي إحدى فلتاته وفلسفته في التجديد الموسيقي كمسعى لإثبات الذات السودانية، إذ عمد إلى الموسيقار الإسكندراني المولد - اندريا رايدر- لتوزيعها أوركستراليًا محتفظًا بلحنه وآلة الطمبور كقيمة حضارية وتراثية، كما غنى لمحمد يوسف موسى، أبو آمنة حامد، الجيلي محمد صالح، أبو قطاطي، إبراهيم الرشيد، ثم شكل ثنائية مع الشاعر إسحق الحلنقي، أثمرت العديد من الأغنيات منها «قطر الندى»، «الصورة»، «شبه القمرة»،«عصافير الخريف»...
تحت الغمام شايف مواكب
الهجرة اتلاشت سراع
ليه يا عـصافـير ليه الأسف
مين علمك أسف الوداع
ولما جاءت هذه الأغاني فريدة في أساليبها، متقدمة في مداها، جعلت منه المطرب الجماهيري الأكثر انتشارًا والأوفر أجرًا، وساقت الأنفس على اختلاف مشاربها وميولها وتباين اتجاهاتها العقدية والراديكالية تهفو إلى سماعه وتلتقي عنده، فيما عرفه كبار المطربين العرب، وشهدت «كوكب الشرق» أم كلثوم بعظمة فنه بحضورها حفل أحياه عند زيارتها للخرطوم عام 1968م، كما تغنى ببعض أغانيه بعض مطربي إريتريا والصومال وإثيوبيا، والمصري محمد منير.

قلق السلطة 
كلما بلغ وردي قمة صعد إلى أعلى، وقد جُبِل على ارتياد القمم، فلا يمضي وقت إلا وقد سلك طريقًا جديدًا وأنجز عملًا مذهلًا، بلغ به مرامه، وخلده في النفوس، وكان لالتحاقه أواخر الستينيات بمعهد الموسيقى والمسرح أثر كبير في نهوض تجربته الغنائية من حيث التركيز والبراعة في استخدام الحوار بين الآلات الموسيقية، ومع الكورس (الكورال) في بعض أغانيه، بينما ساعدته دراسة الصوت على يد الموسيقار الإيطالي (إيزو مايسترللي)، على الاحتفاظ بقوة صوته وطلاوته وهو على مشارف الثمانين.
لكن ليس دائمًا يبقى الحال على ما هو عليه، فلما استولى العقيد جعفر النميري في 25 مايو 1969م على الحكم في السودان، اندفع وردي يغني لـ«مايو» للشاعرين محجوب شريف وعلي عبدالقيوم على زعم أنها ثورة تقدمية، لكن بعد أحداث يوليو 1971م، خرج عن عباءة مايو بأغانٍ مناوئة، أودع على أثرها السجن لأشهر عدة، كما تم فصله من الدراسة بالمعهد وهو بالسنة الثالثة. ولأنه مبدع كان في محبسه يكابد من أجل تقديم صورة حية لمجريات الواقع في تلك الحقبة، بأغانٍ ذات لغة إيحائية معبرة، تعلن عن مواقفه الناهضة ضد الأنظمة الشمولية، غنية بالمعاني الرمزية ونابضة بالدلالات التي تبعث القلق في نفوس أهل السلطة، أولاها «أرحل» للتجاني سعيد:
قلت أرحل أسوق خطواتي  
 من زول نســـي الألفـــة
أهــوم لــيل أساهـــر لـــيل  
 أتوه مـن مرفأ لي مـرفأ
ابــدل ريــد بعـــد ريـــــدك   
عشان يمكن يكون أوفى
رحلـت وجيــت فــي بُعـدِك   
 لقيت كــل الأرض منفى

حمل وردي عناء فتح المغاليق أمام الأذواق لاستيعاب الغناء المفاهيمي أو حقيقة التعبير الغنائي، وأضحى مغنيًا قوميًا ذا كاريزما عالية، له أسلوب لا يجارى، الشيء الذي ساقه في السبعينيات لنيل جائزة الشاعر التشيلى بابلو نيرودا العالمية، وها هو يقول (أعتبر نفسي أنني شكّلت فني ومستمعي بالطريقة التي أرتضيها لنفسي أخلاقيًا حتى تحقق لي الاحترام الذي أنشده، وهو مجهود تحملت في سبيله الكثير)، ولعلنا نلمس صدق القول في تغنيه بأغنيات كبيرة المحتوى والمضامين (رمزية ووطنية وعاطفية)، مثل «جيلي أنا» لمحمد المكي:
من غيرنا لصياغة الدنيا 
وتركيب الحياة القادمة 
جيل العطاء المستجيش
ضراوة ومقاومة
المستميت على المبادئ مؤمنا
المشرئب إلي النجوم لينتقي
صدر السماء لشعبنا 
جيلي أنا....

وكذلك «واأسفى» لإسماعيل حسن، و«جميلة ومستحيلة» لمحجوب شريف، و«بناديها»،و«الحزن القديم» للدوش:
بتطلعي أنت من غابات ومن وديان ومني أنا
ومن شهقة زهور عطشانة فوق أحزانها متكية
بتطلعي أنت من صوت طفلة وسط اللمة منسية 

منفى جديد 
في عام 1983م زار وردي اليمن الجنوبي بدعوة من رئيسه الأسبق علي ناصر محمد، ومنها اختار المملكة السعودية منفى لبقائه، ثم هاجر واستقر في مصر لينطلق مغنيًا في عدد من بلدان العالم، أبرزها مشاركته في احتفالات الجماهيرية الليبية بدعوة خاصة من رئيسها الأسبق معمر القذافي الذي منحه وسامًا من الذهب الخالص. 
وبعد أن أذرى الشعب بنظام مايو إثر انتفاضة أبريل 1985م عاد محمد وردي إلى السودان، وغمر الساحة الفنية بكثير من الأغنيات الثورية والوطنية والعاطفية للشعراء شريف، الفيتوري، الحلنقي، ومحمد الحسن دكتور، محمد أبو شورة، ومبارك بشير:
نلتقيك اليوم يا وطني .. لقاء الأوفياء
 قد تنادينا  خفافًا
 كخيول الريح في جوف العتامير 
 تنادينا..
ســـوف نُـفـديـك دوامــــا
ونــنــاديــك هُــيــامـــا
فلتعِـش حُـراً أبيـًا فــي مهـابـة
 
في عام 1992م أصبح من العسير عليه أن يبقى في بلاده بعد أن آل حكم البلاد لنظام الإنقاذ، فهاجر إلى بريطانيا كمنفى جديد، ليبقى خارج الوطن 13 سنة، زار خلالها العديد من دول العالم، ينشر لواء الأغنية السودانية والنوبية،) كنت و ما زلت مؤمنًا بأني عبر هذه الأغاني النوبية أنقل أشياء في لغة تملك صورًا وأخيلة تسهم فعليًا في تطوير وإثراء الحس الجمالي السوداني. وأعتقد أن اللغة النوبية في أغنياتي تستهدف من يفهمها، لكن ألحانها خماسية سودانية يمكن عزفها بآلة مفردة كالطمبور. وأعتقد أنها إضافة أن يكون لدى الإنسان هذا الإدراك الذي لا يعزله عن الحس القومي)، كما قام بتجديد موسيقى كثير من الأغاني وتغنى ببعض القصائد المناهضة التحريضية، مثل «سلم مفاتيح البلد تسلم» للشاعر المكي، لخلق انطباع بالسخط على ما هو قائم، فيما سجل حضورًا طاغيًا في عدد من البلدان الأفريقية حتى توج بلقب «فنان أفريقيا الأول».  
بعد أن رجع وردي عام 2005م من منفاه إثر اتفاقية نيفاشا منحته جامعة الخرطوم الدكتوراه الفخرية بالآداب، في مبادرة تعد الأولى من نوعها للجامعة تجاه المطربين، وذلك تقديرًا لعطائه المستمر والمميز وإسهامه النوعي في مجال الفن.
ورغم تجاوزه السبعين عامًا والفشل الكلوي الذي أصابه لم يتوقف عن الغناء، حيث قدم العديد من الأغنيات لشعراء جدد منهم سعد الدين إبراهيم، محمد عبدالله بابكر، وكان آخر ما تغنى به احتفالًا بمطلع 2012م قصيدة «يا وجهها» للشاعر المصري أمل دنقل:
يا وجهها الحلو
أمطر فإنّـي مـجدب السّلوى
ما زلت لا أقوى
أن أنقل الخطوَ
إن فاتنـي سندك

في الختام نقول: بلا أدنى شك محمد وردي يمثل نموذجًا للفنان الذي يضع تاريخ بلاده وحضارتها وذائقة شعبه في جوف أغانيه، ويرى أثرها على الناس في القدرة على استيعابها بمحبة؛ مما يجعله فنانًا لكل العصور ■