حديث كِبار

شاءت الأقدار أم حكمت الظروف، لا أعلم أيّا منهما كانت سببًا في أن أقضي عقدين من عمري مع مَن كانت سميرةَ ليلِي وأنيسة خلوتي، جدتي. عندما دبّ الوعي بقلبي رأيتها أمًا كبيرة والجميع يطلق عليها (ماما هيا)، إخوتي، أقاربنا، وكذلك أمي وأبي، وبعد حين علمت أنها والدة أبي فقط!
كانت ماما هيا قليلة الابتسام، وإن ابتسمت أغمضت عينيها وأظهرت القليل من أسنانها وحين يحدث ذلك فهذا يعني أن فرحًا دبّ في قلبها، وعافية سرَت بجسدها. لحظات الفرح النادرة تلك كانت عادة ما تُترجمها إلى فعل ليدوم أثره، فتجمَعنا على طعام، أو تتراقص برأسها على نغمات أغنية تدعونا لدندنتها معها. ماما هيا خافت من الضحك أو يمكن تشاءمت من كثرته، أو لعلها رأت ما وراءه!
ومن منطلق «خير الكلام ما قل ودل»، كانت جدتي قليلة الكلام، جيدة الإنصات، لم أرها تستنزف مشاعرها في الشرح أو التعبير أو التعليق على حدث ما، وهنا كنت أراها قاسية، ففي ختام كل حديث يطرق مسامعها عن مصاب جلل أو حدث غير سار يقع لأحدهم كانت تقول (الله أرحم). آنذاك كنت أرغب في أن تظهر تعاطفها بالكلام، أن تتأثر، أن تنفعل، أو حتى تبكي، فلم تكن كذلك أبدًا، بل كانت تكتفي فقط بترديد اسم الله الكافي وجُملتها المعهودة «الله أرحم».
كبُرت أكثر، وردود أفعال جدتي بدأت تظهر فيني أكثر. فوسط ما نعيشه من متغيرات وما نسمعه من أخبار وما نشاهده من ظواهر في محيطنا العائلي والعالمي، وسط ما بين أيدينا من إمكانات تعيننا على التعديل والتغيير، وبين ما نعجز عن تعديله وتغييره، فمَن لنا غير الله؟! ومَن لنا سوى رحمته؟!
في الصلاة كانت جدتي تقضي وقتًا طويلًا لطالما ظننت أنها تقيم صلاة التراويح طوال العام، كانت تصلي بحضور قلبها وعقلها، وتتمتم بالدعاء لذريّتها ومَن تعرفه وتذكره، ومَن لا تعرفه من المؤمنين والمؤمنات، وهنا عرفت أنها تكثر الحديث مع الرحيم الكافي فتستغني به عن الحديث مع خلقه.
كان لي نصيب جيد من دعائها كانت تخصني بقولها « الله يسخر لك القلوب القاسية والعبيد العاصية»، وكنت أدعو لها بطول العمر فقط لأنني لم أعتد العيش من دونها منذ أن خُلقت!
في الليالي الهانئة كنا نتسامر وكانت تقص عليّ قصصًا مضحكة، وعندما أرى ابتسامتها الرائعة كنت أشعر بأنها تود أن تخصّني بضحكاتها، وأن نتقاسم الأوقات السعيدة لتصنع لي ذكريات معها لا تُنسى. وقبيل أن ننام تسألني: هل ستبكين حين أموت؟ وهنا يعتصر الألم قلبي وأصرخ رافضة كلامها، لكنها سرعان ما تبتسم وتقول: كلنا سنموت والباقي هو الله.
رحلت جدتي منذ ما يقارب الـ 15 سنة وما زلت أبكيها.
اقتربوا من كباركم حدّثوهم... ففي وجودهم رحمة وأمل وفي حديثهم حِكَم وعبر تثبتها السنون ■