الحوار بين الأديان أخلاق المستقبل
إذا كان الدّين قبل كل شيء يؤسّس للتّواصل مع الله، عبر الصلاة التي هي صِلةُ العبد بربه، فكيف يمكن أن يتعلم المرء هذا التواصل وينميه إذا فَقَدَ القدرة على التواصل مع الآخر بالحكمة والموعظة الحسنة، وبالحوار والكلمة الطيبة والرحمة والإحسان، وهو معنى قول الله تعالى: ﴿فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ﴾ (سورة آل عمران - الآية: 159)؟ لذلك كانت أخلاق الأنبياء نموذجًا للاقتداء، وطريقًا للاهتداء إلى خير السبل في التعامل مع الناس، وهذا التواصل جزء من رسالة الأديان، وهدفه التّعارف وإعمار الأرض، لا الصّراع والمواجهة أو سفك دماء الأبرياء، لذا كان تأسيس الدّين على الرحمة ودعوة العِباد إلى التّحلّي بهذا الخُلق، فالأخلاق الفاضلة ينتقل أثرها إلى الآخرين، بإشاعة جوّ من التعايش والمحبة والسلام.
يشكل الحوار بين الأديان فرصة لتصحيح المفاهيم وترسيخ التواصل وتعزيز المشترك الإنساني، بعيدًا عن أي خطاب حماسي أو إقصائي مقيت، وإنما الهدف أولًا وأخيرًا هو بعث الحياة في مجتمع يعاني الخوف من الآخر ويخشى الاقتراب من المخالِف، نظرًا لهيمنة التطرّف والكراهية والعداوة وتهديد حياة الكثيرين بسبب معتقداتهم الدينية، عِلمًا أن النصوص الدينية قد حدّدت منظومة تشريعية وحقوقية في التعامل مع المخالِف، يؤطّرها العدل والرَّحمة واحترام إنسانية البشر، فمن أقوال الإمام علي بن أبي طالب، كرّم الله وجهه، في نهج البلاغة: «فإنَّهم - أي الناس - صنفان: إمّا أخٌ لك في الدّين، وإمّا نظيرٌ لك في الخَلْقِ»، وقد كان الإمام «يتحلّى بنظرة إنسانية، تُساوي بين المؤمن المسلم والمعاهد والذمي، ممّن يعيشون في ظل الحكم الإسلامي ولا يدينون بدين الإسلام... دماؤهم كدمائنا وأموالهم كأموالنا».
راكمت الأديان رصيدًا أخلاقيًا زاخرًا بالكثير من القيم والأفكار والمعتقدات التي تؤسّس لتواصل فاعل ومثمر بين بني البشر، والذي يمكن استثماره لترسيخ ثقافة الاحترام وإشاعة روح المحبَّة، منذ سيدنا آدم إلى سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، حيث تحفل الكتب السماوية بتعاليم تدعو إلى احترام قداسة الإنسان وتمنع انتهاك حرمته وتهديد حياته، فالدين هو منظومة عقيدة وقيم وسلوك، وهو يقترح تصورًا خاصًا للوجود والحياة، ومِنْ ثَمَّ فهو نظام محكم من التعاليم التي يفترض تطبيقها من لدن فئة المتدينين أو الأتباع الذين اختاروا طواعية الانضمام إلى هذه المنظومة المتكاملة، لذا كان لا بد من احترام هذا الاختيار، وهذا أقلّ القليل في التعامل مع أهل الديانات المغايرة، بدل اتخاذ موقف معاد أو إقصائي لا يعترف بالآخرين، وإنما يزعم لنفسه سلطة امتلاك الحقيقة وحده، وهذا سلوك غير حضاري وغير منسجم مع أيّ دِين أو مِلّة، وإنما هو نابع من سلطة النفس الراغبة في الهيمنة على الناس وفرض سيطرتها وجبروتها عليهم، وهو من دون شك نوعٌ من التعالي والكِبر الذي ترفضه الأديان جملةً وتفصيلًا، فقد أقرَّ الإسلام جملة من القواعد الذهبية في المعاملة الإنسانية، منها قوله تعالى: ﴿لا يَنْهَاكُمُ اللهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ الله يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ﴾
(سورة الممتحنة - الآية: 8)، وقوله تعالى: ﴿يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا الله إِنَّ اللهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ﴾ (سورة المائدة - الآية: 8)، كما أقرّت السنة النبوية وجوب برّ الكافر أبًا أو أمّا، واحترام حقّه كجار، والوفاء بعهده، وضرورة أداء الأمانة له، وحماية الكافر المستجير، وغيرها من الحقوق التي تؤكّد تسامح الإسلام وحرصه على التواصل والحوار بين الأديان.
تمام الحرية في العبودية لله
إنَّ الإنسان لا يملك شيئًا، بل هو مملوك لخالقه، وتمام الحرّية يكمن في تمام العبوديَّة لله، والتزام الإنسان سلامة علاقته مع الخالق، وتحقيق التصالح مع ذاته، في وعي تامّ بحق الآخر في امتلاك علاقة مماثلة، لا تقل أهمية عن علاقته بربِّه، وهذا التَّقاطع في الصّلة بالله هو الذي نسمّيه دينًا، وعلى ضوئه نفهم كثيرًا من الأعراف والعادات والتقاليد داخل مجتمع ما، حيث يحضر الدّين لينقل الأحداث والمواقف من طابع الفطرة والتلقائية إلى نمط التعبد المُفَكّر فيه والمنسجم مع ضوابط النصوص وحدود القوانين الإلهية التي ينبغي أن تكون المرجع الأسمى للقوانين الوضعية، فالدّين يمنح المعنى للكثير من التصرفات الإنسانية، ومنها قضية التنوّع أو الاختلاف، باعتباره حقيقة وجودية
لا بدّ منها في عالَم الحياة على الأرض، ولأنَّ التنوّع موجود فلا بدَّ من التّعامل معه بوصفه واقعًا، ومقتضى الإقرار بوجوده ربما قبوله على ما هو عليه، وتسويغ التَّحاور معه دينيًا، وهذا يؤدّي إلى مجتمع متنوّع، فيه هويات ثقافية متباينة، لكنها متصالحة ومتعايشة فيما بينها، فيكون ذلك سبيلًا لتماسك اجتماعي وأمن نفسي وروحي، تنمو في ثناياه قيم الحرية والكرامة والابتكار والتقدم والسّعي لاكتشاف سُبل سعادة الإنسان.
أخيرًا، فإن إشاعة الحوار بين الأديان وخلق جسور التواصل وتعزيز اللقاء بين الثقافات
لا تسهم في الحد من النزاعات فحسب، أو تحقّق نوعًا من التقارب المفضي إلى التعاون، بل تمثّل تجسيدًا للحياة في عالم واحد، وتأسيسًا لأخلاق المستقبل القائمة على قبول الاختلاف، وضرورة العيش المشترك في بيئة آمنة تحقّق للإنسان ذلك الاستقرار المطلوب والاطمئنان المنشود، وبخاصة في ظل الظروف المعاصرة التي تشهد تزايد وتيرة النزاعات الصراعات والحروب، بما يهدّد أمن الدول والمجتمعات، بل قد تمحى الحياة على الأرض بسبب التطور الهائل في أسلحة الدمار الشامل، فلا مجال لتعطيل الحوار أو تأجيله، وكلّ تأخير في هذا النمط من التواصل قد تدفع البشرية ثمنه غاليًا، ثم لا يكون هناك متسع من الوقت لتدارك الأمر ■