صناعة السعادة

صناعة السعادة

 «الأمل»... آخر لفظ كتبه ويليام ديفيز في كتابه الرائع «صناعة السعادة» الصادر بترجمة مميزة للمترجم مجدى عبدالمجيد خاطر، عن سلسلة عالم المعرفة، ورغم ما يبثه العنوان من مفاهيمَ تتعلق بالفرح والبهجة، فإن استكمال العنوان يحوله إلى ما يشبه المرثية للسعادة الصافية النقية، فنحن أما كتاب اقتصادي عميق، يرصد كيف تجمعت المنفعة والمصلحة لتحول علم النفس وعلم الإعلان وعلم الاقتصاد وغيرها إلى وسيلة لخلق سعادة وهمية معتمدة بشكل تام على أطماع الإنسان في إرضاء ذاته، وتحقيق مطامعه ومطامحه، فالعنوان الفرعي يتساءل «كيف باعت لنا الحكومات والشركات الكبرى الرفاهية». 

 

سبق أن صدر عن «عالم المعرفة» أيضًا كتاب ممتع بعنوان «السعادة...موجز تاريخي» تأليف نيكولاس وايت، وترجمة سعيد توفيق، أكتوبر 2013م منذ رأى أرسطو أن السعادة هي «الخير البشري» ونقل عن صولون قوله: «لا تصف أي شخص بالسعادة إلى أن يموت»! ثم نجد فرويد يتساءل «ما الذي يطلبه الناس من الحياة؟
إن الإجابة عن هذا السؤال واضحة، فالناس يكافحون من أجل السعادة، إنهم يريدون أن يكونوا سعداء، وأن يبقوا على هذا النحو». 
أما كتابنا فيبدأ بفكرة «قياس الإحساس بالسعادة» من خلال دراسات بعض علماء النفس مثل «بنتام» الذي يقرر بقلب بارد أن «الشيء الوحيد الذي تشترك فيه البشرية كلها هو قدرتها على احتمال الألم». يقول المؤلف «إن جيرمى بنتام كان متفهمًا لمشاعر الآخرين، وصار معتادًا شقاء البشر، بل والمخلوقات الأخرى. غير أن السياسة والقانون والاقتصاد كل ذلك أصبح مكونًا حرجًا في إنجاز خارطة للسعادة، لكنها ليست بمعنى أكثر من الحدوث المادي داخل الجسم البشري» يقصد المؤلف ويليام ديفيز تحول السعادة إلى مسألة يمكن قياسها، من خلال مجموعة دراسات، منها دراسة حديثة، أجريت بجامعة كورنييل، قال الكاتب الأساسي للدراسة «يبدو أن الدماغ الإنساني يولد شفرة خاصة لكامل طيف التكافؤ بين المشاعر السارة وغير السارة، الطيبة والسيئة، وهي الشفرة التي يمكن قراءتها بوصفها «عداد تكافؤ عصبي»، لذا فالسعادة هكذا أمر جسدي، وبالتالي يتجه بشكل نهائي نحو تحقيق اللذة». 

ديمقراطية الأجسام 
كل إنسان برأي بنتام هو أفضل حكم على ملذاته وسعادته، لكن اللغة عاجزة أحيانا عن رصد عمق المشاعر والحاجات، لذا سعى العلماء في إنجاز الماسحات الضوئية العصبية، ثم استحدث عام 2013 في مهرجان شلتنهام الأدبي في بريطانيا كاميرات تتعقب الابتسامات فوق وجوه الزائرين، تحولها حواسيب مبرمجة تفسر هذه الابتسامات سعيًا وراء رصد السعادة، لكن هذه الممارسة وغيرها ظلت خرقاء، إذ اعتمدت على رصد آلي لا يفرق بين ابتسامة سعادة وابتسامة زائفة، خاصة وقد رأينا الابتسامة دليلًا ووسيلة للشفاء أو التعجيل به، لكن بخصوص السعادة هناك إحباطات دائمة، فالابتسامة لا تتصل بوصفها تمثيلًا علميًا أو فلسفيًا لشيء.
 
ثمن اللذة
يحكي ويليام ديفيز أنه ذهب وزوجته وطفلته التي كان عمرها عامًا واحدًا إلى مستشفى، نشاهد شبانًا ثلاثة يحيكون مؤامرة صغيرة للنصب على شركة التأمين بادّعاء الإصابة في رقبته بشد الرقبة المفاجئ، لذا تسعى شركات التأمين وراء حل ظاهرة التلاعب حين يتم الكشف عن الألم الذي هو دائمًا غير مرئي، فإذا كانت السعادة تتحقق باللذات - في رأي المنظرين الإنجليز- فإن هذه اللذات لابد أن تتحول إلى سلع، وهو ما تبناه جيفونز في كتابه «نظرية الاقتصاد السياسي»، حيث يرى أننا «نشبع حاجاتنا إلى أقصى حد، وبأقل جهد، معناه أن تحصل على أعظم قدر مما تشتهي بأقل تكلفة مما لا تشتهي، بكلمات أخرى أن نعظّم لذتنا هي مشكلة علم الاقتصاد»، لذا تحولت قيمة السلعة المحددة بالنظر للمصنع والعامل، إلى قيمة تحددها حاجات الناس لها، حتى مع انتشار الفكر السيكولوجي في القرن التاسع، وتحولت دولة عظمى كالولايات المتحدة من الإنتاج الزراعي عبر مجموعة من كبار الملاك، وظهرت جامعات عديدة لا تملك منهجًا ولا طلابًا، لذا لجأ الدارسون الأمريكيون إلى ألمانيا، فظهرت أسماء مهمة لباحثين أمريكيين شبّان، مثل ويليام جيمس الأب الروحي لعلم النفس الأمريكي ووالتر سكوت وغيرهما. 
لكن الألمان رأوا في الأمريكيين رجال اقتصاد في الأساس، يفترضون أن البشر عبيد لحوافز خارجية، لذا فإن الشاغل الأكبر للدارسين الأمريكيين في ألمانيا هو توفير مجموعة من الأدوات للمديرين، لذا فقد وُلد علم النفس الأمريكي داخل عالم من الأعمال الكبرى. وفي عام 1913 كان جون واطسون يلقي محاضرته في جامعة كولومبيا، هذه المحاضرة التي اعتبرت البيان الرسمي للسلوكية، ليعلن  واطسون بشكل قاطع تفوق علم النفس الأمريكي، وبعد عامين أصبح واطسون رئيسًا لاتحاد علماء النفس الأمريكيين. الممتع والمضحك في الأمر أن «رائد السلوكية الأمريكية» حتى هذه اللحظة لم يقم بدراسة سلوك أي إنسان، بل اكتفى بتجاربه على الفئران البيضاء.     
هذه السلوكية تقدم حلم بنتام المتعلق بسياسة علمية، من خلال تصور أنه أسفل وهم الحرية الفردية تقبع آلية السبب والأثر الباردة، خاصة أن مصطلح السلوك حتى عشرينيات القرن السابق لم يكن متعلقًا بسلوك البشر. 
وهكذا انطلق واطسون عمليًا من خلال وكالة جيمس والتر كمسؤول تنفيذي، اكتشف أن الجري وراء انفعالات ورغبات المستهلك الموجودة فعلاً أمر لا طائل منه، بل ينبغي تفجير رغبات وانفعالات جديدة.

الولاء الوظيفي
سعت الدراسات إلى ربط الولاء بالتكلفة، فاكتشفت أن: 
- 13 في المائة فقط من قوة العمل يشعرون بالولاء للعمل وإدارته.
- 20 في المائة من موظفي أمريكا وأوربا غير موالين بشكل فعال. 
- الاقتصاد الأمريكي يخسر 550 مليار دولار سنويًا نتيجة عدم الولاء.   
وهكذا تتحول المشكلة من أخلاقية إلى اقتصادية، اقتصاد يسعى بالعالم - بتعبير وليم ديفيز - إلى بؤس إنساني، يطول أصحاب الأعمال، وبخاصة أن أمر الانتماء والولاء يبدو كلامًا هلاميًا خياليًا غير محدد، لذا يتطلع أصحاب القرار إلى علم مادي يدرس السعادة في مكان العمل، خاصة مع قسوة الإجراءات التي سعت لها دولة كبريطانيا، حين أوقفت المساعدات التي كانت تقدمها للمعوزين وغير القادرين على الكسب، فقد مات نحو عشرة آلاف وستمائة مريض ومعاق خلال ستة أشهر عام 2011.
من هنا كان الاتجاه لتنمية الشعور بالسعادة، خاصة مع فرضية بنتام وجيفونز التي تقول إن المال يدر كمية متناسبة من السعادة، لذا يقرر شون آكور في كتابه «ميزة السعادة»، أن السعداء ينجزون أكثر في أعمالهم، أو بتعبير طريف لبول زاك «السعادة عضلة تحتاج إلى التمرين».

انتقاد كلاسيكية العقلية
فى عام 1977م وقف الطالب ويليام هيغ في المؤتمر السنوي لحزب المحافظين البريطاني، معبرًا بسخرية مريرة عن رأيه، ومنتقدًا كلاسيكية عقلية الدولة في كل شيء، ويضرب مثلًا أن الدولة لا تسمح للطالب الذي فاز في مسابقة جرى بأن يفوز مرة أخرى، حتى لا يُجرَح الآخرون. كانت الأزمة هنا خاصة بالسلطة التي سعت وبقوة للتغيير، خاصة مع انتشار معدلات الاكتئاب، بنسبة تساوي خمسة أضعاف الأمريكيين، هذا المجتمع التنافسى الذي يستهلك ضعف كمية المضادات للاكتئاب. 
وقد سبق هذا أول محاولة على الإطلاق لمقارنة مستويات السعادة لدى أمم بكاملها عام 1965م قام بها هادلي كانتريل، أحد مساعدي الرئيس الأمريكي روزفلت، أُطلق على الطريقة «مقياس التحديد الذاتي للازدهار». 
المشكلة أنه حتى مجتمع حقيق التراث كان في حاجة إلى حكومة وسلطة لتنفذ ذلك التي تشير به البحوث العلمية التي تتواصل لخدمة الرأسمالية، عملية البيع والشراء دومًا، تسويق المنتج، فاخترعوا طرقًا عجيبة منها فكرة «ادفع لغيرك» وأساسها أن يجلس شخص ما في مقهى أو مطعم أو متجر، فيأكل أو يشرب ثم يقوم بلا محاسبة، ثم يأتي شخص تالٍ له فيقوم بدفع ما تناوله الشخص، وهو ما أطلقوا عليه نظام «الوفاء بالعطاء» Pay-it Forward، وقد طبق هذا النظام في بعض المقاهي في كاليفورنيا، وحقق صدى طيبًا، وقد وصلت بعض الدراسات لدرجة تحليل الطريقة المثلى لنطق «شكرًا لك» أمام المستهلك، وسعت لدراسة كل السبل «للعلاقات غير النقدية» فأطلقت شركات عديدة أشكالًا للشكر والامتنان عبر الإعلانات مستفيدة من الإنترنت وخدماته... تويتر، إنستغرام، وغير ذلك، فالشركات في النهاية يجب أن تصبح صديقة لك، فالهدايا والصداقة والشكر هي وسائل تنتهى بالوقوف أمام ماكينة دفع، النهاية دومًا اتفاق على السعر... لذا يتساءل المستهلك «لو أن الإعلانات بريئة، فلمَ تغرقنا بهذه الكثافة»؟!
كتاب بديع، ونموذج للتأليف القائم على وجهة نظر لها ما يساندها، وتحليلات عميقة، ومرجعيات ذكية، ومراجعة تاريخية مميزة، لمفكر قدير هو ويليام ديفيز أستاذ علم الاجتماع والاقتصاد السياسي البريطاني ■