«نتفليكس» وأخواتها
«نتفليكس» و«أمازون» و«آبل» و«هولو»، هي المنصات العابرة للجنسيات والثقافات والقوميات، التي خرجت لنا من قمائم العولمة، والتي تعرض المنتجات الدرامية والترفيهية الآن لجميع سكان الكوكب، ونتوقع انضمام عدد آخر إليها في القريب العاجل؛ منصات كوكبية جديدة تعرض المسلسلات الدرامية، والأفلام الروائية، والوثائقية، وأفلام الكرتون، والبرامج الترفيهية، والحواريَّة، وبرامج المسابقات، وتلفزيون الواقع، وهلم جرا. نسيج عنكبوتي يلف الكوكب ويعلق به المتفرجون مثل جثث حشرات تمتص حتى الجفاف.
المنصات الإقليمية التي تستهدف جمهورًا قوميًا محددًا ومعينًا، متوافر الكثير منها منذ فترة طويلة، ولدينا منها في الوطن العربي الآن 4 منصات: (شاهد)، و(واتش إت)، و(فيو)، و(تود)، وأعدادها مرشحة أيضًا للزيادة، لكن ما يهمنا في هذا المقام هو المنصات الكوكبية العابرة للدولة القومية، من ناحية، بسبب هول تأثيرها الذي لا يمكن حسابه بالأرقام أو وصفه بالنعوت، ومن ناحية أخرى بسبب الاختلاف البيِّن في أسلوب عمل المنصات الكوكبية عن القومية، ومن قبل الاختلاف في التوجهات والقيم والأولويات التي يستهدفها كل منها.
كيف تختار «نتفليكس» أعمالها؟
على عكس الشائع بين العامة، فإن أبواب «نتفليكس» ليست مفتوحة أمام المبدعين من مختلف أنحاء العالم. الواقع أن هناك قاعدة أساسية يعرفها كل من حاول التقدم بمشروع مسلسل لشركة «نتفليكس»؛ عليك أولًا أن تعثر على شخص سبق له العمل منتجًا منفذًا لصالح «نتفليكس» في أحد إنتاجاتها الدرامية، على أن يقوم هو، لا أنت، بتقديم المشروع إلى الشركة. هذا يعني أنه لكي تعمل مع «نتفليكس» عليك أن تكون قد عملت سابقًا مع «نتفليكس».
بالطبع «نتفليكس» تستطيع، إذا رغبت، بوصفها شركة استثمارية خاصة، أن تطلب أعمالًا، بصيغة الأمر المباشر والتعاقد الفوري، من أي مبدع، سواء أكان قد سبق له التعامل معها أم لا. إذن «نتفليكس» تستطيع الوصول إليك في أي وقت، لكنك أنت لا تستطيع الوصول إليها إن أحببت. هذه وضعية تذكرك، ولا بد، بمحاولاتك للوصول إلى المسؤولين بالقصر في رواية «القصر» لكافكا.
لنضرب مثلًا توضيحيًا من حالتنا العربية. قامت «نتفليكس» أخيرًا بإنتاج أول فيلم عربي لها «أصحاب ولا أعز، 2021»، وعدة مسلسلات عربية، بدأتها بمسلسلين عن الأشباح كان من ضمنهما «ما وراء الطبيعة، 2020»، ومسلسل آخر للدمية «أبلة فاهيتا». فإذا ما سألت: على أي أساس قامت «نتفليكس» باختيار هذه الأعمال؟ فلن تجد إجابة! وإذا سألت: من هو المسؤول بالشركة الذي قام بالاختيار أو الموافقة على هذه الأعمال؛ هل هو مدير فرع الشركة في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، أم مسؤولة قسم إنتاج المسلسلات الدولية، أم مدير قسم الإنتاج العام، أم المدير التنفيذي نفسه للشركة، وهل كان لجيش مستشاري السيناريو والإنتاج والتوزيع التابع لـ «نتفليكس» دور في عملية الاختيار وحسم قرارات الإنتاج، فسيكون أيضًا من المستحيل أن تعثر على إجابة.
هذه الحالة من الضبابية في المسؤولية تفتح الباب أمام الحديث عما نعتقد أنه أهم إحدى سمتين تميزان أسلوب العمل في تلك الشركات الإعلامية الكوكبية، ونعني بها «سلطة المكاتب»، أو «حكومة المكاتب».
كانت حنا أرندت أول من استشرفت في عام 1969 شكلًا جديدًا من أشكال الحكم في المستقبل، أطلقت عليه آنذاك اسم «حكومة المكاتب»، أو «حكومة البيروقراطية». نحن نعلم أن أشكال الحكم المتنوعة التي مرت على الخبرة الإنسانية هي إما الملكية أو حكم الفرد، أو الأرستقراطية أو حكم النخبة، أو الثيوقراطية أو حكم رجال الدين، أو الديمقراطية أو حكم الأغلبية، لكن، منذ نهاية عقد الستينيات من القرن الماضي توقع بعض المفكرين والفلاسفة عصرًا جديدًا، كانت إرهاصاته قد بدأت في الظهور بسبب القفزات التكنولوجية الهائلة، فتنبأوا باليوم الذي ستصل فيه البشرية إلى شكل من أشكال الحكم يُمارس عبر نظام مكاتب شديد التعقيد، لا يمكن للموظفين - الحكام في رحابه أن يُعتبروا مسؤولين، حيث تتوه المسؤولية بين أروقة المكاتب البيروقراطية، بالتالي يمكننا أن نطلق عليه اسم «حكم اللا أحد».
وإذا كان تعريف «الطغيان» أنه سلطة غير مجبرة على تقديم كشف حساب لأي شخص عما تمارسه، ولا مجبرة على تبرير أفعالها لأي كان، فإن حكم «اللا أحد»، أي سلطة المكاتب، تعتبر في ظل هذا الوضع هي الحكم الأكثر طغيانًا، مادام أنه ليس ثمة أي موظف - مسؤول يمكننا أن نحاسبه على ما اتخذ من قرارات. بكلمات حنا أرندت نفسها (في العنف، 1969): «هذه وضعية تجعل من المستحيل تحديد المسؤولية، وستعطي للعالم، في ظل هذا الحكم، شكلًا كابوسيًا، وميلًا خطيرًا نحو الإفلات من أي رقابة، والغرق في نوع من الهيجان العبثي».
ثقافة «الديلر»
السمة الأخرى التي تميز عمل «نتفليكس» وأخواتها، هي سمة حددتها طبيعة صعود مؤسسي تلك الشركات إلى قمة عالم الأعمال. طريقة صعود ريد هاستنجز ومارك راندولف مؤسسي «نتفليكس» تكاد تتطابق مع طريقة صعود جيف بيزوس مؤسس «أمازون.» عام 1997، بدأ هاستنجز وراندولف، ومن مكان متواضع يشبه مرآب السيارات الذي بدأ منه بيزوس تجارته، في تقديم خدمة تأجير الأقراص المدمجة للأفلام، مع توصيلها بالبريد إلى المشاهدين في منازلهم. قبلهما بثلاثة أعوام بدأ بيزوس تجارته أيضًا بخدمة توصيل النسخ الورقية الرخيصة من الكتب إلى القراء في منازلهم.
أحد الأصدقاء النابهين أطلق على هذه النوعية من رجال الأعمال وصف «الديلرز»؛ أي أولئك الوسطاء الذين نراهم في أفلام ومسلسلات المخدرات، الذين يشكلون حلقة الوصل بين المنتجين الكبار و المستهلكين - المدمنين . الفكرة نفسها طبقها بيزوس وباقي أباطرة البيع بالتجزئة والتجارة الإلكترونية والإعلام الرقمي. هم يشكلون الآن ستة من ضمن أغنى عشرة أثرياء على سطح الكوكب. جيف بيزوس مؤسس (أمازون)، ولاري بيدج وسيرجى برين مؤسسا (جوجل)، ومارك زوكربيرج مؤسس (فيسبوك)، وبيل غيتس الرئيس الأسبق لـ (مايكروسوفت)، ولاري إليسون مؤسس (أوراكل...هؤلاء لم ينتجوا أبدًا أي منتجات مادية، صناعية أو زراعية، وإنما جنوا ثرواتهم من عملية التوسط بين المنتجين والمبدعين والمصممين والشركات التنفيذية الصغيرة من ناحية، وبين المستهلك أو الزبون النهائي من الطرف الآخر. في حالتنا هذه إذا ما انتبهت إلى تتر مقدمة أو نهاية أي مسلسل من إنتاجات «نتفليكس الأصلية»، ستقرأ اسم أو أسماء الشركات التنفيذية الصغرى التي قامت بصنع المسلسل فعليًا من ألفه إلى يائه. إن «مسلسلات نتفليكس الأصلية» ليست أصلية.
نعتقد أن ثقافة «الديلر»، ومنطق «الديلر»، هما المسيطران الآن على طريقة عمل «نتفليكس» وأخواتها، وإذا تعمقنا في شرح طريقة العمل الداخلية في تلك الشركات سيدهشنا مدى التشابه بينها وبين أسلوب عمل الديلر، فالديلر ليس منتجًا ولا يهمه إلا المكسب فقط، وبالتأكيد ليس معنيًا بصحة المدمن الذين يبيع له المخدرات ، بل كثيرًا ما نسمع عن ديلرز يغشون المخدرات الأصلية بسموم أو بصودا الخبيز من أجل مضاعفة المكاسب، ويقومون في تلك الحالات بتمويه النوعيات المغشوشة تحت أسماء جديدة جذابة أو عبوات ملوّنة وبرّاقة، وهو ما لا يختلف كثيرًا عن الخطاب ذي النبرة البراقة الذي نسمعه من حين لآخر من المسؤولين التنفيذيين لتك الشركات، سواء عن دعمهم لحرية الإبداع، أو حقوق الإنسان، أو الحفاظ على البيئة، أو الالتزام بمكافحة ثقافة التحرش والاعتداء على النساء... وهلم جرا، فإذا ما حاولنا التأمل في المنتجات الدرامية لتلك الشركات فسنعثر بسهولة على ما يناقض تلك التصريحات الشفوية، سواء في المسلسلات العالمية، أو حتى في المسلسلات العربية التي نراها الآن على منصاتها.
لنأخذ مثالين، أحدهما من الدراما العالمية، والآخر من الدراما العربية التي تنتجها «نتفليكس». حقق مسلسل (لعبة الحبَّار، الموسم الأول 2021) أعلى نسبة مشاهدات لعمل درامي في التاريخ، وأصبح هوسًا بالنسبة للأطفال والمراهقين. و على الرغم من أن بعض النقاد روجوا له باعتباره عملًا دراميًا ناقدًا للقيم الرأسمالية، إلا أننا نرى فيه النقيض؛ دمج للمُشاهد أكثر في منظومة القيم الرأسمالية، لأنه يحيل المشكلة الهيكلية الناتجة عن مجمل السياسات الاقتصادية والاجتماعية للنيولبرالية إلى مجرد مشكلة أخلاقية فردية تتعلق بصلاح أو فساد أخلاق الفرد الشخصية، وبذلك يعفي تلك السياسات من اللوم ومن تحمل المسؤولية، ففضلًا عن أنه لا يساعد المتفرج على إدراك القوى الظالمة التي تستعبد حياته اليومية، يجد المتفرج نفسه في نهاية المسلسل مقذوفًا بداخل عمق النظام الرأسمالي ولعبته (سيد - عبد). لاحظ سلافوي جيجيك بنباهة، أن المسلسل كذلك يوجه الإزعاج الذي يشعر به المُشاهد إلى مسألة الغش في اللعبة بسبب وجود بعض الغشاشين ضمن اللاعبين، وبذلك يعفي اللعبة المميتة نفسها من اللوم، بمعنى أنه لو تحسنت شروط اللعبة وأصبحت أكثر عدالة لنالت رضا المشاهدين.
المشكلة التي نراها واضحة أيضًا في (لعبة الحبَّار)، وفي النوعيات المشابهة من المسلسلات التي تتباهى بنقد الرأسمالية بينما هي تفعل النقيض، أن النيوليبرالية ليست لعبة موت بقدر ما هي لعبة تآكل وأفول، عفن وتحلل تدريجي بطيء. إن ما يعتصر روح الإنسان على الكوكب ليس مواجهة خطر داهم ومميت، بقدر حربه اليومية لكي يطعم زوجته وأطفاله، بل ربما لو كان الخطر مميتًا لتحفزت له الإرادة البشرية ولاستيقظ الوعي الإنساني لمواجهته. إن الأقوى والأصدق دراميًا أن نرى الإنسان العادي في حربه لتوفير وجبته اليومية، بينما الأضعف هو اللجوء إلى تسخين الدراما وتحويل القضية إلى لعبة حياة أو موت على الطريقة الأمريكية. هذا ليس إلا تنفيسًا لمشاعر المتفرج في غير محله، وقطع للفتيل المشتعل قبل أن يصل الشرر إلى الديناميت.
ونختم هذه الملاحظة بحقيقة أن ما تجنيه «نتفليكس» الآن من بيع أزياء وإكسسوارات (لعبة الحبَّار) يفوق بعشرات الأضعاف مكاسبها المادية من المسلسل نفسه. هل يمكن، والحال كذلك، أن نتحدث عن (لعبة الحبَّار) بوصفه ناقدًا للرأسمالية، بينما هو على رأس تجارة العلامات الآن؟ تربح «نتفليكس» ظالمة ومظلومة، في شرها وخيرها، في حركتها وسكونها.
المثال الآخر عربي. حين بدأت «نتفليكس» إنتاجاتها الدرامية العربية، ماذا قدمت لنا؟ ما هي القيم العليا التي دعمتها؟ أعمال تفاقم الظلام، وتضاعف الجهل... مسلسلات عن الأشباح، والعفاريت، والشياطين، والأرواح الشريرة، ومساخر هزلية، وفيلم مقتبس عن فيلم إيطالي سابق، رأينا انفصالًا تامًا لسلوكيات شخصياته وهمومهم وقيمهم عن واقع الإنسان العربي الذي ما زال يرزح تحت ثلاثية الفقر والجهل والمرض، ومحاطًا من كل جانب بالأوهام والغفلة والسرابات. الشكل والتغليف جذاب، والعبوات جديدة وملونة وبراقة، لكن المتن والمضمون والقيم رثة ومُخوَّخة، تمامًا كما يموه الديلر مخدراته المغشوشة وهو يتخذ هيئة التاجر الشريف.
صديقنا النابه قال أيضًا: «إذا أردت أن تهين رجل أعمال فسمّه ديلر». يبدو أن هؤلاء هم من يحلون الآن محل أباطرة الصناعات الثقيلة الذين أفل زمانهم، كما حل الاقتصاد الترفيهي والخدمي محل الاقتصادين الصناعي والزراعي. ديلرز الإعلام الجدد لا يعبدون سوى نسبة المشاهدات، وهم على استعداد لإشعال أصابعهم العشرة شمعًا طمعًا في زيادة المشاهدات، لذلك تتسم الاختيارات الدرامية لتلك الشركات بالعشوائية، وعشوائيتها أكثرها انتهازية ■