ريتشارد إيستيس «نادِك»

ريتشارد إيستيس «نادِك»

خلال‭ ‬ستينيات‭ ‬القرن‭ ‬الماضي‭ ‬كان‭ ‬عالم‭ ‬الفن‭ ‬التشكيلي‭ ‬في‭ ‬أوربا‭ ‬وأمريكا‭ ‬قد‭ ‬أُتخم‭ ‬بأشياء‭ ‬غريبة‭ ‬تمامًا‭ ‬عن‭ ‬الفن‭ ‬القائم‭ ‬أساسًا‭ ‬على‭ ‬مهارة‭ ‬الرسم،‭ ‬مثل‭ ‬لوحات‭ ‬فونتانا‭ ‬الممزقة‭ ‬أو‭ ‬المثقوبة‭ ‬والخالية‭ ‬من‭ ‬أي‭ ‬رسم،‭ ‬أو‭ ‬الآلات‭ ‬الموسيقية‭ ‬المحروقة‭ ‬لأرمان،‭ ‬أو‭ ‬علب‭ ‬مساحيق‭ ‬الغسيل‭ ‬المرصوفة‭ ‬فوق‭ ‬بعضها‭ ‬بحد‭ ‬ذاتها‭ ‬كعمل‭ ‬فني‭... ‬ولأن‭ ‬كل‭ ‬فعل‭ ‬يؤدي‭ ‬إلى‭ ‬رد‭ ‬فعل،‭ ‬ظهرت‭ ‬في‭ ‬أمريكا‭ ‬مجموعة‭ ‬من‭ ‬الرسامين‭ ‬عملت‭ ‬على‭ ‬رد‭ ‬الفن‭ ‬إلى‭ ‬الالتزام‭ ‬بالرسم‭ ‬الدقيق‭ ‬حتى‭ ‬الحد‭ ‬المجاور‭ ‬لآلة‭ ‬التصوير‭ ‬الفوتوغرافي‭. ‬وأحد‭ ‬أبرز‭ ‬هؤلاء‭ ‬الفنانين‭ ‬ريتشارد‭ ‬إيستيس‭.‬

وُلد‭ ‬إيستيس‭ ‬عام‭ ‬1932م‭. ‬ودرس‭ ‬الفن‭ ‬في‭ ‬معهد‭ ‬شيكاغو‭ ‬الذي‭ ‬يضم‭ ‬واحدًا‭ ‬من‭ ‬أرقى‭ ‬المتاحف‭ ‬الجامعية‭ ‬في‭ ‬أمريكا‭ ‬ويحتوي‭ ‬على‭ ‬عدد‭ ‬كبير‭ ‬من‭ ‬لوحات‭ ‬الفنانين‭ ‬الواقعيين‭ ‬أمثال‭ ‬إدغار‭ ‬ديغاس‭ ‬وإدوارد‭ ‬هوبر‭ ‬اللذين‭ ‬كان‭ ‬لهما‭ ‬التأثير‭ ‬الأكبر‭ ‬عليه‭.‬

بعد‭ ‬تخرجه‭ ‬في‭ ‬المعهد‭ ‬عام‭ ‬1956م،‭ ‬عمل‭ ‬إيستيس‭ ‬لبضع‭ ‬سنوات‭ ‬في‭ ‬التصميم‭ ‬الطباعي‭ ‬لبعض‭ ‬وكالات‭ ‬الإعلان‭ ‬والمجلات‭. ‬وفي‭ ‬عام‭ ‬1966م‭ ‬كانت‭ ‬أوضاعه‭ ‬المادية‭ ‬قد‭ ‬تحسّنت‭ ‬إلى‭ ‬درجة‭ ‬سمحت‭ ‬له‭ ‬بالتفرغ‭ ‬للرسم،‭ ‬فاستقر‭ ‬في‭ ‬نيويورك،‭ ‬حيث‭ ‬وثّق‭ ‬كثيرًا‭ ‬من‭ ‬معالم‭ ‬المدينة‭ ‬وأبنيتها‭ ‬والحياة‭ ‬فيها‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬لوحات‭ ‬ذات‭ ‬واقعية‭ ‬فائقة،‭ ‬مستعينًا‭ ‬كغيره‭ ‬من‭ ‬فناني‭ ‬هذا‭ ‬التيّار‭ ‬بآلة‭ ‬التصوير‭ ‬الفوتوغرافي‭.‬

في‭ ‬سنواته‭ ‬الأولى‭ ‬من‭ ‬بدء‭ ‬مسيرته‭ ‬في‭ ‬مجال‭ ‬اللوحات‭ ‬الزيتية،‭ ‬كان‭ ‬إيستيس‭ ‬يرسم‭ ‬واجهات‭ ‬محلات‭ ‬ودواخلها‭ ‬فقط‭. ‬وعندما‭ ‬كان‭ ‬يرسم‭ ‬متجر‭ ‬زهور‭ ‬مثلًا‭ ‬كان‭ ‬يرسم‭ ‬كل‭ ‬زهرة‭ ‬من‭ ‬آلاف‭ ‬الزهور‭ ‬بدقة‭ ‬فائقة،‭ ‬إلى‭ ‬درجة‭ ‬أن‭ ‬تصغير‭ ‬حجم‭ ‬اللوحة‭ ‬في‭ ‬صورة‭ ‬فوتوغرافية‭ ‬كان‭ ‬يوحي‭ ‬للمشاهد‭ ‬بأنه‭ ‬أمام‭ ‬صورة‭ ‬فوتوغرافية‭ ‬فعلًا،‭ ‬لا‭ ‬شيء‭ ‬يدل‭ ‬على‭ ‬أنها‭ ‬رسم‭ ‬بالألوان‭ ‬الزيتية‭. ‬وبسرعة‭ ‬تطور‭ ‬اهتمام‭ ‬الفنان‭ ‬ليتركز‭ ‬على‭ ‬لمعان‭ ‬المعادن‭ ‬والزجاج‭ ‬في‭ ‬أبنية‭ ‬المدينة‭ ‬ومتاجرها،‭ ‬وما‭ ‬ينعكس‭ ‬عليهما‭ ‬من‭ ‬محيطهما‭ ‬من‭ ‬صور‭ ‬وأضواء‭ ‬وظلال‭ ‬تضيف‭ ‬إلى‭ ‬المشاهد‭ ‬عناصر‭ ‬غير‭ ‬موجودة‭ ‬أمام‭ ‬الرسام،‭ ‬ومن‭ ‬ثم‭ ‬راح‭ ‬يضيف‭ ‬إلى‭ ‬المتاجر‭ ‬والواجهات‭ ‬الزجاجية‭ ‬بعض‭ ‬الأبنية‭ ‬المجاورة،‭ ‬ووصل‭ ‬الأمر‭ ‬في‭ ‬ثمانينيات‭ ‬القرن‭ ‬الماضي‭ ‬إلى‭ ‬أن‭ ‬يرسم‭ ‬انطلاقًا‭ ‬من‭ ‬مكان‭ ‬داخلي‭ ‬عدة‭ ‬شوارع‭ ‬مجاورة‭ ‬متفرعة‭ ‬بزوايا‭ ‬مختلفة،‭ ‬ليصطحب‭ ‬المشاهد‭ ‬في‭ ‬إطلالة‭ ‬واسعة‭ ‬على‭ ‬المدينة،‭ ‬تتوفر‭ ‬فقط‭ ‬في‭ ‬اللوحة‭ ‬وتتعذر‭ ‬في‭ ‬الواقع‭.‬

تمثل‭ ‬لوحته‭ ‬‮«‬نادك‮»‬‭ ‬العائدة‭ ‬إلى‭ ‬عام‭ ‬1970م،‭ ‬منعطفًا‭ ‬مهمًا‭ ‬في‭ ‬مسيرته‭ ‬الفنية؛‭ ‬فهي‭ ‬الأولى‭ ‬التي‭ ‬رسم‭ ‬فيها‭ ‬شارعًا‭ ‬وأبنية‭ ‬بجوار‭ ‬واجهة‭ ‬تجارية‭. ‬و«نادك‮»‬‭ ‬هو‭ ‬اسم‭ ‬سلسلة‭ ‬مطاعم‭ ‬للوجبات‭ ‬السريعة،‭ ‬تأسست‭ ‬في‭ ‬أمريكا‭ ‬منتصف‭ ‬ثلاثينيات‭ ‬القرن‭ ‬العشرين،‭ ‬وزالت‭ ‬من‭ ‬الوجود‭ ‬في‭ ‬الثمانينيات‭. ‬وفي‭ ‬هذه‭ ‬اللوحة‭ ‬تحتل‭ ‬واجهة‭ ‬المطعم‭ ‬أكثر‭ ‬من‭ ‬تسعة‭ ‬أعشار‭ ‬المساحة،‭ ‬تاركة‭ ‬أقل‭ ‬من‭ ‬عُشرٍ‭ ‬واحد‭ ‬للشارع‭ ‬المجاور‭.  ‬لكن‭ ‬ما‭ ‬نراه‭ ‬من‭ ‬الشارع‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬زجاج‭ ‬المتجر،‭ ‬يمتد‭ ‬لنحو‭ ‬ثلث‭ ‬اللوحة‭ ‬تقريبًا‭. ‬فما‭ ‬استوقف‭ ‬الفنان‭ ‬في‭ ‬هذا‭ ‬المطعم‭ ‬هو‭ ‬واجهته؛‭ ‬إذ‭ ‬إن‭ ‬الزجاج‭ ‬يسمح‭ ‬بالرؤية‭ ‬بعيدًا،‭ ‬والمعدن‭ ‬اللمّاع‭ ‬يعكس‭ ‬أشياء‭ ‬إضافية‭ ‬من‭ ‬المحيط،‭ ‬حتى‭ ‬إن‭ ‬اللوحة‭ ‬تتضمن‭ ‬انعكاسات‭ ‬على‭ ‬المرايا‭ ‬الداخلية‭ ‬على‭ ‬بعد‭ ‬عشرين‭ ‬خطوة‭ ‬من‭ ‬المشاهد‭ ‬الواقف‭ ‬في‭ ‬الخارج‭. ‬الأمر‭ ‬الذي‭ ‬سمح‭ ‬للفنان‭ ‬برسم‭ ‬أشياء‭ ‬تعجز‭ ‬العين‭ ‬المجرّدة‭ ‬عن‭ ‬رؤيتها‭ ‬في‭ ‬الواقع‭ ‬لأسباب‭ ‬تتعلّق‭ ‬بالتركيز‭ ‬البصري‭ ‬والذهني‭. ‬وفي‭ ‬هذا‭ ‬ما‭ ‬يؤكد‭ ‬أن‭ ‬الفنان‭ ‬استخدم‭ ‬أكثر‭ ‬من‭ ‬صورة‭ ‬فوتوغرافية‭ ‬واحدة‭ ‬لرسم‭ ‬هذا‭ ‬المشهد‭.‬

النقاط‭ ‬المشتركة‭ ‬بين‭ ‬هذه‭ ‬اللوحة‭ ‬وباقي‭ ‬أعمال‭ ‬الرسام‭ ‬كثيرة،‭ ‬من‭ ‬أهمها‭ ‬ميله‭ ‬إلى‭ ‬المشهد‭ ‬الذي‭ ‬يتميز‭ ‬شكله‭ ‬الهندسي‭ ‬بالخطوط‭ ‬المستقيمة‭ ‬والمسطحات‭ ‬المستطيلة‭ ‬عموديًا‭ ‬وأفقيًا،‭ ‬على‭ ‬أن‭ ‬يكون‭ ‬على‭ ‬أعلى‭ ‬مستوى‭ ‬ممكن‭ ‬من‭ ‬الشفافية‭ ‬والقدرة‭ ‬وأن‭ ‬يعكس‭ ‬ما‭ ‬في‭ ‬محيطه‭ ‬وما‭ ‬هو‭ ‬خلف‭ ‬المشاهد،‭ ‬والحضور‭ ‬الجزئي‭ ‬لشخص‭ ‬غير‭ ‬مرئي‭ ‬بوضوح،‭ ‬وفي‭ ‬أحيان‭ ‬قليلة‭ ‬لأكثر‭ ‬من‭ ‬واحد،‭ ‬لكن‭ ‬دائمًا‭ ‬في‭ ‬الداخل‭. ‬أما‭ ‬الشوارع‭ ‬فتخلو‭ ‬عنده‭ ‬من‭ ‬الحركة‭ ‬والناس‭ ‬كأنها‭ ‬رُسمت‭ ‬فجر‭ ‬يوم‭ ‬عطلة،‭ ‬كما‭ ‬أن‭ ‬كل‭ ‬ما‭ ‬في‭ ‬لوحات‭ ‬إيستيس‭ ‬‮«‬نظيف‮»‬،‭ ‬فالزجاج‭ ‬لمّاع،‭ ‬ولا‭ ‬ذرّة‭ ‬غبار‭ ‬على‭ ‬المعدن،‭ ‬ولا‭ ‬نفايات‭ ‬في‭ ‬هذه‭ ‬الشوارع،‭ ‬حتى‭ ‬إن‭ ‬الثلج‭ ‬المألوف‭ ‬جدًا‭ ‬في‭ ‬نيويورك‭ ‬لم‭ ‬يظهر‭ ‬في‭ ‬أي‭ ‬من‭ ‬لوحاته‭ ‬‮«‬كي‭ ‬لا‭ ‬يشتت‭ ‬الذهن‭ ‬عن‭ ‬المكوّنات‭ ‬الحضرية‭ ‬الثابتة‭ ‬والدائمة‮»‬‭.‬

عند‭ ‬بدايات‭ ‬ظهور‭ ‬هذا‭ ‬التيّار‭ ‬الفني‭ ‬الذي‭ ‬أسماه‭ ‬البعض‭ ‬‮«‬الواقعية‭ ‬الفوتوغرافية‮»‬،‭ ‬تعرّض‭ ‬لنقد‭ ‬مُجحف؛‭ ‬فالبعض‭ ‬صوّره‭ ‬على‭ ‬أنه‭ ‬مجرد‭ ‬ردة‭ ‬فعل‭ ‬ضد‭ ‬التجريد‭ ‬والتيارات‭ ‬المعاصرة،‭ ‬كما‭ ‬أدّت‭ ‬القراءة‭ ‬السريعة‭ ‬لهذه‭ ‬الأعمال،‭ ‬إلى‭ ‬وصفها‭ ‬بأنها‭ ‬مجرد‭ ‬عملية‭ ‬نسخ‭ ‬تقنية‭ ‬للصور‭ ‬الفوتوغرافية،‭ ‬خالية‭ ‬من‭ ‬أي‭ ‬جهد‭ ‬ثقافي‭ ‬وفكري‭ ‬من‭ ‬الفنان‭. ‬أما‭ ‬اليوم‭ ‬فبتنا‭ ‬نعرف‭ ‬أن‭ ‬الجهد‭ ‬الذهني‭ ‬المبذول‭ ‬في‭ ‬التطلع‭ ‬إلى‭ ‬المشهد‭ ‬الواقعي‭ ‬ومعالجته‭ ‬لا‭ ‬يقل‭ ‬شأنًا‭ ‬عما‭ ‬هو‭ ‬عليه‭ ‬الحال‭ ‬في‭ ‬باقي‭ ‬التيارات‭ ‬الواقعية؛‭ ‬لذا‭ ‬يفضل‭ ‬البعض‭ ‬تسمية‭ ‬هذا‭ ‬الاتجاه‭ ‬الفني‭ ‬باسم‭ ‬‮«‬الواقعية‭ ‬الفائقة‮»‬‭ ‬بدلًا‭ ‬من‭ ‬‮«‬الواقعية‭ ‬الفوتوغرافية‮»‬‭ ‬■