ملامح من روايات طه حسين واستكشافاته المبكرة

ملامح من روايات طه حسين واستكشافاته المبكرة

لم‭ ‬يكن‭ ‬طه‭ ‬حسين‭ ‬بعيدًا‭ ‬عن‭ ‬روح‭ ‬الإبداع‭ ‬المتجددة‭ ‬والمجدّدة،‭ ‬سواء‭ ‬في‭ ‬كتاباته‭ ‬النقدية‭ ‬والثقافية‭ ‬والتاريخية،‭ ‬المتعددة‭ ‬والكثيرة،‭ ‬أو‭ ‬في‭ ‬أعماله‭ ‬التي‭ ‬تندرج‭ ‬في‭ ‬أنواع‭ ‬الأدب‭ ‬المستقرة‭ ‬المعروفة،‭ ‬الروائية‭ ‬بوجه‭ ‬خاص،‭ ‬مثل‭ (‬شجرة‭ ‬البؤس‭) ‬و‭(‬أديب‭) ‬و‭(‬دعاء‭ ‬الكروان‭) ‬و‭(‬الحب‭ ‬الضائع‭)‬،‭ ‬أو‭ ‬في‭ ‬أعماله‭ ‬التي‭ ‬ابتعثت‭ ‬أنواعًا‭ ‬أدبية‭ ‬قديمة‭ ‬مهجورة،‭ ‬وأضفت‭ ‬عليها‭ ‬وأضافت‭ ‬إليها‭ ‬أبعادًا‭ ‬جديدة،‭ ‬مثل‭ (‬جنة‭ ‬الشوك‭)‬،‭ ‬أو‭ ‬في‭ ‬أعماله‭ ‬التي‭ ‬خاضت‭ ‬مغامرات‭ ‬خاصة‭ ‬على‭ ‬سبيل‭ ‬اختبار‭ ‬حدود‭ ‬النوع‭ ‬الأدبي‭ ‬واجتراح‭ ‬قواعده‭ ‬الشائعة،‭ ‬فصاغت‭ ‬أشكالًا‭ ‬استنّت‭ ‬لنفسها‭ ‬سننًا‭ ‬خاصة‭ ‬بها،‭ ‬مثل‭ (‬الأيام‭) ‬و‭(‬المعذبون‭ ‬في‭ ‬الأرض‭) ‬و‭(‬جنة‭ ‬الحيوان‭. ‬

في‭ ‬كل‭ ‬هذه‭ ‬الأعمال،‭ ‬والتي‭ ‬كتب‭ ‬طه‭ ‬حسين‭ ‬أغلبها‭ ‬في‭ ‬فترات‭ ‬زمنية‭ ‬مبكرة،‭ ‬يمكن‭ ‬الوقوف‭ ‬على‭ ‬ملامح‭ ‬مميزة،‭ ‬تتأسس‭ ‬على‭ ‬روح‭ ‬إبداعية‭ ‬حرة،‭ ‬مغامرة،‭ ‬ظلت‭ ‬تسعى‭ ‬دائمًا‭ ‬إلى‭ ‬استكشاف‭ ‬مساحات‭ ‬للتعبير‭ ‬الأدبي‭ ‬لم‭ ‬تكن‭ ‬مطروقة‭ ‬في‭ ‬زمنها،‭ ‬وفي‭ ‬كل‭ ‬هذه‭ ‬الأعمال‭ ‬أيضًا‭ ‬يمكن‭ ‬ملاحظة‭ ‬معالم‭ ‬سوف‭ ‬تتنامى‭ ‬وتتناسل‭ ‬ويكون‭ ‬لها‭ ‬حضور‭ ‬كبير‭ ‬مشهود‭ ‬في‭ ‬مسيرة‭ ‬الكتابة‭ ‬الأدبية‭ ‬العربية‭ ‬التالية‭ ‬عند‭ ‬عدد‭ ‬كبير‭ ‬من‭ ‬الكتّاب‭ ‬والكاتبات‭.‬

في‭ ‬هذا‭ ‬الحيز‭ ‬يمكن‭ ‬تقديم‭ ‬إشارات‭ ‬حول‭ ‬بعض‭ ‬هذه‭ ‬الملامح‭ ‬والمعالم‭ ‬في‭ ‬روايات‭ ‬طه‭ ‬حسين‭.‬

 

شجرة‭ ‬البؤس‭‬

انطلقت‭ ‬رواية‭ (‬شجرة‭ ‬البؤس‭) ‬من‭ ‬اهتمام‭ ‬بتناول‭ ‬عالم‭ ‬رحب،‭ ‬لاحت‭ ‬حدوده‭ ‬الواسعة‭ ‬منذ‭ ‬إهداء‭ ‬الرواية‭: ‬‮«‬هذه‭ ‬صورة‭ ‬للحياة‭ ‬في‭ ‬إقليم‭ ‬من‭ ‬أقاليم‭ ‬مصر‭ ‬آخر‭ ‬القرن‭ ‬الماضي‭ (‬يقصد‭ ‬القرن‭ ‬التاسع‭ ‬عشر‭) ‬وأول‭ ‬هذا‭ ‬القرن‭ (‬العشرين‭)‬‮»‬‭. ‬وفضلًا‭ ‬عن‭ ‬هذا‭ ‬الامتداد‭ ‬الرحب،‭ ‬اغتنى‭ ‬هذا‭ ‬التناول‭ ‬بنوع‭ ‬من‭ ‬‮«‬الامتلاء‭ ‬الزمني‮»‬،‭ ‬الذي‭ ‬جعل‭ ‬سرد‭ ‬هذه‭ ‬الرواية‭ ‬محتشدًا‭ ‬بتفاصيل‭ ‬وإحالات‭ ‬وإشارات‭ ‬مقرونة‭ ‬بالفترة‭ ‬التاريخية‭ ‬المرجعية‭ ‬التي‭ ‬توقفت‭ ‬عندها‭ ‬وقائع‭ ‬الرواية،‭ ‬حيث‭ ‬نشهد‭ ‬صور‭ ‬أسواق‭ ‬الرقيق‭ ‬والجواري‭ ‬في‭ ‬القاهرة،‭ ‬وأشكال‭ ‬التجارة‭ ‬وألوانها،‭ ‬ووسائل‭ ‬المواصلات‭ ‬المستخدمة‭ ‬حينذاك،‭ ‬وسطوة‭ ‬الأعراف‭ ‬والتقاليد‭ ‬التي‭ ‬تفوق‭ ‬قوة‭ ‬القانون‭ ‬المكتوب،‭ ‬وثقافة‭ ‬الريف‭ ‬في‭ ‬مواجهة‭ ‬ثقافة‭ ‬المدن،‭ ‬وأشكال‭ ‬التديّن‭ ‬الشعبي‭ ‬والإيمان‭ ‬بأولياء‭ ‬الله‭ ‬الصالحين،‭ ‬وتمثيلات‭ ‬‮«‬المركزية‮»‬‭ ‬الصارخة‭ ‬التي‭ ‬حكمت‭ ‬علاقة‭ ‬العاصمة‭ ‬القاهرة‭ ‬بالريف‭ ‬المصري،‭ ‬وخصوصًا‭ ‬بالصعيد‭... ‬كما‭ ‬نشهد‭ ‬في‭ ‬هذه‭ ‬الرواية‭ ‬نقلات‭ ‬كبيرة‭ ‬بين‭ ‬عدد‭ ‬كبير‭ ‬من‭ ‬الشخصيات‭ ‬الفردية‭ ‬والجماعية‭. ‬لكن‭ ‬إلى‭ ‬جانب‭ ‬هذا‭ ‬الاهتمام‭ ‬بحضور‭ ‬الزمن‭ ‬التاريخي‭ ‬المرجعي،‭ ‬هناك‭ ‬أيضًا‭ ‬ما‭ ‬يلوح‭ ‬عابرًا‭ ‬للزمن،‭ ‬حيث‭ ‬تطرح‭ ‬الرواية‭ ‬قضايا‭ ‬عدة،‭ ‬أبدية‭ ‬تقريبًا،‭ ‬موصولة‭ ‬بالحب‭ ‬والموت‭ ‬والبحث‭ ‬عن‭ ‬العدل‭ ‬والتوق‭ ‬إلى‭ ‬الحرية‭ ‬الفردية‭ ‬والجماعية‭.‬

فضلًا‭ ‬عن‭ ‬هذا،‭ ‬استشرفت‭ ‬هذه‭ ‬الرواية،‭ ‬في‭ ‬سردها‭ ‬وبنائها،‭ ‬ما‭ ‬جعلها‭ ‬تجتاز‭ ‬تاريخ‭ ‬كتابتها‭ ‬إلى‭ ‬تواريخ‭ ‬لاحقة‭.‬

على‭ ‬مستوى‭ ‬سرد‭ ‬الرواية‭ ‬يمكن‭ ‬التقاط‭ ‬سمات‭ ‬بعينها،‭ ‬منها‭ ‬‮«‬الحوارية‮»‬‭ ‬التي‭ ‬جعلت‭ ‬‮«‬حكي‮»‬‭ ‬هذه‭ ‬الرواية‭ ‬يحتفي‭ ‬بقيمة‭ ‬التعدد،‭ ‬وقد‭ ‬تمثّل‭ ‬هذا‭ ‬التعدد‭ ‬في‭ ‬العبارات‭ ‬التي‭ ‬تعقد‭ ‬أواصر‭ ‬وروابط‭ ‬بين‭ ‬الراوي‭ ‬الذي‭ ‬يحكي‭ ‬والمروي‭ ‬عليه‭ ‬الذي‭ ‬يتم‭ ‬توجيه‭ ‬الحكي‭ ‬إليه،‭ ‬كما‭ ‬تمثل‭ ‬هذا‭ ‬التعدد‭ ‬أيضًا‭ ‬في‭ ‬تنوع‭ ‬مستويات‭ ‬السرد‭ ‬نفسه،‭ ‬خلال‭ ‬حركته‭ ‬الدائبة‭ ‬بين‭ ‬اعتماد‭ ‬الوصف‭ ‬المحايد‭ ‬والوصف‭ ‬غير‭ ‬المحايد،‭ ‬ومراوحته‭ ‬بين‭ ‬الرصد‭ ‬المفصّل‭ ‬أحيانًا‭ ‬والمختصر‭ ‬أحيانًا‭ ‬أخرى،‭ ‬وانتقالاته‭ ‬بين‭ ‬رصد‭ ‬الوقائع‭ ‬الوقتية‭ ‬العابرة‭ ‬والاحتفاء‭ ‬بعبارات‭ ‬الحكمة‭ ‬التي‭ ‬تتخطى‭ ‬هذه‭ ‬الوقائع‭: ‬‮«‬ومن‭ ‬الحماقة‭ (..‬‭.) ‬أن‭ ‬يحاول‭ ‬محاول‭ ‬إحصاء‭ ‬الأيام‭ ‬وهي‭ ‬تتتابع‭ ‬ويقفو‭ ‬بعضها‭ ‬أثر‭ ‬بعض،‭ ‬لا‭ ‬يدري‭ ‬أحد‭ ‬متى‭ ‬ابتدأت،‭ ‬ولا‭ ‬يعلم‭ ‬أحد‭ ‬متى‭ ‬تنتهي‮»‬‭. ‬وإلى‭ ‬جانب‭ ‬سمة‭ ‬التعدد‭ ‬الماثلة‭ ‬في‭ ‬سرد‭ ‬هذه‭ ‬الرواية،‭ ‬نهض‭ ‬هذا‭ ‬السرد‭ ‬على‭ ‬وعي‭ ‬بما‭ ‬يلائم‭ ‬لغة‭ ‬الفن‭ ‬الروائي‭ ‬من‭ ‬صياغات،‭ ‬فتحرر‭ ‬إلى‭ ‬حد‭ ‬كبير‭ ‬من‭ ‬جماليات‭ ‬البلاغة‭ ‬التقليدية،‭ ‬الزخرفية‭ ‬أحيانًا،‭ ‬التي‭ ‬حكمت‭ ‬عددًا‭ ‬من‭ ‬الأعمال‭ ‬الروائية‭ ‬المبكرة‭ ‬عند‭ ‬كتاب‭ ‬آخرين،‭ ‬كما‭ ‬أن‭ ‬هذا‭ ‬السرد،‭ ‬المرتبط‭ ‬بالراوي،‭ ‬وقف‭ ‬على‭ ‬مسافة‭ ‬ملحوظة‭ ‬من‭ ‬التعبيرات‭ ‬التي‭ ‬تتردد‭ ‬في‭ ‬حوارات‭ ‬الشخصيات‭ ‬وأحاديثها‭.‬

من‭ ‬وجهة‭ ‬أخرى،‭ ‬قدمت‭ ‬هذه‭ ‬الرواية‭ ‬نموذجًا‭ ‬مبكرًا‭ ‬لرواية‭ ‬الأجيال،‭ ‬بأركانها‭ ‬المعروفة،‭ ‬من‭ ‬حيث‭ ‬التوقف‭ ‬عند‭ ‬المنعطفات‭ ‬الرئيسية‭ ‬في‭ ‬دورة‭ ‬حياة‭ ‬الإنسان‭: ‬الولادة‭ ‬والنموّ‭ ‬والزواج‭ ‬والإنجاب‭ ‬والموت،‭ ‬وما‭ ‬يتصل‭ ‬بهذه‭ ‬الدورة‭ ‬من‭ ‬أشكال‭ ‬العلاقات‭ ‬بين‭ ‬الآباء‭ ‬والأمهات‭ ‬والأبناء،‭ ‬ومن‭ ‬حيث‭ ‬حضور‭ ‬الزمن‭ ‬الذي‭ ‬يمثل‭ ‬مروره‭ ‬وما‭ ‬يجلبه‭ ‬من‭ ‬تغيرات‭ ‬وتحولات‭ ‬اهتمامًا‭ ‬روائيًا‭ ‬أساسيًا‭... ‬وهذا‭ ‬النموذج‭ ‬المبكر‭ ‬في‭ ‬رواية‭ ‬الأجيال،‭ ‬التي‭ ‬قدمته‭ (‬شجرة‭ ‬البؤس‭)‬،‭ ‬سوف‭ ‬يمتد‭ ‬ويتنامى‭ ‬في‭ ‬مسيرة‭ ‬كتاب‭ ‬كثيرين‭ ‬تالين،‭ ‬منهم‭ ‬نجيب‭ ‬محفوظ،‭ ‬خصوصًا‭ ‬مع‭ ‬رواياته‭ ‬الكبيرة‭: (‬الثلاثية‭) ‬و‭(‬أولاد‭ ‬حارتنا‭) ‬و‭(‬الحرافيش‭) ‬و‭(‬حديث‭ ‬الصباح‭ ‬والمساء‭)... ‬وطبعًا‭ ‬سوف‭ ‬يمتد‭ ‬ويتنامى‭ ‬أيضًا‭ ‬خلال‭ ‬عدد‭ ‬هائل‭ ‬من‭ ‬الروايات‭ ‬المصرية‭ ‬والعربية‭.‬

 

‭‬أديب‭

مثلت‭ ‬هذه‭ ‬الرواية،‭ ‬على‭ ‬أكثر‭ ‬من‭ ‬مستوى،‭ ‬حلقة‭ ‬مهمة‭ ‬ومبكرة‭ ‬في‭ ‬سلسلة،‭ ‬بل‭ ‬في‭ ‬سلاسل،‭ ‬سوف‭ ‬تمتد‭ ‬وتتنامى‭ ‬كذلك‭ ‬في‭ ‬مسيرة‭ ‬الرواية‭ ‬العربية‭ ‬التالية‭. ‬فهذه‭ ‬الرواية،‭ ‬في‭ ‬بعض‭ ‬فصولها،‭ ‬من‭ ‬ناحية،‭ ‬تتناول‭ ‬تجربة‭ ‬راويها‭ ‬المتكلم‭ ‬الذي‭ ‬يتقاطع‭ ‬عالمه‭ ‬مع‭ ‬عالم‭ ‬طه‭ ‬حسين‭ ‬نفسه،‭ ‬مما‭ ‬يجعل‭ ‬الرواية‭ ‬تنهل‭ ‬من‭ ‬منابع‭ ‬‮«‬الرواية‭ ‬السيرذاتية‮»‬،‭ ‬التي‭ ‬سوف‭ ‬تلوح‭ ‬أشبه‭ ‬بـ«خط‭ ‬إنتاج‮»‬‭ ‬غزير‭ ‬في‭ ‬الرواية‭ ‬العربية،‭ ‬شارك‭ ‬ويشارك‭ ‬فيه‭ ‬عدد‭ ‬كبير‭ ‬جدًا‭ ‬من‭ ‬الكتاب،‭ ‬خلال‭ ‬العقود‭ ‬الأخيرة‭ ‬القريبة‭ ‬من‭ ‬زمننا‭ ‬هذا‭. ‬والرواية‭ ‬من‭ ‬ناحية‭ ‬أخرى‭ ‬تهتم‭ ‬في‭ ‬بعض‭ ‬فصولها‭ ‬بقضية‭ ‬مهمة‭: ‬علاقة‭ ‬الشرق‭ ‬والغرب،‭ ‬وتختار‭ ‬تجسيد‭ ‬هذه‭ ‬العلاقة‭ ‬خلال‭ ‬تجربة‭ ‬حب‭ ‬تجمع‭ ‬بين‭ ‬رجل‭ ‬شرقي‭ ‬وامرأة‭ ‬غربية‭. ‬وهي‭ ‬بهذا‭ ‬الاهتمام‭ ‬وهذا‭ ‬الاختيار‭ ‬تمثل‭ ‬أيضًا‭ ‬حلقة‭ ‬مبكرة‭ ‬في‭ ‬سلسلة‭ ‬سوف‭ ‬تشهد‭ ‬حلقات‭ ‬أخرى‭ ‬متلاحقة،‭ ‬في‭ ‬روايات‭ ‬عربية‭ ‬كثيرة،‭ ‬توقفت‭ ‬عند‭ ‬القضية‭ ‬نفسها‭ ‬وعند‭ ‬طريقة‭ ‬تجسيدها‭ ‬نفسها‭: (‬عصفور‭ ‬من‭ ‬الشرق‭) ‬توفيق‭ ‬الحكيم،‭ (‬قنديل‭ ‬أم‭ ‬هاشم‭) ‬يحيى‭ ‬حقي،‭ (‬الحي‭ ‬اللاتيني‭) ‬سهيل‭ ‬إدريس،‭ (‬الساخن‭ ‬والبارد‭) ‬فتحي‭ ‬غانم،‭ (‬موسم‭ ‬الهجرة‭ ‬إلى‭ ‬الشمال‭) ‬الطيب‭ ‬صالح،‭ (‬السيدة‭ ‬فيينا‭) ‬ثم‭ (‬نيويورك‭ ‬80‭) ‬يوسف‭ ‬إدريس،‭ (‬الحب‭ ‬في‭ ‬المنفى‭) ‬بهاء‭ ‬طاهر،‭ ‬فضلًا‭ ‬عن‭ ‬عدد‭ ‬كبير‭ ‬من‭ ‬روايات‭ ‬الحبيب‭ ‬السالمي‭.‬

 

رجل‭ ‬شرقي‭ ‬في‭ ‬باريس

تصوّر‭ ‬الرواية‭ ‬رحلة‭ ‬الرجل‭ ‬الشرقي‭ ‬الذي‭ ‬ينتقل‭ ‬إلى‭ ‬باريس‭ ‬طلبًا‭ ‬للعلم،‭ ‬لكن‭ ‬تجربته‭ ‬هناك‭ ‬سوف‭ ‬تجاوز‭ ‬حدود‭ ‬تلقي‭ ‬العلم،‭ ‬لتنفتح‭ ‬على‭ ‬أبعاد‭ ‬جسدية‭ ‬وعاطفية‭ ‬وثقافية‭ ‬وحضارية‭. ‬يقارن‭ ‬هذا‭ ‬الشاب،‭ ‬غير‭ ‬مرة،‭ ‬بين‭ ‬حياته‭ ‬الجديدة‭ ‬في‭ ‬فرنسا‭ ‬وحياته‭ ‬القديمة‭ ‬بمصر‭ ‬عبر‭ ‬تفاصيل‭ ‬كثيرة‭ ‬يسوقها‭ ‬لراوي‭ ‬الرواية‭: ‬‮«‬أين‭ ‬هذا‭ ‬السرير‭ (‬الفرنسي‭) ‬الوثير‭ ‬الذي‭ ‬أتقنت‭ ‬تسويته‭ ‬مما‭ ‬ألفت‭ ‬في‭ ‬دارنا‭ ‬في‭ ‬ريف‭ ‬مصر‭ ‬أو‭ ‬في‭ ‬بيتي‭ ‬في‭ ‬القاهرة‭ (...) ‬لقد‭ ‬خيل‭ ‬إلي‭ ‬أنّي‭ ‬لا‭ ‬أنام‭ ‬على‭ ‬شيء‭ ‬أو‭ ‬أنّي‭ ‬أنام‭ ‬على‭ ‬فراش‭ ‬من‭ ‬الزئبق‮»‬،‭ ‬ويوازن‭ ‬بين‭ ‬الحياة‭ ‬عمومًا‭ ‬في‭ ‬باريس‭ ‬والحياة‭ ‬في‭ ‬مصر‭: ‬‮«‬الحياة‭ ‬في‭ ‬مصر‭ ‬هي‭ ‬الحياة‭ ‬في‭ ‬أعماق‭ ‬الهرم‭ (...) ‬الحياة‭ ‬في‭ ‬باريس‭ ‬هي‭ ‬الحياة‭ ‬بعد‭ ‬أن‭ ‬تخرج‭ ‬من‭ ‬هذه‭ ‬الأعماق‮»‬،‭ ‬كما‭ ‬يمايز‭ ‬بين‭ ‬النساء‭ ‬في‭ ‬باريس‭ ‬ونساء‭ ‬مصر،‭ ‬بين‭ ‬‮«‬فرنند‮»‬‭ ‬الخادمة‭ ‬الفرنسية‭ ‬وزوجته‭ ‬‮«‬حميدة‮»‬‭ ‬التي‭ ‬عاش‭ ‬معها‭ ‬فترة‭ ‬في‭ ‬مصر،‭ ‬ثم‭ ‬يشير‭ ‬إلى‭ ‬تجربته‭ ‬مع‭ ‬‮«‬إلين‮»‬،‭ ‬المرأة‭ ‬التي‭ ‬جعلته،‭ ‬في‭ ‬مرحلة‭ ‬من‭ ‬مراحل‭ ‬العلاقة‭ ‬التي‭ ‬جمعت‭ ‬بينهما،‭ ‬ينفصل‭ ‬عن‭ ‬ماضيه‭ ‬وعن‭ ‬مستقبله‭ ‬ليستغرق‭ ‬في‭ ‬حاضر‭ ‬حافل‭ ‬بالغوايات،‭ ‬ينتفي‭ ‬معه‭ ‬إحساسه‭ ‬بكل‭ ‬زمن،‭ ‬فلا‭ ‬يكترث‭ ‬سوى‭ ‬للحظات‭ ‬المسروقة‭ ‬من‭ ‬المساء‭ ‬القريب‭ ‬في‭ ‬باريس‭ ‬المضطربة‭ ‬‮«‬فمن‭ ‬يدري‭ ‬عمّ‭ ‬يسفر‭ ‬هذا‭ ‬الصباح؟‭!‬‮»‬،‭ ‬كما‭ ‬يشير‭ ‬مرارًا‭ ‬إلى‭ ‬عالم‭ ‬اللهو‭ ‬والعبث‭ ‬واللذة‭ ‬الذي‭ ‬انغمس‭ ‬فيه‭: ‬‮«‬كان‭ ‬شيطان‭ ‬اللهو‭ ‬قد‭ ‬ملأ‭ ‬قلبي‭ ‬ونفسي‭ ‬وركب‭ ‬كتفي‮»‬،‭ ‬مما‭ ‬جعله‭ ‬ينصرف‭ ‬عن‭ ‬العلم‭ ‬ويغرق‭ ‬في‭ ‬لجّة‭ ‬إلين،‭ ‬وذلك‭ ‬كله‭ ‬قبل‭ ‬أن‭ ‬تتقطع‭ ‬الأسباب‭ ‬بينه‭ ‬وبينها،‭ ‬عندما‭ ‬تصله‭ ‬منها‭ ‬رسالة‭ ‬القطيعة‭.‬

إلى‭ ‬جانب‭ ‬هذا‭ ‬التناول‭ ‬المبكر‭ ‬الذي‭ ‬يجسد‭ ‬المسافة‭ ‬بين‭ ‬الشرق‭ ‬والغرب‭ ‬خلال‭ ‬علاقة‭ ‬حب‭ ‬بين‭ ‬رجل‭ ‬شرقي‭ ‬وامرأة‭ ‬غربية،‭ ‬تتأسس‭ ‬الرواية‭ ‬على‭ ‬بنية‭ ‬‮«‬الرسائل‮»‬‭ ‬التي‭ ‬كانت‭ ‬حاضرة‭ ‬بوضوح‭ ‬في‭ ‬عدد‭ ‬كبير‭ ‬من‭ ‬الروايات‭ ‬الأوروبية‭ ‬خلال‭ ‬القرن‭ ‬الثامن‭ ‬عشر‭. ‬وقد‭ ‬رأي‭ ‬ميلان‭ ‬كونديرا،‭ ‬الروائي‭ ‬المعروف،‭ ‬أن‭ ‬تلك‭ ‬البنية‭ ‬أتاحت‭ ‬للروائيين‭ ‬في‭ ‬تلك‭ ‬الفترة‭ ‬‮«‬حرية‭ ‬شكلية‭ ‬كبيرة‭ ‬للغاية،‭ ‬لأن‭ ‬الرسالة‭ ‬يمكنها‭ ‬استيعاب‭ ‬كل‭ ‬شيء‭ ‬بشكل‭ ‬طبيعي‭ ‬جدا‭: ‬تأملات،‭ ‬واعترافات،‭ ‬وذكريات،‭ ‬وتحليلات‭ ‬سياسية،‭ ‬وأدبية‭... ‬إلخ‮»‬‭ (‬وقد‭ ‬ذهب‭ ‬كونديرا،‭ ‬في‭ ‬هذه‭ ‬الوجهة،‭ ‬إلى‭ ‬ما‭ ‬يشبه‭ ‬الإحساس‭ ‬بالتأسي‭ ‬على‭ ‬الانقطاع‭ ‬عن‭ ‬هذا‭ ‬الشكل‭ ‬الفني‭ ‬الغنيّ‭ ‬في‭ ‬روايات‭ ‬القرن‭ ‬التاسع‭ ‬عشر‭ ‬وما‭ ‬بعده،‭ ‬ورأى‭ ‬أن‭ ‬هذا‭ ‬الانقطاع‭ ‬يمثل‭ ‬‮«‬إحدى‭ ‬الفرص‭ ‬الضائعة‮»‬‭ ‬في‭ ‬تاريخ‭ ‬الرواية‭). ‬

تعتمد‭ ‬رواية‭ (‬أديب‭) ‬هذه‭ ‬البنية‭ ‬اعتمادًا‭ ‬أساسيًا،‭ ‬فعبر‭ ‬الرسائل‭ ‬المتبادلة‭ ‬بالرواية‭ ‬يتجسد‭ ‬أمامنا‭ ‬كل‭ ‬أحد‭ ‬وكل‭ ‬شيء‭: ‬الشخصيات‭ ‬والوقائع‭ ‬والتجارب‭ ‬والأزمنة‭ ‬والأماكن‭. ‬والرواية‭ ‬بذلك‭ ‬تمثل‭ ‬تجربة‭ ‬مبكرة،‭ ‬سوف‭ ‬تتنامى‭ ‬أيضا‭ ‬في‭ ‬عدد‭ ‬ملحوظ‭ ‬من‭ ‬الروايات‭ ‬العربية‭ ‬التي‭ ‬كتبت‭ ‬خلال‭ ‬العقود‭ ‬الأخيرة‭ (‬ومنها‭ ‬روايات‭: ‬‮«‬الرسائل‮»‬‭ ‬لمصطفى‭ ‬ذكري،‭ ‬و«عشاق‭ ‬خائبون‮»‬‭ ‬لإيهاب‭ ‬عبدالحميد،‭ ‬و«بريد‭ ‬الليل‮»‬‭ ‬لهدى‭ ‬بركات،‭ ‬و‮«‬366‮»‬‭ ‬لأمير‭ ‬تاج‭ ‬السر،‭ ‬و«ملك‭ ‬اللوتو‮»‬‭ ‬لجهاد‭ ‬بزي‭ ‬وبشير‭ ‬عزمي،‭ ‬و«لأن‭ ‬الأشياء‭ ‬تحدث‮»‬‭ ‬لحاتم‭ ‬حافظ،‭ ‬و«سقف‭ ‬الكفاية‮»‬‭ ‬لمحمد‭ ‬حسن‭ ‬علوان،‭ ‬و«رسائل‭ ‬لم‭ ‬تعد‭ ‬تكتب‮»‬‭ ‬لهدى‭ ‬توفيق‭.‬

 

‭‬دعاء‭ ‬الكروان‭‬

التقطت‭ ‬رواية‭ (‬دعاء‭ ‬الكروان‭) ‬التي‭ ‬كتبت‭ ‬عام‭ ‬1934‭ ‬عالمًا‭ ‬‮«‬بينيّا‮»‬،‭ ‬إن‭ ‬صح‭ ‬التعبير،‭ ‬تتداخل‭ ‬فيه‭ ‬ملامح‭ ‬البادية‭ ‬مع‭ ‬ملامح‭ ‬الريف‭ ‬في‭ ‬مصر‭. ‬واتصل‭ ‬هذا‭ ‬العالم‭ ‬بفترة‭ ‬مرجعية‭ ‬تاريخية‭ ‬مبكرة،‭ ‬حيث‭ ‬الإشارات‭ ‬إلى‭ ‬الأوبئة‭ ‬التي‭ ‬كانت‭ ‬تهاجم‭ ‬القرى‭ ‬والمدن‭ ‬المصرية؛‭ ‬مثل‭ ‬الطاعون‭ ‬أو‭ ‬الكوليرا‭.‬
في‭ ‬هذا‭ ‬العالم‭ ‬توقفت‭ ‬الرواية‭ ‬عند‭ ‬شخصيات‭ ‬تواجه‭ ‬وطأة‭ ‬التهميش‭ ‬على‭ ‬أكثر‭ ‬من‭ ‬مستوى؛‭ ‬فأغلب‭ ‬الشخصيات‭ ‬المحورية‭ ‬في‭ ‬هذه‭ ‬الرواية‭ ‬من‭ ‬طبقة‭ ‬‮«‬الخدم‮»‬،‭ ‬ومن‭ ‬أصول‭ ‬بدوية‭ ‬وريفية،‭ ‬فضلًا‭ ‬عن‭ ‬أنهن‭ ‬من‭ ‬النساء‭. ‬تتقصى‭ ‬الرواية‭ ‬أشكال‭ ‬معاناة‭ ‬هذه‭ ‬الشخصيات‭ ‬بنبرة‭ ‬سرد‭ ‬تنطوي‭ ‬على‭ ‬تعاطف‭ ‬واضح‭ ‬مع‭ ‬النساء‭ ‬بوجه‭ ‬خاص؛‭ ‬فهن‭ ‬نساء‭ ‬تعسات،‭ ‬لا‭ ‬يعرفن‭ ‬الاستقرار،‭ ‬‮«‬يكابدن‭ ‬الحياة،‭ ‬يعشن‭ ‬كأغوال‭ (‬غيلان‭)‬‮»‬،‭ ‬وهن‭ ‬‮«‬مشردات‭ ‬يستقبلن‭ ‬الحياة‭ ‬جاهلات‭ ‬بها‭ ‬غافلات‭ ‬عنها،‭ ‬والحياة‭ ‬تلعب‭ ‬بهن،‭ ‬تقذفهن‭ ‬من‭ ‬مكان‭ ‬إلى‭ ‬مكان،‭ ‬وتنقلهن‭ ‬من‭ ‬شرّ‭ ‬إلى‭ ‬شر‮»‬‭. ‬وإلى‭ ‬جانب‭ ‬هذا‭ ‬الرصد‭ ‬الجمعي‭ ‬تتوقف‭ ‬وقائع‭ ‬الرواية‭ ‬عند‭ ‬شخصيات‭ ‬بعينها،‭ ‬تخوض‭ ‬تجارب‭ ‬مؤلمة‭ ‬وتدافع‭ ‬شرًا‭ ‬متربصًا‭ ‬محيطًا‭: ‬آمنة‭ (‬الراوية‭)‬،‭ ‬وأختها‭ ‬هنادي،‭ ‬وهما‭ ‬من‭ ‬ضحايا‭ ‬الجشع‭ ‬الجنسي‭ ‬والطبقي‭.‬

خلال‭ ‬سرد‭ ‬الرواية‭ ‬المصوغ‭ ‬بصوت‭ ‬‮«‬آمنة‮»‬‭ (‬وقد‭ ‬يثير‭ ‬جمال‭ ‬هذا‭ ‬السرد‭ ‬تساؤلًا‭ ‬عن‭ ‬مدى‭ ‬ملاءمته‭ ‬لهذه‭ ‬الشخصية‭)‬،‭ ‬نتعرّف‭ ‬أبعادًا‭ ‬كثيرة‭ ‬في‭ ‬هذا‭ ‬العالم‭ ‬الذي‭ ‬تحكمه،‭ ‬ظاهريًا،‭ ‬مجموعة‭ ‬من‭ ‬القيم‭ ‬تتناقض‭ ‬مع‭ ‬ما‭ ‬يحدث‭ ‬فيه‭ ‬من‭ ‬سلوكات‭ ‬وأفعال،‭ ‬ونشهد‭ ‬في‭ ‬هذا‭ ‬العالم‭ ‬براثن‭ ‬ومخالب‭ ‬شتى،‭ ‬معلنة‭ ‬ومستترة،‭ ‬تنهش‭ ‬النساء‭ ‬أول‭ ‬من‭ ‬تنهش‭. ‬وإذا‭ ‬نجت‭ ‬إحداهن‭ ‬من‭ ‬هذه‭ ‬البراثن‭ ‬والمخالب‭ ‬تكون‭ ‬نجاتها‭ ‬بطرائق‭ ‬لا‭ ‬تخلو‭ ‬من‭ ‬صعوبات‭ ‬وتحايل‭ (‬مثل‭ ‬‮«‬زنوبة‮»‬‭ ‬الراقصة‭ ‬القديمة،‭ ‬مخالطة‭ ‬الرجال‭ ‬الآن،‭ ‬التاجرة‭ ‬والمرابية،‭ ‬ومثل‭ ‬‮«‬خضرة‮»‬،‭ ‬التاجرة‭ ‬والمرابية‭ ‬أيضًا،‭ ‬و«نفيسة‮»‬‭ ‬صديقة‭ ‬كل‭ ‬النساء،‭ ‬العارفة‭ ‬بأسرارهن‭)... ‬لكن‭ ‬الرواية‭ ‬لا‭ ‬تضع‭ ‬هؤلاء‭ ‬الناجيات‭ ‬في‭ ‬مركز‭ ‬الاهتمام،‭ ‬فقلب‭ ‬هذا‭ ‬المركز‭ ‬تشغله‭ ‬الضحايا‭ ‬التعسات،‭ ‬وعلى‭ ‬رأسهن‭ ‬هنادي‭ ‬وآمنة‭.‬

فضلًا‭ ‬عن‭ ‬اهتمام‭ ‬الرواية‭ ‬بالنساء‭ ‬المهمشات،‭ ‬وما‭ ‬يواجهنَه‭ ‬من‭ ‬عنف‭ ‬ومن‭ ‬قيود‭ ‬وضغوط‭ ‬شتى‭ (‬وسوف‭ ‬يتنامى‭ ‬هذا‭ ‬الاهتمام‭ ‬بشكل‭ ‬مطرد‭ ‬خلال‭ ‬مسيرة‭ ‬الرواية‭ ‬العربية‭ ‬التالية‭)‬،‭ ‬فإن‭ (‬دعاء‭ ‬الكروان‭) ‬تمضي‭ ‬في‭ ‬وجهة‭ ‬خاصة‭ ‬لتحقيق‭ ‬حوارية‭ ‬مميزة‭. ‬الصلة‭ ‬بين‭ ‬الراوي‭ (‬الراوية‭ ‬هنا‭) ‬والمروي‭ ‬عليه‭ ‬تتحقق‭ ‬خلال‭ ‬مناجاة‭ ‬آمنة‭ ‬التي‭ ‬تتردد‭ ‬في‭ ‬مواضع‭ ‬كثيرة‭ ‬بالرواية،‭ ‬موجّهة‭ ‬لطائر‭ ‬الكروان‭: ‬‮«‬لبيك‭ ‬لبيك‭ ‬أيها‭ ‬الطائر‭ ‬العزيز‭... ‬إلخ‮»‬،‭ ‬كما‭ ‬يتنوع‭ ‬حكي‭ ‬آمنة‭ ‬أيضًا،‭ ‬بين‭ ‬صوتها‭ ‬الفردي‭ ‬الذي‭ ‬يبوح‭ ‬بمعاناتها‭ ‬الخاصة‭ ‬في‭ ‬مواجهة‭ ‬العالم‭ ‬الوحشي‭:‬‮«‬لا‭ ‬أملك‭ ‬إلا‭ ‬نفسي‭ ‬الضعيفة‭ ‬البائسة‭... ‬إلخ‮»‬،‭ ‬والصوت‭ ‬الجماعي‭ ‬الذي‭ ‬يقرنها‭ ‬بأمها‭ ‬وأختها،‭ ‬شريكتيها‭ ‬في‭ ‬المعاناة‭: ‬‮«‬انتهينا‭ ‬إلى‭ ‬هذه‭ ‬القرية‭ ‬مجهودات‭ ‬مكدودات‭ ‬آخر‭ ‬النهار‭...‬‮»‬‭. ‬

ولعل‭ ‬اختيار‭ ‬طه‭ ‬حسين،‭ ‬الكاتب‭ ‬الرجل،‭ ‬مقاربة‭ ‬عالم‭ ‬الرواية‭ ‬خلال‭ ‬صوت‭ ‬راوية‭ ‬من‭ ‬النساء،‭ ‬يومئ‭ ‬إلى‭ ‬مغامرة‭ ‬فنية‭ ‬أخرى،‭ ‬سوف‭ ‬تجد‭ ‬امتدادات‭ ‬لها‭ ‬في‭ ‬فترات‭ ‬لاحقة‭ ‬خلال‭ ‬روايات‭ ‬سيكتبها‭ ‬كتّاب‭ ‬روائيون‭ ‬بأصوات‭ ‬راويات‭ ‬نساء‭ (‬منها‭ ‬مثلًا‭: ‬‮«‬أوراق‭ ‬زمردة‭ ‬أيوب‮»‬‭ ‬لبدر‭ ‬الديب،‭ ‬و«كاتيوشا‮»‬‭ ‬لوحيد‭ ‬الطويلة،‭ ‬و«كقطة‭ ‬تعبر‭ ‬الطريق‮»‬‭ ‬لحاتم‭ ‬حافظ‭)‬،‭ ‬كما‭ ‬أن‭ ‬هذا‭ ‬المنحى‭ ‬نفسه‭ ‬قد‭ ‬تمثّل‭ ‬أيضا‭ ‬في‭ ‬رواية‭ ‬طه‭ ‬حسين‭ (‬الحب‭ ‬الضائع‭).‬

 

‭‬الحب‭ ‬الضائع

غامرت‭ ‬هذه‭ ‬الرواية‭ ‬القصيرة‭ ‬في‭ ‬اختيار‭ ‬عالمها‭ ‬وصياغته‭ ‬معًا،‭ ‬إذ‭ ‬شيّدت‭ ‬على‭ ‬صوت‭ ‬بعيد‭ ‬عن‭ ‬صوت‭ ‬طه‭ ‬حسين‭ ‬وإن‭ ‬تقاطعت‭ ‬لغة‭ ‬كل‭ ‬منهما‭ ‬في‭ ‬كثير‭ ‬من‭ ‬المواضع‭. ‬تمثّل‭ ‬هذا‭ ‬الصوت‭ ‬في‭ ‬بوح‭ ‬متصل‭ ‬لامرأة‭ ‬من‭ ‬الريف‭ ‬الفرنسي،‭ ‬هي‭ ‬‮«‬مدلين‮»‬‭ ‬التي‭ ‬تبثّ‭ ‬في‭ ‬دفترها‭ ‬السرّيّ‭ ‬تجربتها‭ ‬الطويلة‭ ‬التي‭ ‬بدأت‭ ‬بآلام‭ ‬وانتهت‭ ‬إلى‭ ‬آلام‭. ‬في‭ ‬هذا‭ ‬الدفتر‭ ‬تجد‭ ‬تسليتها،‭ ‬وتلتمس‭ ‬عزاءها،‭ ‬ومعه‭ ‬تشعر‭ ‬بحريتها‭ ‬التي‭ ‬لم‭ ‬تنلها‭ ‬خارجه،‭ ‬تجلس‭ ‬إليه‭ ‬‮«‬لا‭ ‬متحرّجة‭ ‬ولا‭ ‬متكلفة‭ ‬شيئًا‭ ‬يتصل‭ ‬بالزيّ‭ ‬أو‭ ‬بترتيب‭ ‬الهندام،‭ ‬إنما‭ ‬هي‭ ‬الحرية‭ ‬المطلقة،‭ ‬حرية‭ ‬النفس‭ ‬وحرية‭ ‬الجسم‮»‬‭. ‬

ينطوي‭ ‬هذا‭ ‬البوح‭ ‬الممتد‭ ‬على‭ ‬حركة‭ ‬دائبة‭ ‬بين‭ ‬الوقائع‭ ‬التي‭ ‬تعيشها‭ ‬‮«‬مدلين‮»‬‭ ‬والتأملات‭ ‬التي‭ ‬تسوقها‭ ‬حول‭ ‬ذاتها‭ ‬والشخصيات‭ ‬من‭ ‬حولها،‭ ‬وحول‭ ‬العالم‭ ‬الذي‭ ‬يحيط‭ ‬بالجميع‭ ‬بعد‭ ‬‮«‬الحرب‭ ‬الكبرى‮»‬‭ ‬التي‭ ‬فقدت‭ ‬فيها‭ ‬أخوين‭ ‬لها،‭ ‬ثم‭ ‬حول‭ ‬تجربة‭ ‬‮«‬الحب‭ ‬الضائع‮»‬‭ ‬التي‭ ‬قطعت‭ ‬هي‭ ‬الأخرى‭ ‬خطواتها‭ ‬الطويلة‭ ‬من‭ ‬الأمل‭ ‬إلى‭ ‬اليأس،‭ ‬بعد‭ ‬خيانة‭ ‬زوجها‭. ‬تتأمل‭ ‬في‭ ‬بوحها‭ ‬المتدفق‭ ‬علاقة‭ ‬الحب‭ ‬الآثم،‭ ‬وتتأمل‭ ‬كذلك‭ ‬أسباب‭ ‬العزلة‭ ‬والتواصل،‭ ‬والسعادة‭ ‬والشقاء،‭ ‬والعقل‭ ‬والعاطفة،‭ ‬والخيانة‭ ‬والوفاء،‭ ‬والعزلة‭ ‬والانطواء،‭ ‬كما‭ ‬تتأمل‭ ‬قضايا‭ ‬تجاوز‭ ‬هذا‭ ‬كله‭: ‬اختلاف‭ ‬الأجيال‭ ‬بين‭ ‬‮«‬الجيل‭ ‬الذي‭ ‬يستقبل‭ ‬الحياة‭ ‬والجيل‭ ‬الذي‭ ‬يستدبرها‮»‬،‭ ‬و«أمة‭ ‬الفرنسيين‭ ‬المريضة‭ ‬بالتعليل‭ ‬والتحليل‮»‬،‭ ‬والمسافة‭ ‬بين‭ ‬قلوب‭ ‬النساء‭ ‬وقلوب‭ ‬الرجال،‭ ‬‮«‬الأولى‭ ‬أوسع‭ ‬من‭ ‬الزمان‭ ‬وأوسع‭ ‬من‭ ‬المكان،‭ ‬هي‭ ‬تسع‭ ‬حب‭ ‬الزوج‭ ‬وحب‭ ‬الولد‮»‬‭. ‬ومع‭ ‬ذلك،‭ ‬فقلبها‭ ‬الواسع،‭ ‬وهي‭ ‬امرأة‭ ‬من‭ ‬بين‭ ‬النساء،‭ ‬سوف‭ ‬يضيق‭ ‬بانصراف‭ ‬عاطفة‭ ‬زوجها‭ ‬إلى‭ ‬صديقتها‭ ‬‮«‬لورانس‮»‬‭ (‬التي‭ ‬كانت‭ ‬قد‭ ‬فقدت‭ ‬زوجها‭ ‬بعد‭ ‬إصابته‭ ‬في‭ ‬الحرب‭). ‬تلوح‭ ‬لورانس‭ ‬مثقلة‭ ‬بعذاب‭ ‬تأنيب‭ ‬الضمير،‭ ‬وراغبة‭ ‬في‭ ‬الإصغاء‭ ‬إلى‭ ‬نداء‭ ‬عدم‭ ‬التمادي‭ ‬في‭ ‬علاقة‭ ‬آثمة،‭ ‬لكن‭ ‬نداء‭ ‬الحب‭ ‬يلوح‭ ‬لها‭ ‬أقوى‭ ‬من‭ ‬أي‭ ‬نداء‭ ‬آخر‭. ‬سوف‭ ‬تنصاع‭ ‬لغواية‭ ‬الحب،‭ ‬وتخوض‭ ‬اختبار‭ ‬الفضيلة‭ ‬والخيانة،‭ ‬ثم‭ ‬يتهدّم‭ ‬‮«‬معبد‭ ‬الحب‮»‬‭ ‬الذي‭ ‬شيدته‭ ‬في‭ ‬قلبها،‭ ‬كما‭ ‬شيدت‭ ‬مدلين‭ ‬مثيلًا‭ ‬له،‭ ‬كل‭ ‬منهما‭ ‬بطريقتها،‭ ‬لتكتمل‭ ‬أركان‭ ‬النهاية‭ ‬المأساوية،‭ ‬المشوبة‭ ‬بمسحة‭ ‬التطهر،‭ ‬إذ‭ ‬‮«‬أهدت‭ ‬كل‭ ‬واحدة‭ ‬منهما‭ ‬نفسها‭ ‬إلى‭ ‬الموت‮»‬‭.‬

مع‭ ‬الأبعاد‭ ‬الأخلاقية‭ ‬المطروحة‭ ‬في‭ ‬الرواية،
لايخلو‭ ‬اختيار‭ ‬وجهة‭ ‬سردها‭ ‬من‭ ‬مغامرة‭ ‬يختصرها‭ ‬التساؤل‭ ‬عما‭ ‬يمكن‭ ‬أن‭ ‬يجمع‭ ‬بين‭ ‬صوت‭ ‬كاتب‭ ‬مثل‭ ‬طه‭ ‬حسين،‭ ‬القادم‭ ‬من‭ ‬جنوب‭ ‬مصر،‭ ‬وامرأة‭ ‬ريفية‭ ‬من‭ ‬فرنسا،‭ ‬حتى‭ ‬وإن‭ ‬تشاركا‭ ‬شغف‭ ‬القراءة‭ ‬والمعرفة،‭ ‬والميل‭ ‬إلى‭ ‬التأمل‭ ‬في‭ ‬التجارب‭ ‬العابرة‭ ‬والمقيمة‭.‬

هكذا‭ ‬انطلقت‭ ‬روايات‭ ‬طه‭ ‬حسين‭ ‬من‭ ‬نزوع‭ ‬إلى‭ ‬استكشاف‭ ‬مساحات‭ ‬جديدة‭ ‬للكتابة،‭ ‬أو‭ ‬كانت‭ ‬جديدة‭ ‬في‭ ‬زمنها‭ ‬المبكر،‭ ‬وهكذا‭ ‬انطوت‭ ‬هذه‭ ‬الروايات‭ ‬على‭ ‬ملامح‭ ‬ومعالم‭ ‬ثرية‭ ‬أسهمت‭ ‬في‭ ‬ابتداء‭ ‬مسارات‭ ‬متنوعة‭ ‬سوف‭ ‬تمضي‭ ‬فيها‭ ‬وتستكملها‭ ‬روايات‭ ‬عربية‭ ‬كثيرة‭ ‬■