«كلوستروفوبيا»

«كلوستروفوبيا»

مكتبي‭ ‬في‭ ‬العمل‭ ‬صغير‭. ‬كل‭ ‬مَن‭ ‬يزورني‭ ‬فيه‭ ‬يبدي‭ ‬دهشة‭ ‬لصِغَر‭ ‬مساحته‭. ‬بالنسبة‭ ‬لي‭ ‬أنا‭ ‬المشغولة‭ ‬أبدًا‭ ‬الأمر‭ ‬مجرد‭ ‬هامشٍ‭ ‬هندسيّ‭ ‬لا‭ ‬يزعجني،‭ ‬ولا‭ ‬أنتبه‭ ‬إليه‭ ‬أصلًا‭.‬

منذ‭ ‬فترة‭ ‬زارتني‭ ‬في‭ ‬مكتبي‭ ‬سيدةٌ‭ ‬جميلة،‭ ‬لبقةً‭ ‬وأنيقة،‭ ‬لي‭ ‬بها‭ ‬معرفة‭ ‬سطحية‭. ‬صادف‭ ‬أنها‭ ‬كانت‭ ‬تمر‭ ‬في‭ ‬الكلية‭ ‬بمعيّة‭ ‬طفلها‭ ‬الصغير‭ ‬ذي‭ ‬الأعوام‭ ‬السبعة،‭ ‬ففكرت‭ ‬بزيارتي،‭ ‬لطفٌ‭ ‬منها‭. ‬لعشرين‭ ‬دقيقة‭ ‬أنصَتُّ‭ ‬بإخلاص‭ ‬إلى‭ ‬حديثها‭ ‬الشاكي،‭ ‬وهو‭ ‬رقمٌ‭ ‬قياسيٌّ‭ ‬في‭ ‬سجل‭ ‬اجتماعاتي‭ ‬المهنية‭. ‬خلال‭ ‬هذه‭ ‬المدة‭ ‬تذمّرتْ‭ ‬السيدة‭ ‬من‭ ‬كل‭ ‬شيءٍ‭ ‬في‭ ‬هذه‭ ‬الحياة؛‭ ‬الزوج‭ ‬والأبناء‭ ‬والمدير‭ ‬وزملاء‭ ‬العمل‭ ‬والأهل‭ ‬والطّقس‭ ‬والسياسة‭ ‬والإعلام‭ ‬والناس‭ ‬والدين‭ ‬والدنيا؛‭ ‬كل‭ ‬الأشياء‭ ‬متواطئة‭ ‬لجعل‭ ‬حياتها‭ ‬تعيسة،‭ ‬مع‭ ‬أنها‭ ‬يعلم‭ ‬الله‭ ‬إنسانةٌ‭ ‬طيبةٌ‭ ‬ولم‭ ‬تؤذ‭ ‬أحدًا‭ ‬قط‮»‬‭.‬

خلال‭ ‬وصلتها‭ ‬الطَرَبيّة‭ ‬تلك‭ ‬كان‭ ‬طفلها‭ ‬في‭ ‬منتهى‭ ‬الانضباط،‭ ‬ظلّ‭ ‬جالسًا‭ ‬لم‭ ‬يتحرّك‭. ‬بعد‭ ‬عشر‭ ‬دقائق‭ ‬تململ‭ ‬الصغير‭ ‬فصار‭ ‬يعبث‭ ‬بالأشياء‭ ‬القريبة‭ ‬منه‭... ‬بضعة‭ ‬أقلامٍ‭ ‬ومنفضة‭ ‬سجائر‭. ‬‮«‬بس‭ ‬حبيبي،‭ ‬بس‭ ‬ماما‮»‬،‭ ‬قالت‭ ‬له‭ ‬بلطف،‭ ‬ثم‭ ‬واصلت‭ ‬حديثها‭ ‬لمدة‭ ‬عشر‭ ‬دقائق‭ ‬أخرى‭. ‬عندما‭ ‬عاود‭ ‬الطفل‭ ‬عبثه‭ ‬البريء‭ ‬رفعت‭ ‬يدها‭ ‬إلى‭ ‬أقصى‭ ‬ارتفاع‭ ‬ممكن‭ ‬ثم‭ ‬هَوَت‭ ‬بها‭ ‬على‭ ‬وجهه‭ ‬الجميل‭ ‬بمتواليةٍ‭ ‬سريعةٍ‭ ‬من‭ ‬الصّفعات‭ ‬التي‭ ‬كانت‭ ‬كل‭ ‬واحدةٍ‭ ‬منها‭ ‬تدير‭ ‬كامل‭ ‬جسده‭ ‬الصغير‭ ‬بزاوية‭ ‬90‭ ‬درجة،‭ ‬إلى‭ ‬اليمين‭ ‬وإلى‭ ‬اليسار،‭ ‬وبالعكس،‭ ‬ليستمرّ‭ ‬الأمر‭ ‬إلى‭ ‬ما‭ ‬بدا‭ ‬لي‭ ‬رغم‭ ‬سرعته‭ ‬كأنه‭ ‬كان‭ ‬أبديةً‭ ‬كاملة‭. ‬لم‭ ‬يبكِ‭ ‬المسكين،‭ ‬يبدو‭ ‬أنه‭ ‬كان‭ ‬معتادًا‭ ‬على‭ ‬ذلك‭. ‬أما‭ ‬أنا‭ ‬فقد‭ ‬تسمّرت‭ ‬رعبًا‭ ‬في‭ ‬مكاني‭. ‬كانت‭ ‬دهشتي‭ ‬كبيرة،‭ ‬فلم‭ ‬تكن‭ ‬هنالك‭ ‬أية‭ ‬آليةٍ‭ ‬ممهدة‭ ‬للانتقال‭ ‬من‭ ‬مرحلة‭ ‬‮«‬بس‭ ‬حبيبي،‭ ‬بس‭ ‬ماما‮»‬‭ ‬إلى‭ ‬مرحلة‭ ‬هذه‭ ‬الممارسة‭ ‬المريضة‭ ‬المقلقة،‭ ‬التي‭ ‬لا‭ ‬تليق‭ ‬إلا‭ ‬بضباط‭ ‬مخابرات‭ ‬الجيش‭ ‬النازي‭ ‬في‭ ‬تعاملهم‭ ‬السّادي‭ ‬مع‭ ‬عناصر‭ ‬المقاومة‭.‬

بعد‭ ‬عشرين‭ ‬ثانية‭ ‬من‭ ‬التفكير‭ ‬جاءت‭ ‬لحظة‭ ‬القرار‭ ‬التي‭ ‬صدحت‭ ‬في‭ ‬رأسي‭ ‬قبلها،‭ ‬مع‭ ‬الإيقاعات‭ ‬الكاملة،‭ ‬أغنيةٌ‭ ‬عربيةٌ‭ ‬قديمة‭ ‬‮«‬أروح؟‭ ‬

ما‭ ‬أروحشي؟‭ ‬أروح؟‭ ‬ما‭ ‬أروحشي؟‮»‬‭.  ‬حزمت‭ ‬رأيي‭: ‬‮«‬أروح،‭ ‬بالتأكيد‮»‬‭. ‬لقد‭ ‬ضاق‭ ‬مكتبي‭ ‬فجأةً‭ ‬إلى‭ ‬درجةٍ‭ ‬خانقة؛‭ ‬لم‭ ‬أستطع‭ ‬ولم‭ ‬أُرد‭ ‬أن‭ ‬أقضي‭ ‬دقيقةً‭ ‬إضافيةً‭ ‬واحدةً‭ ‬مع‭ ‬ضيفتي‭ ‬تلك‭. ‬من‭ ‬دون‭ ‬مقدمات،‭ ‬تناولت‭ ‬أول‭ ‬حزمةٍ‭ ‬وقعت‭ ‬عيني‭ ‬عليها‭ ‬من‭ ‬الأوراق،‭ ‬ونهضت‭ ‬من‭ ‬فوري،‭ ‬ثم‭ ‬مع‭ ‬ربع‭ ‬ابتسامةٍ‭ ‬مُغتَصَبة‭ (‬من‭ ‬ذاك‭ ‬الصّنف‭ ‬الموجِع‭ ‬الذي‭ ‬يُسحَب‭ ‬سحبًا‭ ‬من‭ ‬الأعماق‭ ‬السحيقة‭ ‬لبئر‭ ‬الصّبر‭ ‬النّافِذ‭) ‬تمتمت‭:‬

‮«‬أعتذر‭ ‬منك‭. ‬عندي‭ ‬اجتماع‭. ‬المكتب‭ ‬مكتبك‮»‬،‭ ‬ثم‭ ‬خرجت‭ ‬من‭ ‬فوري،‭ ‬من‭ ‬دون‭ ‬أن‭ ‬أنتظر‭ ‬ردًا‭.‬

دلفت‭ ‬في‭ ‬أول‭ ‬بابٍ‭ ‬وجدته،‭ ‬وألقيت‭ ‬بنفسي‭ ‬على‭ ‬أقرب‭ ‬كرسيٍ‭ ‬فيه،‭ ‬ثم‭ ‬جلست‭ ‬أحدّق‭ ‬في‭ ‬الحائط،‭ ‬في‭ ‬محاولةٍ‭ ‬يائسةٍ‭ ‬لاستيعاب‭ ‬هذا‭ ‬الذي‭ ‬حدث‭ ‬أمامي‭ ‬لتوّه‭. ‬عندما‭ ‬انتبهت‭ ‬أدركت‭ ‬أنني‭ ‬في‭ ‬مكتب‭ ‬السكرتير‭ ‬المسكين‭ ‬الذي‭ ‬لم‭ ‬يفهم‭ ‬شيئًا‭ ‬من‭ ‬حضوري‭ ‬المفاجئ‭ ‬وجلوسي‭ ‬الصامت‭ ‬أمامه‭. ‬بعد‭ ‬نحو‭ ‬دقيقةٍ‭ ‬من‭ ‬الصّمت‭ ‬والارتباك‭ ‬المُتبادَلين،‭ ‬طلبت‭ ‬منه‭ ‬ورقةً‭ ‬وقلمًا،‭ ‬وكتبت‭:  ‬‮«‬سيدي‭ ‬عميد‭ ‬الكلية،‭ ‬تحية‭ ‬طيبة‭ ‬وبعد‭: ‬أرجو‭ ‬التكرّم‭ ‬بتغيير‭ ‬مكتبي‭.  ‬هو‭ ‬صغير؛‭ ‬صغيرٌ‭ ‬جدًا‮»‬‭ ‬■