لماذا اخترت هذه القصص؟

لماذا اخترت هذه القصص؟

بين خمس عشرة قصة انحزت إلى ثلاث منها، لما احتوت من مواضيع معاصرة ومضامين عميقة ورسائل إنسانية، فوجدتني أميل إلى حكايات سردها ثلاثة شباب يمثلون ثلاث صفائح إبداعية لمدارس عربية تشتغل بالإنتاج الضخم والأفكار والكتابات المتقدة لعمالقة كُتاب القصة ونقّادها في مصر والمغرب والعراق، ووجدت في عتبات قصصهم ما يشدني كقارئ قبل أن أكون فاحصًا وناقدًا لمحتواها، وقد استبعدت ما مجموعه ثلاث عشرة قصة أخرى احتوت على ارتباك واضح في الأصوات وتداخل المفردات: الـ «أنا»  بـ «أنت»، و«هو» بـ «هي»، و«نحن» بـ «هم»، لدرجة أن قصة لا تتجاوز المئة كلمة بها ثلاثة أصوات مختلفة تقول محتواها، بالإضافة إلى كاتب القصة، إذ يعلق كأنه في درس للبلاغة والمصطلحات ويشحن كلماته بما لا تستطيع الشخصية المنتخبة أن تقوله، وهذا ما وجب التنبيه إليه في مثل هذا النوع السردي الذي يستوجب التكثيف والاختزال، وأن يكون الثوب المختار يمثل مَن يرتديه من دون تطاول أو إسراف.
قصص (ألم، قطرات، الساعة) تشترك في مجموعة من العناصر. وهي بداية من عتباتها عبارة عن كلمة واحدة، وخزة تصل إلى القلب، إنسانية في رسالتها، وإيقاع عباراتها المُجزأة في كلمات قصيرة لمعانٍ حمالاتِ أوجهٍ، وهذا ما يجعل القارئ متحركًا في مواصلة اقتفاء الفكرة لمعرفة متى يضع الكاتب آخر نقطة في قصته. كذلك جميعها تحمل المفاجأة في نهايتها، وتطرح المزيد من الأسئلة، والقارئ له حرية الاكتفاء أو الانتقال بخياله في البحث عن: ماذا، ولماذا، وكيف سيكون الاكتمال للقصة داخل مخيلته.
بقيت العناية باللغة وسلامتها ما أوقعت جميع النصوص، من دون استثناء، مع فروق نسبية، بما يعنيه من أزمة حقيقية لدى الكتّاب تستوجب المزيد من الاطلاع والاسترشاد قبل المشاركة بنصوصهم في مناسبات كهذه أو غيرها.

المرتبة الأولى: «ألم» لحيدر البيضاني/العراق
في هذه القصة الحارقة من الداخل لكل من يسقط في منطقة نكران الجميل/ الهجر للحبيب/ الهروب وحيدًا/ نجد الشخصية تصفع نفسها على مواقفها السابقة بمجرد رؤية الشريك/ الزوجة/ الطفلة في مواجهة الشارع المقابل الذي سارت عليه من ذاق معها حلاوة الحب وعنفوانه، لكن بمجرد حصول الصعوبات/ الفقر/ العجز عن توفير ما تريد تخلى عنها بالهجر، وحطم آخر أمل تبقى في نفس توأم روحه - كما ادعى - لكنها المسافات التي نقطعها هربًا لا تعود مجددًا إلينا، فهناك من يملأ مكاننا بكل تأكيد، ونكون نحن المضحي والضحية. العمر وحده كفيلٌ بمدنا بدروس سقوطنا في قعر نار الخذلان والتسرع والتحطم الداخلي ودفع فاتورة عدم الوفاء أمام الإنسانية والمشاعر والأبوة التي لا يليق القفز من مركبها حتى لا يتسبب ذلك لصاحبها في غرق نفسه. قصة مكتملة الأركان بعناصر متوازنة ولغة محملة بمعانٍ عميقة ونهاية لا تنتهي بمجرد وضع آخر نقطة. «ألم» اللقاء الذي يأتي متأخرًا. ويحدث الاستدعاء للشيء الجميل في التوقيت الخطأ كمن وصل من العمر عتيًا وينظر إلى الشباب فلا يملك إلا الحسرة على ما فوّت منه.

المرتبة الثانية: «قطرات» لشروق إلهامي/ مصر
آخر كلمة في القصة «الحزن» وعنوانها «قطرات» وما بينهما تفاصيل لا تفضي إلا إلى هذا التسارع في هذا النص الذي يكون فيه الانتقال بين المشهد الاعتيادي لسقوط المطر على شكل قطرات إلى جوهر الحدث في البحث داخل المكتبة عن القطرات الساقطة من الكتب، العلم الذي يمكن أن ينتفع به لكنه حبيس الأدراج، بين الواقع المعيش الذي يتأثر بتغير المناخ/ الرزق المتقطع/ الإجهاد المستمر تقابله الراحة على دفعات/ العمل المتواصل لا يحمل التقدير المناسب، ومعانٍ كثيرة يمكن أن تبعثها القصة من خلال الانغماس في التأمل. 
الاكتشاف الآخر هو التحول من رؤية القطرات التي هبطت من السماء واقعةً أمام أعين الجميع وأنظارهم، إلى الكتب مصدر قطرات رغم جفاف أوراقها. هذه القطرات شفافة لا تشبه قطرات الحبر ولا أي سائل ملوّن، فقط طعمها شديد الملوحة والألفة. وهي قطرات غير مرئية إلا للشخصية المحددة في القصة، الوحيدة التي قالت كلمتها الحارقة الأخيرة «الحزن» بعد أن استنتجت من خلال بحثها عن الكتب التي تصدر القطرات لتجدها متنوعة ومتعددة لا يجمع بينها سوى هذه الصفة الوحيدة. رسالة إنسانية عميقة، ودعوة للتأمل في الداخل وليس بالقشور الخارجية لأي محتوى شاهد أمامنا.

المرتبة الثالثة:«الساعة» لمحمد بروحو/ المغرب
عتبة القصة مفردة واحدة «الساعة». الزمن الموروث/ الدقة في العمل، فاجأت المعتادين من سكان البيت سماع دقاتها وحركة بندولها لتعلن التوقف التام. الرجل يحاول الوصول إليها عن طريق السلم، فلا يكتشف الخلل فيستعين بالساعاتي الخبير، فيكتشف القطعة المتوقفة الصدئة. فهل ستعود الساعة إلى سابق عهدها بتركيب قطعة جديدة داخلها؟ هذا ما استغرق شهورًا من دون أن يصل الرجل إلى قرار. هذه النهاية من الانتظار تضع رسائل مفادها: هل الخراب إذا حدث في جزءٍ أصيل من الجسد/المكان/ الفكر يمكن تعويضه ببديل؟ فكيف عندما يكون ما تعطّل فجأة هو جزءًا أصيلًا من جسد الإنسان/عمره/ مشاعره/ ذكرياته! فهل استبدال شيء من هذه القواعد الرئيسة يعود كما كان؟! فانتظار القرار الذي لا يأتي بسهولة هو رسالة على صفيح ساخن يمكن أن تحدث لأي إنسان في هذا الكون المرتبط بالزمن والتوقيت الدقيق.